قراءة في مقالة “ثورات الكتب الرقمية لعصر عربي جديد”/هشام روحانا
المقالة التي كتبها علي حرب ونشرت في صحيفة “النهار” (17/2/2011) تضع “العامل الجديد”، عامل المعلومات والتقنيات، في مركز الحدث وحراكه، فيما يرى هشام روحانا أنّ هذا لاغٍ • نقاش تحليلي في الصميم
قراءة في مقالة “ثورات الكتب الرقمية لعصر عربي جديد”/هشام روحانا
|هشام روحانا|
الفكر المثالي إذ يقرأ
يضعنا المفكر العربي الأستاذ علي حرب مباشرة وبسرعة بالغة أمام ما يقرؤه في “ما يشهده العالم العربي من انتفاضة تونس إلى ثورة مصر…” فيصفه بـ “الزلزال يقلب الأوضاع ويكسر الصورة السائدة”، ومن ثم فهو “حدث… يطوي صفحة ليفتح أخرى (وبعدها) يدخل معها العرب إلى طور جديد…”. بمعنى أننا أمام حدث مفارق لشرطه، منقطع عن ظرفه ومنزوع عن فاعله. العالم العربي ليس سوى مشاهد لما يقوم به هذا الحدث الواقع عليه وقوع الزلزال والذي يفتح من أجله (أي من أجل العالم العربي) الطريق لدخول طور جديد. ولكي لا نسيء الفهم، فأننا أمام “الحدث” بما هو مفهوم محدد، يحمل سمات تجعله يستحق اسمه، وهي وفق الأستاذ علي حرب: 1) “أنه مفاجئ وغير متوقع…. فهو يصدم العقول الغافلة (وماذا مع العقول غير الغافلة؟ هل يصدمها وهل يفاجئها؟) ويزعزع الثوابت الراسخة”؛ وهو أيضًا 2) “…واقعة خارقة تخلق معطيات…. على نحو تتغير معه قواعد اللعبة…. بحيث يجرؤ الناس على قول ما كانوا لا يجرؤون على التفكير فيه أو الهمس به.”؛ 3) ومن سماته أيضًا “أنّ للحدث فرادته إذ هو ينبجس على نحو غير مسبوق ولا منتظر بقدر ما لا يجري على مثال لكي يكسر قوانين الضرورة ويخالف النماذج السائدة “؛ 4) أضف إلى ما سبق “فإنّ الحدث ولكونه يغيّر العلاقة بالممكن، فإنه يغير أنماط التحليل وشبكات القراءة… بحيث أنّ ما كنا نظنه سبباً يغدو نتيجة، وبالعكس؛ 5) وأخيرًا “فإنه لا يمكن القبض على معنى الحدث أو استقصاء أسبابه أو حصر مفاعيله. لا يمكن إنتاج معرفة به تطابق الحال تمام المطابقة.” (وكنا قد بتنا على فكرة كانط الشاملة للشيء في ذاته وغير المقتصرة على الحدث دون غيره.)
إذا ما قطرنا ما يحدث في اليمن والأردن والبحرين وسواها إلى ما تم للآن، فإننا لسنا أمام حدث بل مجموعة أحداث تشكل سوية حركة
إننا إذًا إزاء ما هو مفاجئ خارق، ينبجس أمامنا ككلٍّ مُتعالٍ، خالطا للأسباب بالنتائج بحيث لا يُمكِننا الإحاطة به بالمعرفة الموضوعية. ولو كنا في عصر العجائب المنصرف دون رجعة، لكنا أمام أعجاز هو كإحياء الموتى أو السّير على الماء. إلا أننا أمام “حدثين” اثنين لا حدث واحد: “انتفاضة تونس” و”ثورة مصر” (ولا ندري لماذا يُصرّ الأستاذ علي حرب على منح مُسمّى الانتفاضة لتونس والثورة لمصر، مع أنّ ما قد تم لغاية الآن في تونس أكثر عمقا وجذرية مما قد تمّ في مصر، ذلك لجهة الخروج الكلي للرئيس وعائلته من تونس والتغيير الحكومي فيها وخروج الجيش من المشهد، وهي أمور لم تتم لغاية الآن في مصر). وإذا ما كنا أمام حدثين منفصلين يتكرر الواحد بعد الآخر فإننا أمام ما هو غير مفاجئ بالضرورة وغير خارق أو فريد لكي يتم له كسر قوانين الضرورة، ذلك على الأقل في نظيره الثاني. أما إذا كنا أمام حدث متصل ينتقل من قطر إلى قطر (أو من مصر إلى مصر، إذا أحببت) فأننا أمام ما هو حاصل في نطاق شرطه الموضوعي المقترن بظرفه الذاتي، نجاحه في البلد الأول يغذي نجاحه في الثاني. وإذا ما قطرنا ما يحدث في اليمن والأردن والبحرين وسواها إلى ما قد تم لغاية الآن، فإننا لسنا أمام حدث بل مجموعة أحداث تشكل سوية حركة. وللحركة بما هي كذلك شرطها الموضوعي والذاتي وفاعلها الاجتماعي. فهي إذاً تقع في مجال ما هو اجتماعيّ- أي تاريخي. إنها فعل اجتماعي تاريخي، ويمكن تعقلها ليس من خلال مفاهيم الزلازل والصدمات الخوارق، بل من خلال المفاهيم التاريخية. وإذا ما تمّ لنا ذلك فإننا نغدو ذواتًا فاعلة ومنفعلة لنخرج عن كوننا مشاهدين غافلين.
الشعبوية ما بين الشرارة والعفوية
من غير المفاجئ حقا، أن يقوم الأستاذ علي حرب وفي الشق العيني لمقالته بمحاولة التعرف ولو بشكل غير منهجيّ على تلك الشروط الموضوعية والذاتية لما حدث. فها هو يصف هذه الشروط بـ “الأرض المهيأة، والتربة عطشى. أعني أنّ النفوس كانت تغلي بعدما طفح الكيل… من الاستبداد الغاشم والفساد الفاحش والبطالة المتفاقمة”، ذلك إلى الحد الذي لاحظه هو نفسه عند زيارته لتونس. ويقرر أنّ “ما حصل هو حركة عفوية شعبية” ولكن “لا شكّ أنه كان للمعارضة دورها بعد عقود من النضالات”، ومن ثم يشير إلى المشاركة الواسعة لمختلف فئات الشعب والتي أتت لاحقة للحركة الشعبية العفوية. إلا أنه يؤكد على أنّ من صنع الحدث ليس الداعية العقائدي على أشكاله المختلفة. ويتابع في إعلاء شأن العفوية فيقرّر بأنّ “الثورة يصنعها نهر بشري متدفق بكل ما ينطوي عليه… يصنعها العاطلون كما العاملون، ليس عمال الطبقة العاملة (لا سمح الله) بل العاملون الجدد من عمال المعرفة ومن المشتغلين في قراءة المعلومة على الشبكة”. ونستنتج بأنّ ما قد تم ما كان له أن يتم لولا إشعال البوعزيزي (بالمناسبة هو ليس شابا جامعيا عاطلا عن العمل كما تفضل الأستاذ علي حرب بل هو بائع خضار متجول ومكافح سدت أمامه مجالات الرزق وأهينت كرامته) نفسه بالنار فاشتعلت هذه الشرارة “كالنار في الهشيم”.
محاولة فصل الثورتين التونسية والمصرية عن بعديهما السوسيولوجي العيني والإعلاء من شأن العفوية و”الشعب” لا يصب إلا في خانة فصلهما عن المسار التاريخي لتطور الأحداث
ويتابع فيعلي من شأن الشعب مقابل الجمهور، فالشعب “يتكون من أفراد فاعلين مستقلين”، أما كيف يتحول أفراد الجمهور إلى أفراد فاعلين في ليلة وضحاها فهذا ما لا نجد له جوابًا في هذه المقالة. مقابل هذا التنظير اللا تاريخي، البعيد عما هو سوسيولوجي، أحيلكم إلى الاقتباس التالي من مقالة الأستاذ بول آمار في جريدة “الأخبار” (14/2/2011): “تزامناً مع عودة رأس المال الوطني المرتبط بالجيش والمصطفّ ضد الشرطة (وهو ما حصل أيضاً خلال النضال ضد الاستعمار البريطاني في الثلاثينيات والخمسينيات)، كانت هناك عودة لحركات عمالية قوية جداً وعلى درجة عالية من التنظيم، وخصوصاً بين الشباب. اتسمت سنتا 2009 و2010 بتظاهرات وطنية شعبية، اعتصامات واحتجاجات عمالية واضحة، أحياناً في الأماكن نفسها التي توالدت فيها انتفاضة 2011. وقد انتفضت المناطق الريفية على جهود الحكومة لطرد مزارعين صغارًا من أراضيهم، ومعارضة محاولات النظام لإعادة خلق إقطاعيات الأراضي الكبيرة التي ميّزت الريف المصري خلال أيام السلطنة العثمانية والاستعمار البريطاني. في 2008، رأينا صعود حركة “6 أبريل” مع مئة ألف متظاهر، هي التي تقدمت إضراباً وطنياً عاماً. وفي 2008 وكانون الأول 2010 رأينا بروز نقابات عمال القطاع العام المستقلة. وأخيراً، في 30 كانون الثاني 2011 اندمجت مجموعات نقابية من معظم المدن الصناعية الكبرى لتؤلف “اتحاد العمال المستقلّ”. نظمت هذه التحركات الأحزاب اليسارية الجديدة التي لا علاقة لها بالإخوان المسلمين ولا بالجيل القديم من الناصريين. لا يعرّفون عن أنفسهم بأنهّم معادون للإسلام، بالطبع، ولا يثيرون مسألة الانقسامات العلمانية-الدينية؛ مصلحتهم في حماية المصانع الصغيرة والأراضي الزراعية، والمطالبة بالاستثمار العام في التنمية الاقتصادية الوطنية تتوافق مع بعض مصالح التحالف الرأسمالي الوطني الجديد.”
ولقراءة سوسيولوجية إضافية أقتبس ما قد كتبه الأستاذ ساري حنفي في جريدة “الأخبار” أيضًا، بتاريخ 15/2/2011: “هناك فئتان من الفاعلين في الحركة الاجتماعية: أولاً الشباب المتعلم، غير المنظَّم حزبياً، الذي تفاعل سريعاً مع نشاط الأحزاب والنقابات التي أدّت دوراً يتظلّل هذه الحركة، وأعطاها الزخم اللازم للاستمرار والتعبئة والتأطير. ثانياً، شرائح العمال، المؤطرة نقابياً أو غير المؤطرة، التي أغفلها الكثير من المحللين في محاولة واعية أو لا لطمس بعدها الطبقي. إذاً، هاتان الثورتان في تونس ومصر هما حركتان اجتماعيتان اندمج فيهما، بروعة، البعد الكلاسيكي الطبقي مع البعد المدني الجديد. بُعدان برزت فيهما أهمية الفرد-الناشط في قدرته على تطوير قدرات التبصّر الذاتي، حسب ما بيّنه آلان تورين، فيستطيع الناشط أن يندمج مع بعض البنى وينفصل عن أخرى. وكانت لافتة قدرة بعض الناشطين الشباب، المنتمين إلى حركة الإخوان المسلمين، إذ تبنّوا أجندة مختلفة في الشعارات وطريقة الفعل في هذه الحركة”. أما محاولة فصل الثورتين التونسية والمصرية عن بعديهما السوسيولوجي العيني والإعلاء من شأن العفوية و”الشعب”بوصفه “أفراد فاعلين مستقلين”، والحط من التأثير التراكمي للنضال السابق بأشكاله المختلفة الأوجه والذي هيئ لنجاحهما، لا يصب إلا في خانة فصلهما عن المسار التاريخي لتطور الأحداث. وفي قراءة استرجاعية لهما، بربطهما مع التاريخ الاجتماعي والسياسي السابق لهما، يتبدى بأنّ حصولهما كان أمراً محكوماً بحتمية جدلية منفتحة الاحتمالات لا بحتمية ميكانيكية فجّة بعيدة عن الإرادة الفاعلة للذات بوصفها ذات إنسانية واعية.
المثقف والعولمة
يستثني الأستاذ علي حرب “العمال الجدد من عمال المعرفة” عن مفهومه للمثقف. فالمثقفون عنده هم في موضع النقد وخصوصاً “المثقفون من أصحاب المشاريع الإيديولوجية والثورية التحررية”، فيكيل لهم وابلا من النقد يكرّره بأشكال عدة ويعيد جرّه من مقالات وكتب سابقة. فهم نرجسيون يدّعون الرسولية غارقون في تهويماتهم الأيديولوجية ليتناسى آلافا من المثقفين الذين قبعوا في سجون النظامين ومن المبعدين عن أوطانهم قسراً وآلافاً من هؤلاء الذين رفعوا رايات مناوئة للنظام القمعي وتجاسروا عليه في سنين العتمة والضّياع، وآلافا ممن غذوا الأمل وغنوا للوطن وحافظوا على جذوة النار كي لا تنطفئ. وهو إذ يقصي “عمال المعرفة الجدد” عن مفهومه المحدد للمثقف فإنه يقع في إسار تنظيراته هو. وربما يفعل هذا من أجل إعلاء شأن تقنيات الاتصال الحديثة (فهي مجال عملهم) بما هي، ومن وجهة نظره، نتاج للعولمة أو العولمة بحد ذاتها. فالعولمة عنده هي تقنيات الاتصال الجديدة والتي “تكسر الحواجز والحدود، على النحو الذي يتيح بثّ الصور والحصول على المعلومات بسرعة البرق والفكر”. وهي على ما يبدو، لا تخصّ تلك الظاهرة الاقتصادية، الخاصة برأس المال في طوره الجديد، هذا الطور المتخطي لحدود الدول الجغرافية في مجال الإنتاج والتسويق والتمويل والمستفيد من التطوّر الهائل في تقنيات المعلومات وتبادلها. وهي كما يبدو لا تخصّ ما تفرضه بعنفها على مجتمعات دول الجنوب الفقيرة والمفقرة بفعلها، وكما أنها لا تخصّ على ما يبدو تلك التغيرات البنيوية العميقة على بنى تلك المجتمعات وطبقاتها وأفرادها، بل يأخذها من وجهتها الثقافية فحسب، بما هي بناء فوقي تم تستطيحه وفهمه بعيدا عما هو اقتصادي واجتماعي.
ها هم العرب ينقلبون على من عبث بعقولهم وتاريخهم ويدخلون التاريخ من أبوابه العريضة يدقونها بقبضات فتية ويحطمّون أسوار سجونهم بمعاول التاريخ الأكثر جدة- أي بأدوات تقنياته العابرة للقارات والسلطات
إلا أنه لا شك في أنّ لاعبين جددًا قد بدؤوا الدخول إلى الملعب، بفعل تقنيات الاتصال الحديثة والتي تتيح إنتاج واقع اجتماعي افتراضي، حيث يتم خلق رأي عام جديد انسيابي ومتبدل يتبادل فيه مستخدموه الآراء والمواقف ووجهات النظر ويتجاوز في فعله البنى الطبقية والاجتماعية التقليدية ليخلق فرصاً جديدة للقاء العابر للتراتبات الاجتماعية والأبعاد المكانية وللنوع الجندري ممّا يتيح تشكل أنماط جديدة للفعل الاجتماعي السياسي، معتمدة على تشكل وعي جمعي مبتكر يكسر المفاهيم التقليدية لعلاقات القوة والسلطة، والمتاح والممنوع والمفكر فيه وغير المفكر فيه، كما أنه يفرض البحث عن أشكال جديدة لمفاهيم الثقافة والذات.
وأخيراً، ها هم العرب وبعد أن أ ُشبعوا تنظيرًا حول الحداثة وما بعدها وموت المثقف والأحزاب وأفول الحقيقة والأوطان وخبو الثورات وبعد أن بدا النظام وكأنه قد اكتشف أسرار الخلود الفرعونية، ها هم ينقلبون على من عبث بعقولهم وتاريخهم. وها هم يدخلون التاريخ من أبوابه العريضة يدقونها بقبضات فتية ويحطمّون أسوار سجونهم بمعاول التاريخ الأكثر جدة- أي بأدوات تقنياته العابرة للقارات والسلطات، ليقلبوا السحر على الساحر.
(الكرمل، حيفا)