“كفاية” إحراج!/ حسام كنفاني
قد يكون على الفلسطينيين اليوم إنشاء جمعيّة “كفاية”، على غرار الجمعية المصرية، لمطالبة عبّاس بوقف مسلسل الإحراج الذي يُخضع نفسه والفلسطينيين له. فإذا كان يريد التفاوض، أو مضطرأً إليه، كما يسعى إلى الترويج، فليتفاوض، ولكن من دون مواقف عنترية فارغة
“كفاية” إحراج!/ حسام كنفاني
…
|حسام كنفاني|
قد يكون من الأفضل للرئيس الفلسطيني محمود عبّاس من الآن فصاعداً السعي إلى تجنّب المزيد من الإحراج. يكفي ما تكبّده من خسارة لماء الوجه طوال الأشهر الماضية. ومن الأفضل أن يكفّ عن إطلاق المطالب والشروط، حتى لو كانت غير تعجيزية، ما دام غير قادر على التمسّك بها أو ضمان تطبيقها.
هذا مسار مواقف عباس منذ بداية أزمة التفاوض والاستيطان وتلازمهما، الذي أصبح شرطاً فلسطينيّاً مستجدّاً. مسار فاشل، كغيره من المسارات التي اعتمدها عبّاس، لكنه مع ذلك مصرّ على رفع شروط والتلويح بمطالب، قد يكون هو مدركاً، أكثر من غيره، أنه لن يستطيع تحقيقها، ليس لعدم رغبته في ذلك، بل لأن المعطيات الدولية والإقليمية غير مواتية.
لم يرفع عباس طلباً وتمّت تلبيته، بدءاً من التجميد الاستيطاني وصولاً إلى بيان اللجنة الرباعية. وقد يكون الأخير هو الأكثر دلالة على مدى تمسّك عبّاس بمطالبه. فهو قبل أيام، في ظلّ الضغوط الكبيرة لاستئناف المفاوضات المباشرة، أعلن رغبته في صدور بيان من اللجنة الرباعية يحدد مرجعيّة المفاوضات وجدولها الزمني والقضايا التي ستتطرق إليها.
الطلب يحمل مفارقة لم يتوقف الكثيرون عندها، وهي عبارة “تحديد مرجعية المفاوضات”. الآن، بعد 20 عاماً تقريباً من المفاوضات بشقها السّريّ الذي تولاه عباس شخصياً قبل الانتقال إلى العلن على أيام أبو عمار، وحتى تولي عبّاس الرئاسة، يجري الحديث عن تحديد مرجعية. هل هذا يعني أنّ كل المفاوضات التي جرت سابقاً كانت بلا مرجعيّة؟ فعلى أيّ أساس كان التفاوض إذاً؟ وما الذي اختلف بين الأمس واليوم، حتى يتذكّر عباس فجأةً أن المفاوضات بحاجة إلى مرجعية معترف بها؟
المفارقة الأكبر أنه يبدو أنّ ذاكرة عباس قصيرة جداً، فهو تذكّر المرجعية، ثم ما لبث أن نسيها، ما دام بيان اللجنة الرباعية، الذي عاد عبّاس على أساسه إلى طاولة المفاوضات المباشرة، لم يتضمّن أيّ ذكر للمرجعية ولا للدولة وشكلها ولا للقدس ولا حتى الاستيطان. ومع ذلك فإنّ الرئيس الفلسطيني قبِل بمفرده، أو على الأقل مع الدائرين في فلكه، الدعوة الأمريكية، متجاوزًا “الإجماع الوطني” المتمثل باللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، الذي كان دائم التلطي وراءه لإمرار “الخيارات الاستراتيجية.”
ورغم أنّ “فتح” تحظى بالغالبية داخل اللجنة التنفيذية، فإن عبّاس تجنّب التصويت قبل إصدار قرار الموافقة. هو اعتمد ذلك أيضًا قبل العودة الثانية إلى المفاوضات غير المباشرة، ربما للأسباب ذاتها. فحينها لم يحصل على ما يطالب به، واليوم أيضًا، لذا حرص على عدم إظهار “متانة” الإجماع الذي ينادي به.
عباس أراد بياناً للرباعية يتضمّن مطالبه. الولايات المتحدة استجابت وأصدرت البيان من دون المطالب. قد يكون عباس رأى في الأمر استجابة جزئية. ربما اكتفى عباس بتنفيذ مطلب إصدار البيان، بغضّ النظر عن مضمونه، الذي جاء تلبية لكلّ ما يريده رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو- فرغبات “بيبي” أوامر.
عباس أراد بياناً للرباعية يتضمّن مطالبه. الولايات المتحدة استجابت وأصدرت البيان من دون المطالب
على هذا الأساس تجنّبت اللجنة الرباعية أيّ شروط مسبّقة. حتى حديثها عن قيام دولة فلسطينية خلال عام، لم يأتِ على شكل فرض جدول زمنيّ، بل مجرّد أمل في أن تقوم هذه الدولة خلال عام. الأنكى أنّ بيان الرباعية، على عكس البيان الصادر في موسكو في التاسع عشر من آذار الماضي، لم يتطرّق إلى تجميد الاستيطان في الضفة الغربية، ولا إلى مخططات الضمّ في القدس المحتلة. الحرص على إرضاء إسرائيل كان ظاهرًا في صياغة بيان الرباعية، الذي اكتفى بالتأكيد على الالتزام بالبيانات السابقة من دون التطرّق إلى معطياتها وتفاصيلها.
رغم كل ذلك، يبدو أنّ عبّاس لم يكتفِ من الإحراج؛ فها هو يرفع المطالب مجدّداً، ويحذر من الانسحاب من المفاوضات في حال عدم التجديد للتجميد الاستيطاني. من المؤكّد أن التحذير ليس إلا ذرًا للرماد في العيون، ولا سيما أنه يعلم عدم قدرته على الانسحاب، الذي يُغضب الولايات المتحدة والمجتمع الدوليّ. والسلطة اليوم ليست في وارد إغضاب هذيْن الطرفيْن في ظلّ الأزمة المالية التي تعانيها، والتي تحتاج فيها إلى كل ما تيسّر من أموال المانحين الغربين، بعدما جمّد العرب (بإيحاء أمريكي أو من دونه) تنفيذ التزاماتهم تجاه السلطة الفلسطينية.
قد يكون على الفلسطينيين اليوم إنشاء جمعيّة “كفاية”، على غرار الجمعية المصرية، لمطالبة عبّاس بوقف مسلسل الإحراج الذي يُخضع نفسه والفلسطينيين له. فإذا كان يريد التفاوض، أو مضطرًا إليه، كما يسعى إلى الترويج، فليتفاوض، ولكن من دون مواقف عنترية فارغة.
(عن “الأخبار” اللبنانية)