من فمك أدينك يا بابلو!/ سماح بصول
هذا ليس فيلمًا تقليديًّا، بل توليفه عبقريّة تحتوي الشعر والنثر والسينما بانسجام ساحر لم يسبق له مثيل
>
|سماح بصول|
كان التشيليّ بابلو نيرودا أبرز كتّاب عصره، يحمل آلام شعبه وينقلها الى العالم بكلمات بسيطة يقطر منها الانتماء والحب، كان سياسيًا شيوعيًا وعضوًا في مجلس الشعب؛ أحبّه الناس- والنساء على وجه الخصوص. كان عاشقًا وإنسانًا تجذبه روائح الأماكن الشعبيّة بحلوها ومرّها رغم استيطانه بين مَن تَطال أياديهم كلَّ ما تشتهيه نفوسهم.
مثقلان بالعبقريّة يفكّك المخرج بابلو لارين والسيناريست جويليرمو كالديرون إرث نيرودا الأدبيّ، وبموهبة سيميائيّة عجيبة يصوغان العلامات والرموز، فتشتبك وتولّد معانيَ جديدة، ويقدّمان لنا فيلمًا تشي به نصوص نيرودا بكاتبها فتفضح عبثه وغروره وكبرياءه، ورفاهيته وطيشه. تراقبه أشعاره وهو يغازل النساء في المواخير، ويشاطر الفقراء آلامهم وأحلامهم في زوايا الشوارع؛ يوزّع دفء قبلاته على اللاتي حرمتهنّ الحياة دفء المشاعر. لكنّ أبطال نصوصه يتمرّدون عليه ويقفون ضدّه في خط المواجهة مطالبينه بالكشف عن وجهه الحقيقيّ، محققين في صدق شيوعيّته، يلاحقونه لإثبات قدرتهم على اغتياله مقابل عدم قدرته على كتابة نهاياتهم. تنفصل الشخصيات والأبطال عن النصوص وتدبّ فيها الحياة، فتخرج لمراوغة المؤلف بأسلوب هزليّ ذكيّ جامح.
يكرّس شرطي التحري أوسكار بيلوشينييه (الممثل جال جرسيا برنال) مهنته وحياته لملاحقه نيرودا، ساعيًا إلى قتله باستخدام رموز يستقيها من أشعاره وقصصه، وسط ذهول نيرودا المدفوع بكبريائه لكتابة نهاية دراماتيكيّة لشخصية أوسكار وحرمانها من فخر قتل خالقها. لقد دفن قلم نيرودا بطلهُ اوسكار بين ثلوج الإنديز، لتكون ذكراه غائبة.. إلى أبد الآبدين!
يُحكم المخرج قبضته على نيرودا، فيخلق سيرة ذاتيّة خياليّة للأديب والشاعر ، من خلال تحويل نصوصه الى شهادات سلّمت كاتبها لصناع الفيلم كما سلم يهوذا الإسخريوطي يسوع المسيح لأعدائه. لكن على العكس من بيلاطس، لم يصلب لارين نيرودا بل وضعه على خط المواجهة، وعرّاه أمام مؤيّديه وأبطال نصوصه الذين جاؤوا ليحاسبوه على مصائر حسمها قلمه.
يُشرّح الفيلم طروحات نيرودا ويجعلها تتحدّاه، وتكتب من جديد سيرته الذاتيّة ومنفاه، وعلى العكس من التاريخ لا يقف نيرودا في الفيلم موقف الثائر البطل القوميّ الشعبيّ والسياسيّ المنفيّ قسرًا، بل إنسان يدفعه مُخرج فذّ إلى مغامرة ما وراء المعاني المتسترة برداء أحداث عاديّة، لكنها في واقع أمرها تحديات لنيرودا وعبقريته؛ تحدٍّ لمبادئه وأفكاره الشيوعيّة، ومناطحة شاعر الفقراء والمهمّشين بصورة تثير الذهول.
فالثائر الوطنيّ، شاعر الفقراء والبسطاء، نصير المهمشين والمهشمين والمحبطين، لا يشبه أبطاله: فهو ليس فقيرًا ولا مهمّشًا، بل متنفذٌ اعتلى منصات السياسة والأدب وعبرت شهرته حدود تشيلي نحو النوبل، يصمت حائرًا في مواجهة إحدى رفيقاته غير المرئيّة في الحزب الشيوعيّ، حينما تنقضّ عليه في مطعم فاخر طالبة توقيعه على أحد كتبه وقبلة على شفتيْه، وما لبث أن فعل حتى باغته سؤالها: “عندما تنتصر الشيوعيّة على الفاشية ونصبح جميعا متساوين، هل سنكون متساوين معك أم هل سيصبح أمثالك متساوين معي.. أنا التي أنظف أوساخ البرجوازيين منذ أن كنت في الحادية عشرة من عمري، وعضو في الحزب منذ بلغت الرابعة عشر”.
ذهل الشاعر المحاط بخيرة رفاقه في الحزب الذين تحلّقوا لحمايته جسديًا من رصاصة شرطيّ، لكنهم لم ينجحوا في حمايته من رصاصة تستهدفه ذهنيًا وعاطفيًا… فكّر، ثم خدّر ألم المرأة السائلة بقوله: متساوون معي.. معي!
هذا فيلم بوليسيّ، شرطيّ يلاحق فارّا. وهو فيلم تشويق، يجعل التحرّيّ ملزمًا بفك شيفرات ورموز تختبئ بين نصوص شعريّة، وهو فيلم دراميّ نعيش خلاله محاولة إنسان البقاء على أرض وطنه ليحارب بفكره نظامًا فاشيًا، وهو فيلم هزليّ يترك على وجوه مشاهديه عددًا لا بأس به من الابتسامات المتنهدّة.
البابا نيرودا الأول
لم يكتفِ المخرج بتغيير قواعد العلاقة بين النصّ وكاتبه، بل وجه نقدًا لاذعًا للسيناتور نيرودا وللشيوعيّين والشعب التشيليّ، من خلال مشاهد تبدو قبل التأمل فيها عادية وربما كوميدية، لكنها تنمّ عن أسئلة تحقّق في تاريخ سطّره نيرودا ورفاقه. ففي أحد المشاهد يتحلّق الرفاق حول نيرودا وهو يلفّ جسمه العاري بقماش أبيض، يتحرّك فاتحًا يديْه ويبدأ صلاته أمام المؤمنين بمبادئ الشيوعيّة، في تصوير يتجلى فيه البابا أمام أعيننا، يحمل فكرًا مناقضًا للفاتيكان. رغم “قداسته”، يخضع القائد لقرار حزبه الذي يلزمه بالمنفى وترك البلاد، فتغيب صورة رقصته الباباويّة الواثقة لتحلّ مكانها أقنعته التنكريّة التي تلازمه وهو يروح ويغدو بين مخبأ وآخر!
يترنّح الفيلم بين الوعي والخيال، ولغة سينمائية تحتجز كل مشاعرنا ثم تتفوق على حواسنا مجتمعة، سواءٌ بالموسيقى الكلاسيكيّة المثيرة، أم بالتصوير الغارق في المؤثرات التي تستفزّ أبصارنا -رغم المبالغة في كميتها- وتضعنا بكلّ صدق في قلب القرن السابق بتفاصيل ألوانه، وخصوصيّة بطله بابلو نيرودا.
وفلسطين!
خشيتُ أن أقف على حافة الابتذال اذا ما رأيت طيف فلسطين يتراءى في بعض المشاهد، لكن التشديد على خوف النظام من مقاوم مثقف لا تترك أمام المشاهد الفلسطينيّ منفذًا من استحضار قضيته وأسماء بعض أبطاله. وعندما يرسل الاحتلال الخارجيّ (أمريكا) جنوده من أبناء جلدة الثائر لاغتياله (النام التشيليّ)، فذلك مشهد يبدو كقصاصة خبر من صحيفة محليّة.
يطلق المخرج رصاصة قاتلة إلى جمهور الشعراء والادباء، جاعلا التفكير في أدب المقاومة والشعر السياسي، وبوق الاحرار والمسحوقين، يقع في قبضة جملة خطيرة مفادها “من مصلحة الشرطة ألا تلقي القبض على الشاعر الثائر، كي يستمرّ بالكتابة عن ألم الفقراء فيخدّر شِعْرَه أرواحهم وينهاهم بذلك عن الثورة”!
ثورة النصّ على الكاتب.. مطاردة جديرة جدًا بالمشاهدة.
● “نيرودا” – تشيلي 2016، اخراج بابلو لارين. بطولة: جال جرسيا برنال ولويس جنيكو.