محمود أمين العالم مفكراً ومناضلا
حفلت مسيرة العالم بالاهتمام بعدد من القضايا كان من أهمها معركته من أجل تعميم المعرفة الفكرية، وتأكيد استخدام العقل في تحليل الواقع وما آلت إليه أوضاع الأمة العربية في محاولة لصنع التغيير من خلال الفعل المعرفي والثقافي
محمود أمين العالم مفكراً ومناضلا
..
|د. يحيى البشتاوي|
حينما نتحدث عن المفكر العربي المصري والمثقف اللامع والكاتب الماركسي محمود أمين العالِم (1922- 2009)، فإننا نقف أمام مناضل قضى أكثر من نصف قرن من المعارك السياسية والثقافية.
ولد العالم في حي الدرب الأحمر بالقاهرة في 18 شباط عام 1922 وتخرج من قسم الفلسفة في كلية الآداب من جامعة فؤاد الأول (القاهرة الآن)، عام 1945 وحصل على الماجستير عام 1953 عن دراسته الموسومة “فلسفة المصادفة الموضوعية في الفيزياء الحديثة ودلالاتها الفلسفية”، التي ألفها انطلاقا من فكره الماركسي إذ تعرض فيها إلى مفهوم الصدفة في الفيزياء والذي يتناقض مع مفهوم السببية أو الجبرية الفيزيائية، ثم سجل بحثاً للدكتوراه حول “الضرورة في العلوم الإنسانية” لكنه حرم من إعداد رسالة الدكتوراه بسبب فصله من الجامعة عام 1954 مع عدد من الأساتذة لأسباب سياسية.
إلتحق بمجلة “روز اليوسف” وعمل مسؤولاً عن افتتاحيتها السياسية التي كان يغلب عليها الطابع النقدي للأوضاع غير الديمقراطية، كما أخذ يكتب فيها مقالات في النقد الأدبي مستكملاً ما بدأه مع رفيقه عبد العظيم أنيس حين ردّا على مقال عميد الأدب العربي د. طه حسين الذي نشره في جريدة الجمهورية حول “مفهوم الأدب”، وبهذا المقال بدأت معركة في النقد الأدبي بهدف الانتصار للاتجاه الواقعي الجدلي في النقد الأدبي.
عام 1955 أصدر العالم وأنيس كتاب “في الثقافة المصرية”، حيث ردّا فيه على عدد من نقاد الجيل السابق أمثال عباس العقّاد وطه حسين، حيث اتهم العقادُ في مقال نشره في صحيفة “أخبار اليوم” بأن كلاً من العالم وأنيس شيوعيان وأنه لا يناقشهما وإنما يضبطهما، أما طه حسين فقد وصف كتابهما بأنه يونانيّ لا يُقرأ.
وبعد ثورة 23 تموز عام 1952 في مصر تم إنشاء مؤسسة دار التحرير التي كان يرأسها أنور السادات، حيث عمل العالم فيها مع الأستاذ أحمد حمروش لإصدار مجلة أسبوعية، إلا أن المشروع لم يكتب له الاستمرار إذ توقفت المجلة بعد إصدار عددين تجريبيين، وحينما وقع العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 حاول حمروش والعالم إصدار جريدة يومية باسم “المعركة” إلا أنها صودرت في المطبعة عند الانتهاء من طبعتها، ثم نقل الاثنان إلى مجلة “الرسالة الجديدة”، تحت رئاسة الأستاذ يوسف السباعي حيث عمل العالم مديراً لتحريرها.
كان من الماركسيين القلائل الذين أتقنوا تحويل الفكر الماركسي ليكون فكراً عربياً بعيداً عن الوصفات الجاهزة التي اعتادت الأحزاب الشيوعية تقديمها
بعد إعلان الوحدة بين مصر وسوريا عام 1958 فصل العالم من عمله لأنه رأى بأنّ الوحدة لا تراعي الخصائص الموضوعية للمجتمع السوري، وفي مطلع عام 1959 اعتقل العالم مع الشيوعيين الذين اعتقلهم نظام الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر وتعرّض مع من تعرضوا للتعذيب. حول هذه المرحلة الهامة من حياته يقول: “كانت تجربة مريرة دون أدنى شك، فقد انتسبت مبكراً للحزب الشيوعي المصري، وكنت منذ البداية مهموما بمصر حضارة وواقعًا، أنظر إليها عبر التاريخ وأعجب لحضورها القوي وشخصيتها الفذة، يتعاقب عليها المحتلون واحداً يلو الآخر فلا تهادن ولا تلين (…)، ثم يحكمها أبناؤها فيكرسون الظلم والاستبداد، وكانت بداية دخولي السجن تتمثل في أنني عينت بالجامعة المصرية كمدرس مساعد وتم فصلي أنا ولويس عوض وآخرين بعد شهرين تقريباً بقرار من مجلس قيادة الثورة ضمن حملة للقضاء على الشيوعيين من قبل النظام الناصري”.
في عام 1964 وبعد معاناة مريرة للعالم ورفاقه في المعتقل، حدث ما وصفه البعض بالمصالحة مع النظام الناصري؛ ففي الوقت الذي اتجهت فيه السياسة الناصرية إلى الصدام مع السياسة الأمريكية آنذاك، وفي التحالف مع السياسة السوفيتية التي أسهمت في بناء السد العالي، كان العالم متواجداً في سجن “الواحات”، وكان قد أعلن في الوقت نفسه تأميم الشركات الرأسمالية والملكيات الزراعية الكبيرة، وتم تشكيل الاتحاد الاشتراكي مع تشكيل الطليعة الاشتراكية وهو التنظيم السّري في قلب الاتحاد، وكان قد تم الاتفاق بين الشيوعيين والنظام الناصري على إدماج الشيوعيين في الإتحاد والتنظيم معاً، وكان من نصيب العالم حينما أفرج عنه هو تعيينه محرراً أدبيا في مجلة “المصور” الأسبوعية، ثم أصبح رئيساً لمجلس إدارة الهيئة المصرية العامة للكتاب، ثم رئيساً لمجلس إدارة المسرح والموسيقى والفنون الشعبية، ثم رئيساً لمجلس إدارة “أخبار اليوم” الصحفية. وبعد وفاة عبد الناصر عام 1970 واختيار السادات رئيساً للدولة بدأ صدام مع السلطة الجديدة فاعتقل مع من وصفهم السادات بمراكز القوى، ووجه إليه وللآخرين تهمة الخيانة العظمى. وبعد الإفراج عنه سافر إلى بريطانيا للعمل في إحدى الكليات، ثم اتصل به صديقه المفكر الفرنسي جاك بيرك (1910-1995) واقترح عليه التوجّه إلى باريس، فذهب للعمل في جامعاتها مدرّسًا لمادة الفكر العربي بين عامي (1973-1984)، وهناك أنشأ مع عدد من المثقفين المصريين مجلة “اليسار العربي” الشهرية التي عُنيت بقضايا الوحدة العربية والديمقراطية والتحرّر السياسي والاقتصادي.
بعد عودته إلى مصر تفرّغ لإصدار كتاب غير دوري عنوانه “قضايا فكرية”، كما اختير مقرراً للجنة الفلسفة في المجلس الأعلى للثقافة.
ومن الملاحظ على مسيرة العالم وصراعه الفكري مع الأنظمة المتعاقبة على حكم مصر، أنه قد ذاق طعم السجون والملاحقات والتجريد من الحقوق المدنية، ورغم ذلك فقد بقي طوال مراحل حياته أميناً للنهج العلمي الذي التزم به في كتاباته وتحليلاته الفلسفية والاجتماعية التي تناول من خلالها المجتمع العربي والمصري، فكان من الماركسيين القلائل الذين أتقنوا تحويل الفكر الماركسي ليكون فكراً عربياً بعيداً عن الوصفات الجاهزة التي اعتادت الأحزاب الشيوعية تقديمها.
وقد حفلت مسيرة العالم بالاهتمام بعدد من القضايا كان من أهمها معركته من أجل تعميم المعرفة الفكرية، وتأكيد استخدام العقل في تحليل الواقع وما آلت إليه أوضاع الأمة العربية في محاولة لصنع التغيير من خلال الفعل المعرفي والثقافي.
أسس العالم من خلال طروحاته الفكرية لثقافة التنوير في إطارها العربي، وهو بتوجهه اليساري قد كان ذا نكهة خاصة نأت عن الطابع المادي الجامد وخرجت به من قوقعة الخلايا والعمل السري الخفي المرتبط بالخروج على الشرعية، فقد نجح في حياته الثقافية والسياسية في منح اليسار وجهاً إنسانياً نازعاً عنه صفات الجمود والتطرف ومتجهاً به نحو عالم أكثر رحابة.
قدم العالم للمكتبة العربية عدداً من المؤلفات الهامة والتي توزعت ضمن عدد من الحقول المعرفية، وكان من بينها: “ألوان من القصة المصرية” (1955)؛ “معارك فكرية” (1970)؛ “تأملات في عالم نجيب محفوظ” (1970)؛ “الثقافة والثورة” (1970)؛ ديوان شعر بعنوان “أغنية الإنسان” (1970)؛ “فلسفة المصادفة” (1971)؛ “هربرت ماركوز أو فلسفة الطريق المسدود” (1972)؛ “الوجه والقناع في المسرح العربي المعاصر” (1973)؛ “الرحلة إلى الآخرين” (1974)؛ “البحث عن أوروبا” (1975)؛ “ثلاثية الرفض والهزيمة- دراسة نقدية لثلاث روايات لصنع الله إبراهيم” (1985)؛ “الوعي والوعي الزائف في الفكر العربي المعاصر” (1988)؛ “الماركسيون العرب والوحدة العربية” (1988)؛ “توفيق الحكيم مفكراً وفناناً” (1994)؛ “الفكر العربي بين الخصوصية والكونية” (1996)؛ “مواقف نقدية في التراث” (1997)؛ “الإبداع والدلالة: مقاربات نظرية وتطبيقية” (1997) وغيرها.
حصل العام 1998 على جائزة الدولة التقديرية، كما منحته مؤسسة ابن رشد في برلين جائزتها عام 2001.
(عن الملحق الثقافي لصحيفة “الدستور” الأردنية)