إنهيار / أحمد حسين
ولكنّني كنتُ أعيشُ معاناةً حقيقيّةً بلغَتْ أحيانًا حدّ التعاسة. معاناة مركّبة كادت طفولتي الهشّة تنهار تحت وطأة انفعالاتها العنيفة، فأولاً تلك المحاولات المرهفة والفاشلة لتصوّر العالم، وثانيًا ذلك الشعورُ بالمهانة أمام ادّعاءٍ قذرٍ كنتُ على يقينٍ تامّ من بُطلانه دون أنْ أستطيعَ شخصيًا دحضَهُ، وأخيرًا ذلك الإحساسُ بالابتعادِ والشَناءةِ تجاهَ “أكرم” الّذي أخذ يتسرّبُ إلى نَفْسي مُنذ مساءِ البارحة.
|أحمد حسين|
- سامي درويش طلب!
- حاضر.
- ربحي خالد عبد الله!
- حاضر.
- وائل ذياب الخمرة! … رُدّ! عمى في منظرك!
كانت وحشة اليوم الأول قد ذابت نهائيًا، وتأكدتُ أنَّ مدرستنا الجديدة ليست مريعةً إلى الحدّ الذي صوّرَهُ لي الوهمُ حتى صباح أمس. بل لقد استطعنا – أكرم وأنا – أن نجدَ فيها أشياءَ مهمّةً أو مسلّيةً مثل بعض الشتائم المبتكرة التي لم نكن قد سمعنا بها في شارع “الاستقلال” أو في مدرسة “الوحدة”. لذلك انتهزتُ فرصةَ انشغالِ المعلّم ومِلْتُ على أذن “اكرم” هامسًا:
- هل تسأله؟
فأجاب بصوت خفيض:
- لا، يمكن عصبي!؟
كنت أشعُرُ بنفس الشعور، فمن الحكمة التحرك بحذر في هذا المكان الذي لا يزال كالمجهول بالنسبة لنا، وربما ليس مأمونًا توجيه الأسئلة إلى معلم لم تَرَهُ من قبل. ولكنّني كنتُ أعيشُ معاناةً حقيقيّةً بلغَتْ أحيانًا حدّ التعاسة. معاناة مركّبة كادت طفولتي الهشّة تنهار تحت وطأة انفعالاتها العنيفة، فأولاً تلك المحاولات المرهفة والفاشلة لتصوّر العالم، وثانيًا ذلك الشعورُ بالمهانة أمام ادّعاءٍ قذرٍ كنتُ على يقينٍ تامّ من بُطلانه دون أنْ أستطيعَ شخصيًا دحضَهُ، وأخيرًا ذلك الإحساسُ بالابتعادِ والشَناءةِ تجاهَ “أكرم” الّذي أخذ يتسرّبُ إلى نَفْسي مُنذ مساءِ البارحة.
كان عالمنا مشتركًا، يكاد يكون واحدًا، ذات البيت، وذات السِّنّ، ولم تكن لعبة أو مشاجرة إلاّ ونحن معًا طرفها أو طرفاها، وشُهرتنا في العضّ وابتكار الألعاب وصلت آخر الشارع. ولم يكن هناك وضع للمكان أو الزمان أو الرفقة، عجزنا عن اختراع لعبة تلائمه. في الليل وحينما نكون وحيدَيْن معًا على سطح المنزل أو أسفل السلّم كنا نتحدَّثُ عن المستقبل، الذي كان دائمًا على بُعد ساعة أو يوم عنا على أكثر تقدير، وفجأة وبدون سابق إنذار يقول أحدنا:
- أنا فنجان!
فيجيب الآخر:
- أنا إبريق!
- أنا طنجرة!
- أنا برميل!
… وهكذا إلى أن يعجز أحدنا عن الاستمرار في مباراة التفوّق هذه.
ومع الوقت أصبح لنا سلاسل مولّفة من كل الأنواع، تشمل مملكة النبات والحيوان والجماد حولنا، وكان لكل سلسلة بداية دون أن يكون لها نهاية، فالبحث مستمرّ من الجانبين والمفاجآت تترأى كل يوم والسلسلة التي تقف اليوم عند التوتة تقف غدًا عند الجمّيزة، والتي يختمها اليوم الجمل يختمها غدًا الفيل. وكانت السلاسلُ تمتدُّ وتمتدُّ وتنمو كالزواحف مع كل اكتشاف جديد لأحدنا. ما عدا سلسلة واحدة.
كانت تلك سلسلة مغلقة باعتراف الإثنين، ذلك أنها كانت تنتهي بحيفا. ولمّا كان من المستحيل أن يكون هناك بلد أكبر من حيفا فقد أُهمل البحثُ في مجالها.
ولكن ذلك لم يكن يعني أبدًا توقفها عن النمو، فقد كانت هذه السلسلة مركّبة من خصوصياتنا، تبدأ بالبيت الذي نسكنه وتجوب حيفا مرورًا بجامع “الحرية” فجامع “الاستقلال” فمركز البوليس، فالحسبة، فالشوارع المختلفة، وتنتهي بذلك الاسم العظيم، حيفا! وهذه أشياء كانت كلّها تحت مراقبتنا المستمرة وكنا نراها تنمو على فترات متفاوتة ولكن باستمرار. حتى بيتنا الذي كنا نسكنه أكملوا فيه الطابق الثاني بعد أن كان أكثر من نصفه مجرَّد ساحة واسعة على سطح الطابق الأول. كان في هذه السلسلة حيويّة داخليّة تشبه الحيوية الّتي في داخلنا نحن، نحسّ بها دون أن نتتبّعها. ولكن ليس هذا كل ما في الأمر. فالمكانة الخاصة لها في نفوسنا كانت أيضًا في نموّ دائم. وعلى ما يبدو، فإنه لم يكن يمرّ يوم واحد دون أن نحبَّ حيفا أكثر، ودون أن نحسّ بذلك أيضًا. ولهذا لم يكن واردًا قط أن نلعب لعبة التفوّق هذه دون أن نبدأها أو نُنهيها بالسلسلة الحيفاوية. وحينما كنا نفعل يبدو الانفعال البهيج واضحًا في صوت الواحد منّا وعينيه، حينما يقول وهو يشدّ رأسَه إلى الأعلى رغمًا عنه:
- حيفا!
وتنغلق السلسلة، وينتظر الثاني دوره ليقول: “حيفا” في المرّة القادمة.
ومساء البارحة، كنت أنا الذي أغلقتُ السلسلةَ. أحسستُ بحلاوة الموقف قبل أن أصل إليه، وشعرتُ بالبهجة تنمو في نفسي مع كل اسم على الطريق إلى الغاية. وأخيرًا شَدَدْتُ قامتي رغمًا عني وقلتُ بذات الانفعال اللذيذ:
- حيفا!
- العالم!
لم يشدّ رأسه إلى الأعلى. ولم يقلها بلهفة وتفاخر كما يفعل الواحد منا عادةً حينما يكتشف حلقةً جديدةً. وقُلتُ باستهجان خالٍ من الغضب:
- ما هذا؟
فقد كنت واثقًا أن ما قاله ليس إلاّ نوعًا من العبث على حساب دَوْري، ولم يخطر ببالي أنه يعني أنَّ العالم أكبر من حيفا حقًا. ولكنه قال بخيبة أمل واضحة:
- العالم أكبر من حيفا.
- مجنون!!
- أخي “سليمان” قال ذلك البارحة.
- هل تصدّقه!
- إنه في الصف الخامس!
قلت باحتقار لأخيه وللعالم معًا:
- ما هو العالم؟
- بلد!
- أين هو؟
- بعيد جدًا.
- هل ذهب إليه؟
- كلا، ولكنه يعرف.
لم أشكّ للحظة في أنه يكون الأمر ممكنًا أو صحيحًا، ومع ذلك تملّكني ذلك الشعور بالمهانة لمجرد أنْ يفكّرَ أحدٌ في أنَّ هناك بلدًا أكبر من حيفا:
- أخوك وسخ!
- لا تشتمه! سأشتم أخاك أنا أيضًا.
- لا تلعب معي!
- وأنت أيضًا!
ولكننا ظَلَلْنا واقِفَيْن مطأطِئَي الرؤوس لفترة طويلة، وأخيرًا تغلَّبْتُ على كبريائي وقلتُ:
- تعال نسأل!
- من؟
- أخي.
- إنه في الصف الخامس أيضًا.
كان خائفًا مثلي هو الآخر. وقلت باستسلام مريح.
- صحيح.
وقال بتردّد:
- نسأل المعلم غدًا.
- أي معلم؟
- واحدًا منهم. أي واحد.
- من يسأله؟
لم نجب على السؤال. كان الأمر مخيفًا من أكثر من جانب واحد… السؤال، المعلم نفسه، الحقيقة..
كان المعلم واقفًا عند اللوح تمامًا وقد أمسك طبشورة في يده وهو ينظر إلينا وكأنه يقول: “انتبهوا”..
أدار ظهره ليكتب، وقلت مرّة أخرى:
- اسأله!
- لا.
وكتب المعلم في صدر اللوح بخط كبير: “دين”، ثم وضع الطبشورة من يده، ونفخ على أطراف أصابعه وقال وهو يبتعد عن اللوح إلى ناحيتنا:
- من خلق العالم!
نظرت إلى “أكرم” وقد اتسعت عيناي من الرعب واللهفة، وبدأ قلبي يدقّ بعنف مبالغ فيه.
حاول “أكرم” أن يقول شيئًا فلم يستطع، وبلع ريقه بصعوبة واضحة.
- نعم. ألله! كلكم تعرفون ذلك بالطبع، ولكن ليس هذا هو المهم الآن. انتبهوا للسؤال التالي: في كم خلق الله العالم؟
خيّم الصمت، وجالت نظرات المعلم تستعرض الوجوه، ولكن أحدًا لم يكن ليعرف.
ألله خلق العالم لأنه هو فقط الذي يخلق. هو الذي خلق الناس أيضًا. خلق الأرض والبحر والشوارع والأولاد والقطط، وخلق العالم بالإضافة إلى ذلك. ولكن متى، وكيف، وكم استغرق ذلك، فهذا شيء لم نكن نعرفه أبدًا.
وقال المعلم بتأنّ واستعلاء:
- خلق الله العالم في ستّة أيام!
ستّة أيام!… شعرت بخفّة مفاجئة لا تُحتمل، واستولى عليّ شعور طاغٍ بالبهجة يدفعني دفعًا إلى عمل طائش. أردت أن أقفز، أن أصفّق وأصرخ صرخة الانتصار المعهودة “هووو..”. ولم ينقذني من ذلك سوى إحساس بالرثاء الشديد للعالم وتلك البلاهة الجامدة التي ظلت مستولية على وجه “أكرم”. ولكزته بكوعي لكزة لا بدّ أنها آلمته:
- رأيت!!
ونظر إليّ عابسًا وليس في وجهه علامة واحدة على الفهم. وشعرت بشيء من الغضب عليه ومن أجله:
- خلق الله العالم في ستّة أيام! ألم تسمع!
وقال باستغراب أبله وهو يخفي فمه بكمّه:
- سمعت. سيرانا المعلم!
ولم يكن يهمّني أن يرانا المعلم، وقد زاد غباء “أكرم” من حدّة انفعالي، فقلت وأنا أحاول عبثًا أن أخفض صوتي:
- يا حمار. إذا كان الله قد خلق العالم في ستّة أيام، فإن “وادي النسناس” وحده أكبر من العالم.
وقال باهتمام:
- لماذا؟
قلت بنفس الحماس الأرعن، وبنفس الشعور المتزايد من الرثاء للعالم وله:
- كم بيتًا يستطيع الله أن يخلق في اليوم؟
وقال بلهجة قاطعة، ولا أدري لماذا:
- عشرة!
ولم تهمّني مبالغته، وقلت بلهجة المنتصر:
- كم عشرة بيوت في “وادي النسناس”؟
- ستة فقط!
وبدأ يحسب على ما يبدو، ولكن الأمر لم يطل به، فقال باستسلام:
- أكثر.
فصمت:
- إذن من أكبر! العالم أم “وادي النسناس”؟
- وادي الـ…
وصرخ المعلم:
- تعالا إليّ!!
كان غاضبًا حقًا. وحينما اقتربنا منه ونحن نرتجف صرخ بي:
- في كم يوم خلق الله العالم؟
فقلت في عجلة:
- في ستّة أيام.
واستدار إلى “أكرم” بسرعة، وكأنه يريد أن يفاجئه:
- ماذا فعل في اليوم السابع؟
وحينما لم يسمع جوابًا، تقدّم نحوه ببطء مرعب وقد زاد عبوسه إلى الضِّعف. وضع “أكرم” ذراعيه أمام وجهه وقال بلهجة باكية:
- كان يقول لي أن العالم أصغر من “وادي النسناس”.
وتوقّف المعلم فجأة، ونظر إليّ باهتمام، ثم قال بهدوء ينذر بوضوح بالعاصفة المقبلة:
- تنكّت! وفي درس الدين!
ولم أفهم بالطبع أين مجال التنكيت في ما قلت. وشعرت بخوف شديد لهذا الادّعاء الغامض من جانب المعلم، ولشدّة عبوسه وانفعاله. واتخذت وضع “أكرم” أمامه منذ لحظات وقلت بأمل غامض:
- والله العظيم إنه يكذب. قلت إن حيفا أكبر من العالم.
وبدا على المعلم شيء من التفكير والاستغراب:
- إذن فأنت أبله أيضًا وليس مشاغبًا فقط. اقترب!
وازددت ابتعادًا، فاقترب منّي، وتراجعت حتى التصقت بالحائط:
- من أكبر، أنت أم إصبعك؟
قلت وأنا أرتجف:
- أنا.
- من أكبر، الباب أم الغرفة؟
- الغرفة.
- كيف تكون حيفا إذن أكبر من العالم، وهي قرية صغيرة فيه، مثل هذه الغرفة التي أنت فيها الآن أيها الفأر الصغير!
وضحك الأولاد. وشعرت بفهم مؤلم يجوس في داخلي كما تجوس السكين، وبتغيّر مفاجئ في إحساسي بنفسي وبالأشياء. كل شيء صار أكبر مما هو بالنسبة إليّ. وبدأت أبكي.
- تبكي أيضًا! إذا لم تكن فأرًا فأنت صرصور حتمًا، لأنك أبله ومزعج كالصراصير.
وظللت أبكي إلى أن فقدت المقدرة على التوقف، وعبثًا حاول المعلم إسكاتي. وبعد انتهاء الحصة حاول بعض الطلاب تعزيتي، فشتموا المعلم شتمًا عنيفًا دون أن يعرفوا لماذا كنت أبكي.
* من كتاب “الوجه والعجيزة” – (مجموعة قصصيّة – 1979) للأديب الفلسطيني أحمد حسين.