هبّة أكتوبر: حكاية انفجار الغضب
أحداث أكتوبر هي مرحلة تاريخية لم يفجرّها دخول أرييل شارون إلى باحة الأقصى فحسب، إنّها حقبة من احتراق الأمل الكاذب الذي عاشه الفلسطيني نهاية التسعينيات. في تلك الأيام، كان الناس على موعدٍ مع الغضب الذي راكمته سنوات “الانفراج” المزيّف بعدـ “أوسلو”
هبّة أكتوبر: حكاية انفجار الغضب
|فراس خطيب|
مرَّ عقد والصور التي نسجتها بداية الخريف الأول في الألفية الثالثة، عالقة وتزداد حزنًا من عام إلى آخر. تضيع هذه الصور أحيانًا في غياهب التقاليد اليومية، لكنّها تعود مع نهاية أيلول من كل عام، حين يسير الحشد نحو إحياء جرحه.
من عاصر الأيام العصيبة في العام 2000 يعي اليوم جيّدًا أن الوقت يمّر بسرعة، وأنَّ الجرح النازف لم يقتل صاحبه، لكنَّه حتمًا ترك ندبةً وذكرى لم يمحُها عقد من الزمان.
إنَّها الذكرى العاشرة لـ “الهبّة”، لكنَّ أرقام السنوات لا تهم. إذ لا تزال تلك الأم تحمل صورة ابنها: ملامحها أشدّ فقرًا، أشدّ حزنًا. خطواتها أثقل، وصوتها أشد هدوءًا. لا حاجة لأن تسألها عمّا تشعره اليوم، فالشعور ذاته في كل يوم. تجاعيد وجهها تحكي الحقيقة. من عام إلى عام تراها تكبر لكن ابنها، كعادته، لا يزال مبتسمًا في تلك الصورة التي التقطت قبل رحيله في مكان ما يستدعي الابتسامة. حين تسألها عن حالها، ستقول لك إنّها تبحث عن العدالة المفقودة، عن أنّ قاتلاً يعيش حياةً رغيدة بفعل المؤسسة. وفي سرِّها ملايين الكلمات تفضحها دمعة تنهمر حتمًا عند الحديث.
أكتوبر هو حدث خلق أحداثًا لدى فلسطينيي الـ 48. مرحلة تاريخية لم يفجرّها دخول أريئيل شارون إلى باحة الأقصى فحسب، بل إنّها حقبة من احتراق الأمل الكاذب الذي عاشه الفلسطيني نهاية التسعينيات. في تلك الأيام، كان الناس على موعدٍ مع الغضب الذي راكمته سنوات “الانفراج” المزيّف بعد “أوسلو”. الحجر الأول في القدس المحتلة كان كافيًا لأن يطلق الفلسطيني صرخته ويحيي تلك العلاقة بين الجرح والمكان، من دون الحاجة لبيان صادر عن هيئة عُليا؛ فاشتعل الغضب. غضب لا يمكن اليوم أن يحتمل “تقويمات” سياسية عن “خطأ” أو “صواب”. لا أحد يملك أصلاً سلطة للحكم على تلك الأحداث. فالناس عندما غضبت لم يكن همّها إنجاز بيل كلينتون التاريخي، ولا سعي شارون لتقوية اليمين الجديد في إسرائيل ولا النخبة الضحلة من روّاد “السلام الاقتصادي”. كان غضب الجماهير الفلسطينية حقيقيًا ناجمًا عن أوضاعها. غضب يبدأ من صالون البيت ولا ينتهي بالرفض الفطري لمعادلات سلام “الفوتو أب”. صرخة من كل شيء على كل شيء. قضية تبدأ من حروف الكتابة الأولى ولا تنتهي بالأحلام. في حينها، لم تكن الحياة متوقفة على تجميد أو عدم تجميد في بناء في المستوطنات. كانت الحياة متوقفة على الحياة.
نزل متسناع إلى الشارع، واستقبله الحشد بهتافات تحطم أوهام الرؤى المعطوبة للجنرال “اليساري” الذي صار رئيسًا للبلدية
تركت تلك الأيام شريطًا يستدعي التأمل، حين ساد الغضب أماكن “غير متوقعة”. في المدن المختلطة صرخوا ضدَّ “التعايش” المغلّف بالتمييز ضدّهم. من يذكر حيفا مثلاً قبل أكتوبر سيقول إنَّها “هادئة بفعل التعايش”، لكنَّ جزءًا في تلك الأيام، وخلافًا لتوقعات “الخبراء” هبَّوا هم أيضًا. في العصر الثالث للأحداث، تجمّع الناس على مقربة من حي وادي النسناس، حين كانت الأخبار تتناقل عن سقوط مزيدٍ من الشهداء. اشتعل شارع الواد بالصرخات، صور جديدة على الشارع القديم، وبدأت المواجهات التي كانت صدمةً لرئيس بلدية “التعايش”، لواء الاحتياط في الجيش الإسرائيلي، عمرام ميتسناع، أحد مقربي رئيس الحكومة في حينه إيهود باراك. في حينه، نزل متسناع إلى الشارع، واستقبله الحشد بهتافات تحطم أوهام الرؤى المعطوبة للجنرال “اليساري” الذي صار رئيسًا للبلدية. هل كل هذا يجري في “مدينة التعايش”؟
في ذلك الليل، الشبان البسطاء في السياسة، ممن لم يعاصروا أحداثًا مشابهة من قبل، تجمّعوا في إحدى الجلسات الليلية على طرف شارع الوادي، تحدث الشبان عن يوم المواجهات الغريب، عن بيئتهم وعن المدن التي تحيط بهم. وعن شائعات تقول إنَّ أهل “الكريوت” (أي ضواحي حيفا) سيهجمون هذه الليلة على الوادي. منهم من خاض هذه التجربة لأول مرة. ومنهم من عاصر مقاطعة اليهود لحيّهم، إلى أن ولد جيل في المدينة، لا يهم حجمه ولا أصله، لكنه جيل يعي بأنَّ الحياة لا يمكن أن تتواصل بـ “السلام مقابل الحمص”.
هؤلاء الشبان أنفسهم نزلوا في تلك الليلة إلى مستشفى “رمبام”، حين سمعوا أنَّ شابًا نصراويًا بحالٍ حرجة اثر تعرضه لإطلاق نار من قوات الشرطة. تجمّعوا عند غرفة العناية المكثفة، وشاهدوا أمّه عندما سمعت لتوّها خبر استشهاده. كانت صرخاتها تكسر صمت المستشفى الكبير، لتعلن هذه الصرخة بداية مرحلة أخرى بالنسبة لهم.
أكتوبر كان ولا يزال حكاية عن غضب انفجر في ليلة وضحاها ليولد جيل -ربما دون أن يشعر- أنّه جيل أكتوبر بعد خيبة “أوسلو”.