ما الذي ينقص الكتابة كي تصير فرنًا يحمرّ فيه رغيفُ القمح/ هشام نفاع
ذلك القط كان أسود وأبيض وما بينهما. لا لون أساسيّ له. مع ذلك فألوانه كانت كالمغبرة. ليس بالفعل أي تربة وانما لكونها كما لو وسط طقس جافّ عابق بالغبار. كان يتثاقل بجانب سيارة بيضاء مصفوفة فوق الرصيف. لونها واضح. مغسول. لامع. بارد
ما الذي ينقص الكتابة كي تصير فرنًا يحمرّ فيه رغيفُ القمح/ هشام نفاع
|هشام نفاع|
قط يمشي بتثاقل. لونه لا يختلف عن كثير من القطط. أسود وأبيض. ذكرني بالسؤال الذي كان يبدو لي معقدًا بل أحجيّة: ما هو لون حمار الوحش الأصلي، أهو أبيض مخطط بالأسود، أم أسود مخطط بالأبيض؟ لبضعة أيام تسليت بالسؤال وبمتعة الفضول. طرحته على أصدقاء وصديقات بنوع من المرح الذي يبقي متسعًا للجدية.
صديقة واحدة أخذت سؤالي على محمل الجدّ فعلا، وعادت إليّ بالجواب: إنه أبيض مخطط بالأسود. علميًا. الدليل لون بطنه: أبيض. فأنهتْ فصل التلهّي القصير هذا.
ذلك القط كان أسود وأبيض وما بينهما. لا لون أساسيّ له. مع ذلك فألوانه كانت كالمغبرة. ليس بالفعل أي تربة وانما لكونها كما لو وسط طقس جافّ عابق بالغبار. كان يتثاقل بجانب سيارة بيضاء مصفوفة فوق الرصيف. لونها واضح. مغسول. لامع. بارد.
حين رأيته، في اللحظة الاولى، عرفت أنّ منظره سيلاحقني. سيستكتبني. لا أملك تفسيرًا لهذا. تابعت المشي، إلتفتّ إليه وكان لا يزال متثاقل المشية شاحب الألوان. حين يشحب الناس يميل لونهم إلى الصفرة. جلدنا، البشر مكشوف وفاضح. يكفي أن يضعف تحته الجسد حتى يعلن ضعفه أصفرَ كجفاف الصيف. لكن هذا القط، غير مكشوف الجلد، كان من البؤس بحيث بثت ألوانه الضعف والصفرة الغبارية. كأنه وجه مريض آدمي.
قلت لنفسي لعله قط هرم. فيه ما يوحي بتراكم السنين. لم يكن تثاقله من النوع المغرور المتبختر. لم يكن طاووسًا ولا إنسانا لا يتقن حكمة وتواضع التمعن في تساقط الأيام اليومي داخل بئر الماضي عديمة القرار، التي لا تمتلئ سوى بالذكريات والحكايات.
هذا القط متثاقل المشية على مضض.
ربما كان يودّ الآن لو يركض حتى أعلى الدرجات المتصلة بالشارع العلوي.
ربما وجد حاوية زبالة أكثر كرمًا من هذه القريبة.
ربما أراد مصارعة قط على السيطرة أو مشاركة قطة.
أو لربما كان يود الاستجابة لغريزة الركض بعيدًا خوفًا من هذا الآدمي أو ذاك.
أهو هرم حقا؟
ثم إنه ليس قطًا يسير الى نهايته على فراش الراحة. لم يجد له سجّانا يودعه بيته، يطعمه، يسقيه، يتسلى به، ويستمدّ من حضوره قطعة صغيرة من الوهم يخفي بها سؤال العزلة الحالكة والقلق العميق أمام كل هذا الوجود الفسيح. هذا قط شوارع. ينعم بالحرية، ويعاني إلحاحَ حاجة الأكل والصراع الدائم للعثور عليه. لم يعد يملك القدرة كي يقفز بخفة من الرصيف إلى أعلى حاوية الزبالة. حظه الوحيد أن تفيض الحاويات فيروح هذا وذاك وتلك يكومون أكياسهم بجانبها. حتى مخالبه لم تعد قادرة على تمزيق الاكياس بتلك الحركات الخاطفة القاطعة الحازمة الفتيّة.
يا لصعوبة فقدان خفة الحركة وحدّة المخلب في حرب الطعام والشوارع.
ولكن من أنا لأقول هذا؟ لديّ دار، وإن كانت مستأجرة. لا حاجة بي للبحث عن لقمة في حاوية. يا لي من محظوظ. لست كالزوجين الهرمين اللذين ألتقيهما ليلاً حين يذهب الجميع الى أسرهم وأسرّتهم. يمشي أمامها بمتر أو أقلّ. جسده ممتلئ. لحيته مهذبة مرسومة بشيب لم يظهر منه في شعر رأسه سوى القليل. يبدو قويّ البنيان. لكن مشيته متثاقلة، على مضض. لا أعتقد أنه قادر على الركض على شاطئ البحر. أما رفيقته فتمشي بظهر منحنٍ قليلا. تحتاج إلى التقائهما مرارًا حتى تلاحظ ذلك الاعوجاج في أعلى ظهرها، تحت شعرها فاحم السواد، الذي يبدو معافىً قد تحسدها عليه بعض الفتيات المشغولات بالتسريحة الأفضل لمزاجهنّ الملول. لديها سلة ملونة مربعة، قماشية أو بلاستيكية، تجرّها خلفها بيدها اليسرى. يمشيان واثقين. ينظران فيها واثقين. يبحثان واثقين. يفتحان غطاء الحاوية الخضراء واثقين. يروح هو يبحث في الأكياس وهي تنتظره بهدوء يقارب صلاة التأمل. حين يعثر على شيءٍ لم يفت تاريخ صلاحيته، يناولها إياه بهدوء. يفرغان من البحث، فيواصلان المشي، واثقين.
حاولتُ مرارًا إلقاء التحية عليهما، فأحيانا أصادفهما يومًا بعد الآخر. يتجاهلانني على الدوام. حسبتُ في البداية أن ذلك مدفوع بالخجل؛ خجل العوز. لكن مع تيقّني من تلك الثقة الرصينة المنسجمة في جميع حركاتهما، عرفتُ أنهما غير معنيين بتطوير أية علاقة مع عابري الليل الخارجين من المقاهي أو بيوت الاصدقاء أو غرف وشرفات العشق، عائدين الى أسرّتهم.
فجأة تنبهت الى أن القط الهرم نجح في استكتابي..
ها هي قصته تثير تداعيات واستطرادات. وراودني خوف.. خوف من أن القصة قد تكون نسجت صورة تنطوي على معانٍ رمزية عميقة. فانا لم أقصد شيئا من كل هذا. ولا أريد لهذه التداعيات أن تقول، مثلا، أن الامتداد في العمر يترك صفرة غبارية كأنها دخول في الدرب المؤدي الى النهاية، فيما يناقض فكرة “السكون قبل العاصفة” السائدة، ليصبح واقع الحال: “عاصفة ما قبل السكون”؛ عاصفة من غبار تضج بها الأجساد والوجوه وحتى فروات القطط، فتختلط الأمور على الكائنات وتتعرى من تميّزاتها التي اكتسبتها خلال السباحة الطويلة في بحر السنين السحيق هذا؛ أو جرّاء التسليم لمجرى النهر الذي لا نعرف منبعًا له ولا مصبًا (بعد).
فقدت السيطرة على نسيج التداعيات. فلا أعرف إن كانت ستحمّلني عبء المقولة الحزينة بأن حاويات النفايات هي حدّ قاطع كالسيف بين من يملكون حظ ربط الكيس ورميه فيها، ومن لا يزيد حظهم عن إخراج الكيس منها وفكّه.
هذه المقولة حزينة، وناقصة، لأنني اكفر بالقول إنه الحظ. لكن النصوص حين تتناول حيوات الأفراد بكامل خشونتها، وصفًا وتأملا وسردًا وتفصيلاً، تهدّد بإخفاء أفكار أرقى وأدقّ بكثير من مجرد الاكتفاء بفكرة الحظ الكسولة. ثم إن خلط المصائر القائمة ما بين سيرة حيوان هرم وبين مسير كهلين يلتقطان لقمتها من حاوية النفايات قد يبعث، في الحد الاقصى، على الغضب، او التأثر، أو التعاطف، أو الحزن، أو الصمت، أو الشتيمة او ابتلاع الريق بمرارة، أو مدّ الأنظار بعيدًا نحو الأفق، أو ترك هذه الصفحات إمّا لشدة الكآبة المعششة بين سطورها وإما لأنها لا تلائم بعض الأمزجة سوداء السخرية. لكن هذا كله لن يسعف الزوجين والقطّ في شيء. ولن يخرج الكائنات الوحيدة والعاجزة من غيمة الغبار.
أهذه الكتابة فاشلة؟ أهي عديمة القيمة والأثر الى هذا الحدّ؟ ما الذي ينقصها وينقصني حتى توفر لقمة خبز، أو سريرًا، أو ساعة من هدوء البال لكهلين يقضيان الليل في أعقاب مفاجآت النفايات. أو ما الذي ينقص الكتابة كي تصير فرنا يحمرّ فيه رغيف القمح، وتُحرق فيه أعراف وتقاليد وكتب وقوانين ومحاضر قرارات لا تزال تقف صلدةً لا مبالية حين واصل الرجل مهذب اللحية ورفيقته خفيفة انحناءة الظهر، هذه الليلة ايضا، مسيرة البحث عن كيس آخر يفكان عقدته أملا في العثور على لقمة.