وهج الروح والمعنى/ محمود الورواري
لمروان مخول نافذته الخاصة التي يطل منها على الحياة، والتي تتمثل في القصيدة بالصورة الشعرية شديدة الخصوصية، بالصورة الممتدة غير المبتورة، صورة كليةُ تصل إلى حدّ رسم مشاهد كاملة
وهج الروح والمعنى/ محمود الورواري
|محمود الورواري|
وأنا أجوب ببصري عبر ذلك الفضاء الوهمي الذي هو الانترنت وقعت عيناي على خبيئة/هدية من صديقتي الفلسطينية التي تعرفني مريضًا بالشعر: مقطع فيديو لقصيدة بعنوان “الحذاء الوطني”. لم ألتفت في البداية لاسم الشاعر بقدر ما شدّني اسم القصيدة. على الفور أطلقت العنان للصوت ونزعت برفق الشريط الذي حزم الصورة فانطلق الصوت المحمل ببحة الشعر الحزين. أوقفت الصوت لبرهة لأسترجع ما قاله لي ذات لقاءٍ قلقٍ الراحل الدكتور مصطفى محمود حين التقيته وأنا لمّا أزل غضًا في الثانوية العامة وفي يدي قصة قصيرة لأعرضها عليه. ولما طلب مني أن أقرأها غبت لبرهة في غياهبها وعدتُ من قراءتها فسحبني من يدي إلى فضاء أحد الشوارع المتفرعة من شارع جامعة الدول العربية في القاهرة، وقال لي: “يا ابني كما في لغتنا نحن الأطباء أنّ لكل مرض عرضًا وظواهر تدلّ عليه، هذا ينطبق أيضا على لغة الأدب؛ أولها حين تسمع نبرات صوت أديب أو مبدع أو فنان فستجده لا يتكلم فقط بحباله الصوتية بل يتكلم بكلّ ذرة في كيانه وهؤلاء الذين يحملون مشاعرهم فوق جلودهم.”
حكم..
من وقتها تعلمت أداة جديدة يمكنني عبرها أن احكم على مبدع أو فنان عبر نبرة صوته. ولما درست النقد وتخصّصت فيه في أكاديمة الفنون وجدت ثمة مرجعية لذلك فيما يتعلق بدراسة سيكولوجية المبدع عبر كمّ الدفق الخارج من وجدان المبدع عبر صوته وتعابير وجهه.
تيقن لي عبر أول فانوس أنّ ذلك الصوت يحمل بصمة مبدعة ففككت قيد الصوت ورحت أستمع:
“رفيقَ دربي يا حذائي
يا يدي اليُمنى
تراكَ قد شَبّثْتَني بالأرض يا
أوفى من التجّارِ يوم النكبة المُرّةْ.
معًا.. أسيرُ حيث تبغي
بَيْدَ أنّي لا أريد المشي نحو الشّرقِ
قد جرّبتُ أهل الضّادِ في الماضي بلا جدوى
وما الجدوى من الماضي سوى درسٍ
يُعيدُ لي صوابي من جديدٍ، فاغِرًا
فَمَّ الأمامْ؟
لا شرقَ في الشرقِ
أيا نعلي..
فلا تمشِ وقِفْ!
يكفيك أنّي عارِفٌ كَسري الذي
طيَّبتُهُ، حتّى أُطِل كيفما أريدُ
أو يريد لي
معنى التّمام.
أرجوكَ لا تفهَمْ ندائي عكس ما أعني؛
لا تلتَفتْ للغرب إن شَبَّ الغياب
ها وُجهَتي في أنَّني ابنُ المكانِ قاعِدٌ
دربي ثباتٌ في الخُطى لا في الكلام”
أعرف أنّ هناك من سيقول لما اخترت هذا الجزء الطويل من القصيدة؟
أقول ذلك أول مقطع لها، استهلالها، هو المقطع الذي لا يحتمل البتر منه، أي أننا أمام شاعر ذي نفس شعري ممتدّ، وقصيدة لا تخرج دفقتها كلمات مبعثرة تتكئ على الموسيقى وحدها وإنما تُخرج دفقاتها بناءً متكاملاً يمكن أن تُؤخذ بمعزل عن بقية أقرانها لتكون قصيدةً في حدّ ذاتها، كالمهندس المطالَب ببناء مدينة صغيرة فينجز مشروعه على مراحل، كل مرحلة بيت قائم بذاته حتى إذا تجاورت البيوت أصبحنا أمام مدينة سكنية متناسقة.
هذا النفس الطويل لم يحظَ به سوى الشعراء القلائل منهم الراحل محمود درويش الذي إذا بدأت القصيدة أخذت تفريعات بنائية وراحت تتشكل من ذاتها حتى لتصبح مَعلمًا. رحت ابحث عن ذلك الشاعر وعن اسمه، مروان مخول، وهل ثمة علاقة حقيقية بينه وبين درويش غير تلك العلاقة التي تلمستها أنا في شعره، فوجدت ما قاله درويش عن ذلك الشاعر: “لفلسطين شعراء شباب، أحدهم قلق ويعجبني، اسمه مروان مخول”.
هذا ما قاله محمود درويش عن مروان ومع بعض البحث وصلت إلى ما قاله مروان عن درويش رثاءً:
“إصعدْ سَماءكَ وارمِ لي حبلاً، أُعلّقُ ما كَتَبتَ مِن الملاحمِ
كي تَمُدَّ الفوقَ بالمغزى.. وكي يتنوّرَ الشيطانُ
علَّ إلهكَ الفرحانَ يغفرُ ما لآدمَ من ذُنوبٍ، لا تَخُصُّكْ.”
إذن تلك العلاقة الخفية التي تربط بين الروح التي غادرها جسدُها الفاني وبقيت هي متوهجة ومتمثلة في درويش وبين تلك الروح التي تخوض رحلة توهج وانصهار متمثله في مروان؛ تلك العلاقة إذًا علاقة سحرية وسرية ومُنجبة لهذا الدفق الشعري المطرد.
درويش أضاف عن مروان أنّ هذا النفس الشعري الفلسطيني سيضع أنصاف الشعراء في أزمة، وأنا أقول إنّ الأزمة لن تكون لأنصاف الشعراء أو الأشباه في فلسطين فحسب، بل في العالم العربي أجمع.
يقولون في النسق الديني: سيأتي كل مائة عام من يجدد الدين، وأنا أدّعي أنّ ذلك القول مسحوب على الشعر، فإذا كانت المئة عام الماضية حفلت بالعديد من الرواد الذين غيروا وجه الشعر وجملوه من أمل دنقل وصلاح عبد الصبور والبياتي والسياب ونازك والجواهري ودرويش وأدونيس، فثمة أسماء تؤسّس لنفسها لتحيي المئة عام القادمة، وأنا أدّعي أن ذلك الشاعر منهم.
ولد مروان مخول في بلدة البقيعة الجليلية، وهو ابن 30 عامًا اليوم. أمّا عمره الشعري فهو 10 أعوام على الأكثر، رصيده من دواوين الشعر “صفر”!
هذا الطفل المشاكس الذي أهمل المدرسة ولعب في شوارع البلدة وحيدًا، وعايش آلام أخوته الذين يعانون إعاقة جسدية، كَبُرَ ولدًا مشاغبًا في ظروف استثنائية ثمَّ ثار على ضياعهِ ليصبح اليوم مهندساً ناجحًا وشاعرًا مختلفًا.
ولأنه واحد من سكان عرب 48 يحمل رؤية عن ذلك، فيقول: “الحصار الجغرافي وعدم الاختلاط بالعالم العربي من جرّاء عملية عدم التطبيع الذي يمارسها هذا المجتمع الواسع علينا، من دون التفريق بين الكيان الصهيوني المجرم من جهة، وبين الأقليّة العربية الحيّة في الداخل الفلسطيني من جهة أخرى”.
يقول العارفون بالشعر إنّ لكلّ شاعر نافذته الخاصة التي يطل منها على الحياة؛ نافذة تأتيه بالغريب الذي لو وضعه في قصيدة جعلته يُرينا العالم وكأننا نراه لأول مرة. لمروان تلك النافذة التي تتمثل في القصيدة بالصورة الشعرية شديدة الخصوصية، بالصورة الممتدة غير المبتورة، صورة كليةُ تصل إلى حدّ رسم مشاهد كاملة، كما في قصيدته عن غزة:
“على هذا الرّكامِ المُرِّ في غزّة
نبتتْ ذِراعُ طفلٍ. لوّحَتْ
للهِ مِنْ يومَيْنِ،
لكنَّ السَّماءَ تَحجّبتْ
إذ أَجّرَتْ للطّائِراتِ مَحلَّها الرَّمزيِّ، كي
لا تُرى تلكَ اليَدُ الحُبلى بعنقاءِ
الرَّمادِ، وما يُسمّى بالأَمَلْ”
هذا النوع من الشعراء يواصل المقاومة بالبقاء. هي تيمة شعراء فلسطين وشعراء الثمانية وأربعين. لا اختلاف إذًا ورغم التسعة والعشرين عامًا أو التسع والعشرين طلقة، وهي عمر شاعرنا، إلا انه رضع من ذلك الثدي الضارب في الأرض فيقول:
“عكّا كَيافا، أو كَحيفا؛ أختِها
في اللّفظِ أو في الصبرِ
إن صحَّ الذي قد قاله الجرحُ الجميلْ.
غَدي هُنا، لا في مَكانٍ آخرٍ
أمشي وأمسي لا يُباعْ
إنّي هنا
تيهي هنا
بابي هنا
بيتي هنا
سقفي هنا
قبري هنا
أرضي، وأرضُ الكلِّ من حولي فضاءاتٌ
لها أسمى من الأعلى فلا أبكي
ولا كَرْمي مَشاعْ.”
(الكاتب ناقد أدبي ومقدّم للأخبار في قناة “العربية” التلفزيونيّة)