الشاعر سامر خير في مجموعته “لا اسم لي إلا ابن آدم”/ أحمد دحبور
يستبشر هذا الشاعر بالموت، بعيدا عن العدمية واليأس، وقريبا قريبا من وعي أنّ الحياة تستحق أن تعاش، وليس الموت إلا علامة على الطريق
.
|أحمد دحبور|
يا الله.. متى قفز إلى الثانية والأربعين فاستوى رجلا ناضجا، هذا الفتى الذي رأيته أول مرة في حيفا منذ عشرين عامًا أو أكثر؟ ولكن فيم الدهشة، وأنا بدوري لم ابدد وقتي خلال هذا العمر، فها آنذا في اواسط العقد السابع، أتأمّل متابعا مطالعا، وها هو ذا سامر خير في مجموعته الشعرية العاشرة يهمس في ذاكرتي: لا اسم لي.. إلا ابن آدم، فكم جرت تحت جسور العمر من مياه، وكم طرحت الحياة علينا من أسئلة؟
في الجليل الشماليّ، في قرية المغار تحديدًا، رأى سامر بن صالح خير طلة النور أول مرة عام 1971، وما أن تفتح وعيه على الحياة حتى ادركته صيحة الشعر، فلم يكد يبلغ الحلم حتى أصدر مجموعته الاولى «من كل جرح قطرة». ثم تدفقت أعماله الابداعية تباعا، فأصدر أعماله الشعرية: تقاسيم على عود الجرح؛ لم أولد لأموت؛ لن يعيش حياتي سواي؛ المكان يغادرنا كالغيوم؛ أعود مثل غيمة إلى الشجر؛ اخرجوا من سنامي الثقيل؛ أزهار الخراب وأخيرًا هذه المجموعة التي أمامي بعنوان «لا اسم لي.. إلا ابن آدم». وكما هو ملاحظ مبدئيًا من مجرد قراءة هذه العناوين فإنّ سامرا يقدّم صوته من خلال الصورة الشعرية والحساسية الفنية المرهفة، على دهاء عفوي مبرأ من الضجيج والزفة الاعلامية.
وفي اهدائه الي نسخة من مجموعة اعماله الناجزة، يذكرني بأنني والد صديقه، في اشارة لماحة إلى فارق العمر بيننا، مع ان لسان جيله لا يعترف بالعمر بل يترك للحياة ان تقول كلمتها في هذا المشهد المتحرك، حيث يجمع الانسان إلى الانسان انه مجرد ابن آدم، فاذا اضيف إلى هذا النسب الكوني اننا، معا، فلسطينيان من الجليل، وجدنا اواصر القربى بيننا تمس الروح والمصير.. فماذا ينبئني من خلال اشعاره قريب الروح والمصير هذا؟
بلا تسلسل زمني
لن اتناول اشعار سامر خير حسب التسلسل الزمني لتواريخ كتابتها، ولذلك سببان: الاول انه رتب اشعاره ضمن «الاعمال الشعرية الناجزة» هكذا، والثاني ان مشروعه الفني لا يخضع لقوانين التطور والنمو التقليديين، بل هو يكتب طارحا حسابات التواريخ وراء ظهره، تاركا للنص ان يقدم شهادته على صاحبه.. وانه لفأل فني حسن ان تكون اولى المجموعات التي يقدمها، بعنوان “الشاعر يريد تغيير القصيدة”، فهو لم يبدأ في هذا الكتاب من اول السطر، بل ينطلق فورا، وكأنه يتابع حديثا سابقا، إلى رغبته في التغيير، ومن يدري، فلعل السمة الاساس للشعر الحديث هي النزعة المستمرة إلى التغيير، بمعنى التجديد، والشاعر لا ينفرد بهذه الرؤيا، بل يترك للقارئ تقدير المشهد، ويفتح عليه نار الاسئلة:
تخيل لو انك كنت مكاني
فكيف إذن ستراك؟
وكيف إذن ستراني؟
بهذا الافتراض المشروع يقتحم عالم قارئه، لا ليبلغ اليه رؤيا خاصة او مختلفة، بل ليتفهم حالة الاختلاف التي تحكم علاقته بالآخر الذي هو القارئ في هذا السياق، ولهذا فلا يتورع او يتردد عن مجابهة القارئ، معلنا انه مستغنٍ عن دموع الشفقة، معتصم بزمانه الذي قد لا يكون بالضرورة زمان الآخرين حتى لو كان هؤلاء الآخرون ابناء قابيل كما هو الشاعر، فلا بد من صدمة الاختلاف، لا بعدوانية وجفاء بل يتعفف عن طلب الشفقة:
ولا تبك.. قابيل!
لا تبك، دع لي زماني
وخذ ادمعك
وهكذا تتضح العلاقة المفترضة، فهو ليس مفارقا للآخر الذي يربطه به نسبهما المشترك مع قابيل، ولكنه ابن زمان مختلف، ومن حقه الوجودي ان يعيش زمانه الخاص بشروطه الخاصة والا فكيف تستمر الحياة خارج هذه المعادلة؟
شعر أم قصائد؟
ويجنح هذا الشاعر إلى مواربة علاقته بالقصيدة حسب الحجم الشائع للقصائد، فهو لا يعتمد القوام المتفق عليه ولا يستبدله بالمقطع الشعري المكثف، ذلك أنه غير مشغوف بالبناء الدرامي الذي تميل اليه قصائدنا المعاصرة، وفي الوقت ذاته لا يركز على البطاقة الشعرية التي تكاد تكون قصيدة مصغرة او مضغوطة. ومن القصائد المقصودة بالبناء الدرامي، تلك التي ورثناها مع بدايات الشعر الحديث عن السياب وخليل حاوي ونزار قباني وغيرهم، فيما كان يمثل البطاقة الشعرية، ادونيس في اغاني مهيار الدمشقي، اما محمود درويش فقد نهض بالقصيدة المركبة حتى تكاد تكون صورة عن الملحمة الشعرية، مع رافد غنائي فرض امتداده على جيل كامل من الشعراء.
في حالة شاعرنا الشاب سامر خير، تزاوج القصيدة بين ان تكون بطاقة قائمة على فكرة مكثفة، وبين الخطاب الشعري السائد الحافل بالغنائية والدرامية، الا ان قصيدته، المكثفة غالبا، لا تتمحور حول بناء جاهز تقفله مفاجأة، بل تبدو كأنها مسترسلة شأن الشعر الغنائي مع انها محدودة الحجم، بحيث لا ترتوي من هذا الشعر الا بعد قراءة المزيد منه. ومع ان سامرا يسمي الكثير من مقاطعه الشعرية قصائد، غير انها ليست قصائد بالمعنى المتعارف عليه الا اذا اعطيناها صفة القصائد مجازا، او اذا نسبناها إلى القصائد بوصفها شعرا، مع الاعتراف بأن ما يكتبه سامر خير هو شعر.. وشعر جميل بطبيعة الحال، خذ على سبيل المثال هذا المقطع:
يتعانق سقف البيت،
مع المصطبة السمراء
اسكن في البيت المهدوم،
انام على التخت المكسور،
واغلق بابا مخلوعا
وهذا كل شيء، الا ان «هذا» ليس قليلا، فهو مقطع متقشف بالتفاصيل والمفردات، وهو بفكرته المركزية المبنية على الصورة المشهدية، يظل شعرا حتى ولو لم يطاول القصيدة. كما انه ليس مجرد بطاقة شعرية، فهو خطاب يعد بالمزيد..
وعلى هذا القياس يتقدم النص، حتى ليحار الناقد في تصنيف هذه المجموعة: أهي قصائد ام انها شعر وكفى؟ على ان الحصافة الموضوعية تقضي بالاشارة إلى ان هذه طريقة في التعبير، يعرفها الشعر الحديث، وهل سامر خير الا احد ابناء الشعر الحديث؟
وأنشد يقول
وما دمنا على ارض الشعر، فماذا عن النشيد؟.. صحيح ان هذا السؤال ما عاد ضروريا هذه الايام، حيث تراجعت آلية النشيد في الكتابة الحديثة، لصالح الاسئلة الفكرية او ما شابه.. لكننا في قراءة سامر خير نرتطم بمختلف اشكال القول الشعري، هل تريده على النظام البيتي؟ فخذ هذا:
اذا الحكام ما اعطوك وعدا
فخذه وخذ عليه ما يزيد
ام تريده شعرا مرسلا موزونا من غير قافية، بلغة الحياة اليومية ولكنها مترعة بالشعر؟ فهاك:
في المدن المكتظة بالأصوات
من ينتبه لنافذة في رابع طابق
من ينتبه لغيم مرّ علينا؟
اما اذا رغبت في الطلاق من الوزن، فها هو يتوسل النثر ويعوم على سرد تقريري، لكن مع الاحتفاظ بورقة الشعر من خلال المفارقة والسخرية، كما في هذا السياق:
اذا كان لا بد من محاكمة بن لادن
فلماذا لا يحاكمون مهرجي هوليوود
الذين دمروا نيويورك عشرات المرات؟
ام لعلك تسأل عن قصيدة النثر الممتدة على بياض الصفحة، اشبه بالمقالة الصحفية او الخاطرة؟ فقد تمادى الشعر في البحث عن اشكال صادمة او مجافية للسائد، واصبح طبيعيا ان تجد مكانا للشعر حتى في هذا الكلام السائب:
في وقت الأزمات كان المغلوبون على امرهم في انجلترا موقنين تماما بالعودة القريبة للملك آرثر من البحيرة المسحورة حيث تحرسه الجنيات او من الكهف الفضائي الذي يختبئ فيه منذ مئات السنين.
ولعلنا نلاحظ حرص الشاعر على الاستغناء التام. في هذا الكلام تحديدا، عن علامات التنقيط فلا فواصل ولا نقاط ولا اشارات استفهام، انه نثر الحياة حتى لو استلهم التاريخ او الثقافة او التداعي، فهذا الشعر المضاد للشعر، يكتسح القواعد والشروط المسبقة ويستبقي الحياة بوصفها الموضوع الأكيد لمن يريدها حقا، ولأنه يمضي اليها بلا كوابح او حسابات فانه في الطريق اليها، يقول ما يشاء كما يشاء، ولا تسأله عن النشيد، ففي هذا الشعر المختلف له ان ينشد او يزعق، او يخلد إلى الصمت.. على انه يظل مخلصا لجوهر الشعر.
حالة اشتباك
ولأنه ابن زمانه كما افاد في شعره غير مرة، فهو لا يمر برفق على ما يرى، بل يتأمل ويحاور ولا يكف عن طرح الاسئلة، ولو اراد، مجازا، ان يتجاهل العالم فان هذا العالم يدركه بقسوة ما يجري مع فلسطيني معاصر:
صدمت بارودة جبهتي الطالعة من الرماد
ودفعتني
إلى بيت الخوف
وليس الخوف مأواه، اذ هو محكوم بالاشتباك والتقدم: لا تخف، وسر على رجليك انت – واقفا تنظر للأمام لا الوراء، واذا كان منفيا، وانه لكذلك، فله من الصوت المقاوم فيه ان يصرخ به: لا لست من هنا بعيدا، ولعله يعمل بوصية المفكر الفرنسي ألبير كامو الذي ختم كتابه الشهير، العبث، بصرخته العنيدة: علينا ان نتخيل سيزيف سعيدا، وها هو سامر يردد الصدى الوجودي:
سيزيف السعيد انا
وهذه صخرتي
كل مرة اراها لأول مرة
فهو لا يكتفي بتأبط صخرة الهموم الكبرى، كما كان الأمر في اسطورة سيزيف، بل أنه يختار هذه الصخرة ولا يبدد الدهشة باكتشافها الدائم، حيث يراها كل مرة كمن يراها اول مرة، وهو متجذر في التربة كالشجر، حتى انه يعطي ثيابه مقاربة من الطبيعة، فاذا كان شجرة او كالشجرة، حق له ان يقول:
ضيف انا
بين لحاء هذه الثياب
ولأنه على هذا المستوى الحميم من العلاقة مع الطبيعة، فانه يسرّ للعالم بكينونته الملتحمة بالأرض:
اريد التقاط صورة لسقوط ورقة
وهو لا يلتقط صورة تذكارية لورقة الشجر وحسب بل يمضي إلى العاصفة الرملية الشديدة:
اريد ان امسك بكثيب رمل
وتستمر المقاربات التي تشد اواصره إلى الطبيعة، فيقول في نص آخر: هذا الجالس كالغصن على الشجرة، او في نص لاحق: انا الضيف كشجرة طائرة في هذا العالم.. على ان هذا التوحد الصوفي بالطبيعة ليس مجرد تمجيد لعبقرية الارض بقدر ما هو اعادة صياغة لإيمانه بالعالم وقد اكتسى روحا وطنية، هوذا يحاور الزيتونة:
أجثو على جذعك
وأمسح بلساني
قطرة زيت ذرفتها عينك
فهي زيتونة الذاكرة، وعلامة البقاء على هذه الارض التي لم تكن اي ارض.. بل هي فلسطين.
دلالة النشيد
وأستدرك فأوضح بجلاء ان هذا الشاعر لا يمكن، ولا احسبه يرضى ان ندرجه في خانة «الشعر الوطني» بالمعنى الخطابي المباشر للكلمة، فمما لا شك فيه انه فلسطيني مولود في الجليل ولا يزال هناك، الا ان خطابه يتعفف عن الدخول في التفاصيل، ولعلي اذكر ما قال لي بانفعال، وكان لا يزال ابن بضعة وعشرين عاما: انا لا اطيق الشعر السياسي واشعر انه يسطح انفعالاتنا الوطنية! ومع ذلك، يلحظ القارئ من غير عناء ان غنائيته الشعرية مستمدة من تضاريس هذه البلاد وخصوصيتها، فهو ينشد لا ليطرب ويشجي، بل ليقرأ روحه في هذا الوطن الممتد اشبه بنشيد سرمدي. وللمناسبة، فان وقوع هذا الشاعر الجليلي في الطائفة الدرزية قد اتاح له مستوى باطنيا في فهم الاشياء، لا بالمعنى الماكر الخبيث لا سمح الله، بل بمعنى النفاذ إلى جوهر فكرة الوطن والتوحد بالعالم، وتلك هي، على ما أرى، دلالة النشيد..
امواج الرمل، اراها مكبوتة
في طفل يحمل تابوته
وحين يستبطن الشاعر حتى كثبان الرمل، فيفجعه ان يراها علامة على موت الطفولة والاطفال، فانه يكون شقيا بما يعرف، معذبا بما يرى، وإلى ذلك فهو لا يملك الا ان يرى..
انه ليعترف بحياة دفينة، تحت هذه الحياة التي تطالعنا في مظاهر الوجود، فهو بهذا المعنى يعيش حياتين، حياة يستهلكها كما يحدث للبشر جميعا، وحياة جوانية تستبصر هذا الوجود وتأخذ منه موقفا او مواقف متباينة:
هذي اذن حياتي الدفينة،
الآن اعود مثل غيمة إلى الشجر
كأنني ما كنت من قبل،
ولم أصر إلى ثمر
والمتمعن في هذا الشعر، يدهشه ولا شك هذا الحلول المستدام في الطبيعة، فهو تارة غيمة، وتارة شجرة، ودائما شاعر نعرفه يوقع اناشيده باسم سامر خير..
ولا يذهبن بنا التوجس إلى حد الظن بأن شعره صعب معقد، ذلك ان اصعب ما في هذا الشعر هو افراطه في الوضوح والشفافية، وما مراوحته على مستوى الشكل بين الموزون وغير الموزون، مع احتفاظه بالنبرة الغنائية الشيقة، الا احد مظاهر شفافيته وتلقائيته..
مستبشر بالموت
وكأيّ كائن طبيعي، يحب شاعرنا الحياة، لكنه يتعالى على الخوف من الموت، لسبب عفوي هو ادراكه بأن الموت غاية في كل حي، ولا فرق ان يأتي بعد شيخوخة أو أن تأتي به رصاصة. فهذا الموت عتبة الحقيقة، وإذا كان اجتياز العتبة على قدر من التراجيديا فإنّ إيمانه بمن يبقى من البشر يتجاوز الآلام التراجيدية، ويمضي اليه بالابتسامة حتى لو كانت مستريبة:
بين ثقب الرصاصة في وجهه،
وابتسامته المستريبة
قبلة
لم تزل في شفاه الحبيبة
ولولا هذا الرهان على القبلة التي تكاد ترتقي إلى مشارف الخلود، لكانت الحياة البشرية مجرد شقاء وبؤس، ولهذا -واستعيد عبارة كامو- علينا ان نتخيل سيزيف سعيدا.. ان سيزيف الموعود بالخلاص من صخرته، لا يجد وقتا للشكوى من العبء الذي يبهظ كاهله وروحه، فليس له إلا ان يواصل الصعود وبهذا يضمن سعادته الأكيدة.
وهكذا يستبشر هذا الشاعر بالموت، بعيدا عن العدمية واليأس، وقريبا قريبا من وعي أنّ الحياة تستحق أن تعاش، وليس الموت إلا علامة على الطريق.