الموت في علبَةِ كبريت/ أحمد كيّال
. |أحمد كيال| في هذا الفضاء الخارجيّ والوحشيّ, بعيداً ع […]
الموت في علبَةِ كبريت/ أحمد كيّال
.
|أحمد كيال|
في هذا الفضاء الخارجيّ والوحشيّ, بعيداً عن الحضارة، أبعَد ما يسمح بهِ حرّاس الحدود، في أحد أحراشِ شماليّ البلاد، كانت السماءُ صافيَة بلوريّة لا شيء يعكّرُ ارتعاشَ النجمات في هذهِ الخِلوة سوى وتيرة صوت معول ينهَشُ الأرض. يحتفي المعدِنُ الصدئ بالتراب. يستوحي المشهد أحَد الطقوس السحيقة التي مارسها العَرَب فيما مضى. تتوقف وتيرة ضرب المعول في الأرض لتُفسِحَ المجال لالتقاط بعض الأنفاس بين حبّات العرَق المتَطايِرة. يهمِسُ أحدهَم:
“تحرَّك! ما بتحسّ إلّا والشمس طالعة. بدنا نلحق نحرقها وندفنها قبل ما حدا يشوفنا.”
▪ ▪
“بتعرفي إنّي بحبِّك؟” يقبِّلُ أنفَها.
“زينة، إشتقتلِّك. ومش عارف شو أعمَل بلاكِ. بقعُد بستنّاكِ كثير تشوفِك شويّ… سرقة.”
“وأنا بحِبَّك” تصمُت زينة، وتحدّق في الفراغ. كانَ هذا أكثَرَ ما يوجِع.
زينة تلتقي بهِ كلّما سنحت الفرصة، ولم تسنح الفرصة كثيراً. لم تسنح بما يكفي. كانت دائماً تختلق القصص لعائلتها: “تأخّرت بالتعليم، إنجبرت أروح عَ المكتبة” أو “كنت عند صاحبتي.” عادةً ما تُعدّ مثل هذهِ القصص يوماً قبل أيِّ لقاء. وتتأكّد من حصول القصّة التي سترويها فعلاً لكي تضمن سرقة ساعة أو أكثر لها ولحبّها.
تذكُر زينة أوّل قبلة. تذكُرُ الدفء وطعمَ اللعاب. كانت كالصلصة الحارّة على شفتيها لكن شهيّة. تذكُرُ ارتعاش جلدها كأنّ موجة صغيرة سّرت من ثغرها إلى باقي جسَدِها. كأنّها قبّلت بطّارية, تذكُر طعم الشحنة على لسانها. سَرَت الموجة وغطّت وجهها وانتقلت إلى قشرة رأسها، كأنّ قطيع خيولٍ صغيرًا كان يركض بين خصَلها. انحدرت الموجة وسالت على جسدها، على صدرها, بدأت تتنفّس بسرَعة، تسارعت دقّات قلبها. وأحسّت بزهرتين تتفتّحان على نهديها. انحدرت الموجة أسرَع، وبدأت تحسُّ بخَفَقان بينِ فخذيها ورطوبة خفيفة. كانت خَصْبة.
وحيدة في غرفتها. تحمرُّ قليلاً حينَ تذكُر وتبتلِع لعابها. تحلُم زينة في غرفتها بالمساحات العاطفيّة البعيدة. تحلُمُ في سرّها. بنزهة معهُ في أرضٍ خضراءَ، غطاءٍ أصفرَ والسّماء. أن يضع رأسه في حضنها ويخبرها كم يحبّها. لا يهمّها كم بقدرِ ما يهمّها أن يحبّها فعلاً. تُريدُ ذاك الأمان. أو أن تمشي معهُ في إحدى الجادات، تحتَ ذراعه، يأخذها إلى عشاءٍ حيثُ يلبسُ الجميع الملابس الأنيقة وأن يروها معه وأن تراهُم يرَوها وأن لا يهمّها أحد. لا. ليسَ في الحُلمِ ابتذال. تريدُ السّعادة.
تسمَعُ زينة صوتَ أخيها في الأسفَل: “وينها؟ ناديها لهون! بدها تفضحنا؟! لألعن ربّها!”
شيءٌ ما يسقُط داخِلها. تحسّ بانقباضٍ عنيف في صدرها. شيءٌ ما يهفِت. كأنّها وقَعَت. إنّها النهاية. تحسُّ بأعضائها الداخليّة جميعها تتسارع في آنٍ واحد في اتجاهاتٍ مختلفة، تتخبط، تتخابط أعضاؤها داخلها كرَفسات حصان طائش. تتشبّث زينة بإحدى الوسادات وتحاولُ حماية نفسها حينَ يركل أخوها الباب بقدمه. يعلو الاحمرار وجهه ويزعقُ كصفّار البواخر:
“ولِك إنتِ شو؟ إنتِ شو عملتِ؟!” يصفعُ وجهَه.
يرفس خزانة الملابس. يبدو كالكلبِ المسْعور حينَ يُحشَر في زاوية. ينقضُّ على زينة. تحاول زينة تفاديه. تحاول زينة حماية نفسها بالوسادة. تحاولُ دفعَهُ عنّها بقدميها. يأتي أبو زينة مُسرعاً، ويسحبه من غرفتها.
“إنتِ شو بتعمَل يا حمار؟!”
“مش عارِف شو بنتَك عملَت؟”
“شو بدها تكون عِملَت؟”
ينظُر أخ زينة إلى زينة بحقد، كأنّه يحاولُ خنقها بنظراتِه. تحاول زينة تفادي نظراته. يشحطهُ والدهُ إلى خارج الغرفة ويغلق الباب خلفه.
تنهارُ زينة. تنهارُ داخلها. تنكَمِشُ داخِلَ جسدها وينكَمشُ جسدها عليها. تبكي. لا تملُكُ سوى البكاء.
تسمَعُ الصياح في الخارِج. كلامٌ مُبهَم. لا تفهَمُ شيئاً. يعلو الصياح. يهدأ. شيءٌ يُكسَر. شيءٌ يُضرَب. سكوت. هدوء لزِج يعبَثُ بزينة; حينَ تختَفي الأشباحُ الخارجيّة، تخرج الأشباح الداخليّة. تِلكَ الّتي نخلِقها. تسرح في ما قد يكون حدَث، والأهَمّ، ما قد يحدُث.
يُفتَح الباب. تُطِلّ أم زينة. تتظاهر زينة بالنوم. تتظاهر بأنّ أحداً لا يراها. بأنّها في عُلبة كبريت قُذِفَت إلى الفضاء، تسبَحُ بينَ النجوم. يأتي أبو زينة أيضاً، يلقي نظرة:
“إتركيها وفوتي نامي”، ويغلِق الباب.
ينزِل إلى المطبخ. يداهُ ترتجفان، يُعِدّ القهوة. يفكِّر. يُفكِّر ويشرب القهوة. يُفكِّر ويشرب القهوة ويُدخِّن. يحاوِلُ أن يهدأ. يحاوِل أن يطفئ غضبه بينما يعصُر السيجارة.
يذكُر زينة في الثامنة من عمرها, حينَ وقعَت وأصيبَ رأسها. كيفَ ركَض إليها حينَ رأى الدمّ وأخذها مسرعاً إلى أقرب عيادة لتقطيب الجرح. يذكر الفخر الّذي أحسَّ به في أوّلِ مرّة قالت “بابا” كم احتضنها وقبّلها. تدمعُ عيناه. ترتجِفُ يداه، يُخرج سيجارة أخرى. يذكُرُ خطواتها الأولى، المشية المضحكة كالإوزّة. كيفَ كانت تستديرُ إليهِ وتضحَك، تكشف عن سنّين اثنين. زينة. تشتدُّ قبضتهُ. فجأة يصغر البيت, يكبُر الغضب داخله، يتّسِع، يلامِس الجدران، يضيقُ بهِ البيت. يمضي إلى الباب، يفتحهُ ويقفُ عندَ المدخَل. ينظُر إلى السماء. السماءُ صافيَة بلوريّة لا شيء يعكّرُ ارتعاشَ النّجمات.
في صبيحة اليوم التالّي، تشرق الشمس بتقاعس، كأنّها ترفُض أن تعلو. لا حراك في المنزل. إستنزفت الليلة الفائتة الكثير واستوطنَ هدوءٌ ثقيل غرفةَ زينة. يُسمَع صوت الباب يُغلَق وكرسيّ يُزاح في الأسفَل. أحَدهُم قد عاد من الظّلمة.
في أحَد المواقِع الإخباريّة المحليّة: “العثور على جثّة إمرأة مجهولة من قِبَل متجوّلين في أحَد…”
تقرأ زينة الخَبَر في غُرفتها، يُطرَق الباب، يُطلُّ أبوها:
“لازِم نحكي يابا.”
25 ديسمبر 2011
مدهش هذا النص رؤية وجماليات
2 ديسمبر 2011
أبريشي،
القصّة فعلاً تنتهي بموت صبيّة. الصبيّة اللتي يَتِم التلميح عنّها في بداية القصّة. القصّة هي طرح لقضيّة المتواجدة في مجتمعنا ومهمّشة والقصّة لا تقتصر فقط على النساء اللواتي يقتلن، إنّما المحتجزات داخل حدود من الخوف أو الكَبت.
حاولت أظهر التطابق بين قصّة زينة وقصّة المجهولة اللتي تقتل. وحقاً من الرواية التَوَقُع يكون موت زينة في النهاية، دليل على تشابه الرواية مع رواية اللواتي يُقتَلن.
قصّة زينة كان ممكن تكون قصّة أيَّة بنت. في النهاية حبيت أطرح طريقة تعامُل بديلة.
“لازِم نحكي” – شخصياً، أشعُر بوجود فجوة كبيرة نتيجة إنعدام الحوار “الشخصي” والقريب بين الأهل وبناتهم وأبنائهم عند شريحة غير صغيرة من مجتمعنا. وكثير من مشاكلنا هي نتاج هذه الفجوة. الصمت يتيح العزلة والإحساس بالتغريب بين الأهل وبناتهم وأبنائهم.
29 نوفمبر 2011
لا تقتصر جماليّة النًّص على جمال وجودة وضرورة الأفكار المطروحة وحسب، وإنّما يأسرنا إبداع “أحمد كيّال” في توظيف أسلوب قصصيّ لايصال أفكاره… يجعلنا “أحمد” بأسلوبه نفهم الفكرة ويعيّشنا في أجواء من الإثارة والغضب والقلق والخوف والغيظ والإحباط والحيرة وتخبّط القيم التي نعيشها كأبناء للمجتمع العربيّ في الحياة الحقيقيّة إن كنّا مجرمين أو ضحايا، ويحرّضنا “أحمد” بأسلوبه هذا بقصد أو من دون قصد على الحراك والبحث والتّفكير مجدّدًا ومليّا في آفاتنا الفتّاكة…
عزيزي “أحمد”، هذه القصّة دليل ملموس على أهمّيّة الأسلوب التي لا تقل أبدًا عن أهمّيّة المضمون.
دمتَ ودام إبداعك!
29 نوفمبر 2011
قبل وصولي الأسطر الأخيرة كدت أظن النص كلاسيكياً سينتهي بموت الصبيّة،،
لكنك أحسنت إنهاءه وتركته مفتوحاً، مقتصراً وصفك في النص على جزء صغير جداً من المعاناة التي تمر بها فتياتنا في ظل مجتمع ذكوري مريض، وكأنك تقول والباقي أعظم..
أحمد كيّال وصلت الفكرة، مجتمعنا بحاجة لنصوصك، أمطرنا.