جماليّات ملك الجليل/ علاء حليحل
تطرح مسرحية “قناديل ملك الجليل” إضاءات وأسئلة تتعلق بالفعل المسرحيّ نفسه وبتفاصيل القصة المرويّة عن حصار طبرية ودفاع وصمود ظاهر العمر الزيداني وقتها، وهي تسجّل علامة مميّزة بلا شكّ في المحطات المسرحيّة الفلسطينيّة المعاصرة
.
|علاء حليحل|
سأبدأ بمكاشفة ضروريّة: الفنان عامر حليحل أخي، وكنت أمتنع دائمًا عن الكتابة عن الأعمال التي يشارك فيها كممثل ومخرج، ولكنّني سأشذّ هذه المرة عن العادة، لأهميّة العمل المسرحيّ، وسأكتب عن “قناديل ملك الجليل” التي أعدّها للمسرح ولعب دور ظاهر العمر الزيداني فيها- ما اقتضى التنويه.
تستند مسرحيّة “قناديل ملك الجليل” على رواية إبراهيم نصر الله التي تحمل نفس الاسم، وهي ككلّ إعداد تختلف ببعض التفاصيل والتقاطعات عن العمل الروائيّ، وهذا حَسَنٌ ومطلوب وحتميّ في الانتقال من وسيط إلى آخر، يتمتّع كلّ واحد منهما بمبادئه ودهاليزه المَبنويّة الخاصّة. وقد نجح الإعداد النصيّ للعمل (عامر حليحل) في صوغ نصّ مسرحيّ دراميّ يتناول المادة الروائيّة التاريخيّة كأساس ومنطلق، من دون الوقوع في فخّ الالتصاق بالمادة الروائيّة، ومن خلال بناء خيط دراميّ واضح يتناول محطات مركزيّة في حياة ظاهر العمر، تبدأ بولادته مع موت والدته، وتنتهي في نهاية الحصار الذي ضربه سليمان باشا على طبريّة التي كان العمر متسلّمها لدى الدولة العثمانيّة. هذه الخيارات والمحطات التي تركّبت منها المشاهد المتلاحقة مصيريّة في تحديد نوع العمل وقوّة الدراما والصراعات التي تحويها، ولو حدث وكانت هذه الخيارات غير سليمة لتهاوى العمل في بعضه أو كلّه، ربّما.
وثمة ترابط جميل وسلس بين القصص المركزيّة: حمايته لامرأة تعرضت لاغتصاب، رحيل عائلته عن طبرية خوفًا من عائلة الرجل الذي اعتدى عليها وقتله ظاهر؛ زواجه من المرأة التي تعرّضت للاعتداء وتأثير هذه الحادثة عليه وعلى شخصيته ورؤيته لدوره كحاكم حين يقول إنّ حلمه في الحياة أن تسير امرأة قاطعة الجليل برُمّته وحدها، بكامل ذهبها، من دون أن يتعرّض لها أحد. هذا المحور من الأحداث عزّز الكثير من الجوانب في مبنى شخصية الزيدانيّ على المستوى الشخصيّ وعلى مستوى تعدد المستويات النفسانيّة فيه كشخصيّة دراميّة- مسرحيّة. وينجح الإعداد والإخراج ببلورة شخصيّة مدوّرة وعميقة للزيداني، وهو الشخصيّة التاريخيّة التي تُختصر عادة بـ “والي الجليل” أو “شخصيّة تاريخيّة بارزة”، إذ تمازجت معالم الابن والحبيب والزوج والأب مع معالم القائد والشيخ الزعيم، عبر تطوّر ذكيّ لم يسمح لأحد الجانبيْن بالتغلب على الآخر، بل سعى إلى خلق تمازج سلس جعل المراوحة بين المحوريْن أداة سرد دراميّة، من خلال التنقل بين الأزمنة والأمكنة في المشاهد المتتالية، ما خلق عالمًا متخيّلًا يراوح بين الحلم والواقع وبين الخرافة والحقيقة.
وفي سياق السرد والإعداد يجب الإشارة إلى القرار الهام والمفصليّ برأيي لدى حليحل والمخرج أمير نزار زعبي، بالاتكاء على السرد المحكيّ في المسرحيّة، أو لنُسمِّها بالكتابة الحكائيّة. نحن كأهل مسرح عرب معاصرين هجرنا هذه التقنيّة في الغالبية الساحقة من أعمالنا، واتبعنا المبدأ الدراميّ الغربيّ المهيمن: الدراما تَحدث ولا تُسرَد. هذا صحيح مبدئيًّا، لكنّ محاولة الخلط بين الكتابة الحكائيّة التي تتولاها شخصية راوٍ أو سارد وبين الكتابة الدرامية المعاصرة هي محاولة تستأهل التفكير والبحث والمغامرة- وهذه المغامرة نجحت –برأيي- في هذا العمل. فالأداء المتميّز والمتقن لفداء زيدان جعل من شخصيتها المزدوجة (كراوية مركزيّة للمسرحية وكحاضنة لظاهر) شخصية مركبة تتنقل بين بعديْن يبدوان متناقضيْن: شخصية مستقلة في العمل تحاور الشخصيات الأخرى في مشاهد دراميّة خالصة، وشخصية راوية تتحدّث إلى الجمهور كاسرة “الحائط الرابع” كما يجدر بهذا النمط المسرحيّ. هذه المراوحة محفوفة بالمخاطر عادةً وأهمّ هذه المخاطر سيطرة إحدى هاتين الشخصيتين على الأخرى ما يؤدّي إلى إفساد المتعة المتخيّلة من الشخصية الأخرى، إضافة طبعًا إلى خطر خمول أعضاء الطاقم الآخرين واستنادهم إلى السرد الحكائيّ المرافق لهم.
زدْ على ذلك أنّ البُعد “الحكواتيّ” في هذا العمل عاد بفائدة أخرى سأسمّيها هنا “الفخامة” التاريخيّة، أو البلاغة السرديّة التي تلائم جدًا جوّ ومكان وزمان الحدث، وهي كلها إحداثيّات غريبة علينا، بكلّ أبعادها: الحيز الجغرافي وتقسيماته وقتها؛ اللغة البدويّة المحكيّة؛ أنظمة الحكم والتعاملات المجتمعيّة. أعتقد أنّ البُعد السرديّ-الحكائيّ في هذا العمل مبرَّر وله حضور مركزيّ في العمل من دون أن يُحبط الأبعاد الدراميّة والجماليّة الأخرى في العمل، وهو أسلوب علينا أن نعيد النظر فيه وفي ضرورة إحيائه ربما، على غرار ما كان راسخًا وقتها في مسرحنا القديم مثل الحكواتيّة ونصوص خيال الظلّ والمحبّظين وغيرهم.
إلى ذلك نضيف أنّ القصة التي تُروى (حصار طبريّة بالأساس) هي قصّة غير عاديّة لنا: إنها حصار مسلم عربيّ لمسلم عربيّ! من هو الخيِّر ومن هو الشرير، من هو المؤمن ومن هو الكافر؟ هذا سؤال صعب، مُحيّر، يمنع المشاهد العربيّ من اتخاذ موقف أوتوماتيكيّ، ويجب على الطاقم أن يعمل جاهدًا لكسب تعاطف الجمهور مع الشيخ الزيداني ضد ممثل خليفة الله على الأرض.
أمير نزار زعبي مخرج يرى في نفسه مصمّمًا للفضاء المسرحيّ، وهو مُحقّ بدرجات كبيرة. فمشروعه المسرحيّ منذ سنوات طويلة يتفاوت في مستوى الأعمال ونوعيّتها، لكنّ ما يوحّدها دائمًا هو الرغبة في البحث والاتكاء على التجريب. تجد ذلك في السينوغرافيا والمِيزَنْسين (المَشهديّة) والنزعة إلى موسيقى مرافقة لا تكتفي بدور الخلفية التقليديّة بل تدخل في ضمن الحدث والشخصيات، إلى جانب ما يمكن تسميته بالمانيفيست الجماليّ الذي يتبنّاه ويسعى لتطبيقه وتطويره دائمًا، وهو مانيفيست يستند بشكل شبه مطلق إلى التجريب وتفكيك العناصر الأساسيّة للعمل الدراميّ وإعادة تركيبها من جديد وفق ضابط فنيّ جماليّ يتغيّر في تفاصيله من عمل إلى آخر، لكنه ثابت في جوهره وأساسه: الرَّسم بالمشاهد. وفي هذا العمل يُلوّن زعبي المشاهد بالخيول والحركة الرشيقة والمهنية بدرجات، وخصوصًا مبارزات السيوف (إسهام متميز لمصممة الحركة سمر كينج حداد). إشارات جسديّة صغيرة تبدأ لدى ظاهر العمر، ثم تتعاظم وتقوى وتسيطر على الشخصيات كلها في أغنية الختام. خيول هي بالأساس الاستعارة الأفضل ربما للزمان والمكان في هذا العمل.
يبرز طاقم الممثلين كله في هذا العمل: عامر خليل، فداء زيدان، أديب صفدي، منى حوا، محمد باشا، علاء أبو غربية وعامر حليحل. يبرزون كممثلين حرفيّين يدركون النصّ وما وراءه، وكلهم يسجّلون حضورًا لافتًا ومثريًا ومقنعًا على الخشبة، إلى جانب الموسيقى الممتازة لحبيب شحادة حنّا والتصميم السينوغرافيّ الخاصّ بزعبي، الذي يعيد للأذهان للحظة ذلك المستطيل من القماش في “إذ قال يوسف” الذي ارتفع وامتلأ بالمياه في ذلك العمل.
حنا السكران!
في بداية العرض سُمع كلام حادّ من طرف القاعة، وبعد برهة، حين قيل على الخشبة “انطفأ القنديل..” وقف أحد الحضور من بين الجمهور وصاح “قناديل العرب هيي اللي انطفأت!”. النزعة الأولى لديّ ولدى من حولي من الجمهور هي الاعتقاد بأنّ هذا ممثل من العمل وسيقف ويعتلي المنصّة، لكنه لم يكن أكثر من شخص سكران! وهكذا جُرّ هذا الشخص خارج القاعة بسرعة، وسط همهمات وتساؤلات، ليعود العرض مجدّدًا.
لقد نجح هذا المشاهد السكران بزعزعة الأمان “المسرحيّ” في القاعة: أمان الممثلين بأنّهم أصحاب القول والفصل، وأمان الجمهور بأنّ العقد المبرم بينهم وبين “المسرح” على ما يرام: نحن ندفع ثمن التذكرة ونأتي للمشاهدة، نكون مأدَّبين ومتعاونين ونصفق لكم في النهاية. والحقيقة أن صديقنا السكران طرح –من دون أي يدري- سؤالًا في غاية الأهميّة: متى تحوّل الجمهور المسرحيّ إلى عنصر سالب مهمّته الوحيدة أن يكون ردّ فعل (مؤدبًا وأيتيكيتيًّا) على ما يجري على الخشبة؟.. لم يكن المسرح هكذا أبدًا، وخصوصًا عندنا نحن العرب. المسرح الذي أبدعه يعقوب صنوع المصري في بداية القرن العشرين كان يعتمد على المناوشات والسجالات والصراخ والغناء من طرف الجمهور، وهكذا فعل أبو خليل القباني السوريّ (ودع عنك طبعًا ثقافة الحكواتيّ الشعبيّ وعلاقته مع جمهور المستمعين). كان الجمهور جزءًا نابضًا من العرض، ويمكنه أحيانًا أن يصعد للمنصّة وأن يلقي خطبة أخلاقيّة عن مسلكيات شخصية معينة في العمل (ما كان يحدث تمامًا مع يعقوب صنوع)…
شكرًا لك عزيزي المشاهد الثمل الذي أعاد طرح هذا السؤال بقوّة، وبالصدفة!
.
إنتاج: “الحكواتي”- القدس ● إخراج وتصميم: أمير نزار زعبي ● إعداد مسرحيّ: عامر حليحل ● تمثيل: عامر خليل، فداء زيدان، أديب صفدي، منى حوا، محمد باشا، علاء أبو غربية وعامر حليحل ● موسيقا: حبيب شحادة حنّا ● حركة: سمر كينج حدّاد ● إدارة إنتاج: جورجينا عصفور ● طاقم تقني: رمزي الشيخ قاسم وعماد سمارة