في حقّ الصوم وعدمه!/ مرزوق الحلبي
يكشف السجال عن الاعتقاد لدى بعض “المتساجلين” بأنّ المتديّن أفضل من سواه، وأنّ على غير الصائم مثلًا أن يُراعي صوم الصائم باعتباره يقوم بعمل جلل أو أنه أفضل من غير الصائم، إلى جانب اعتبار ضرورة امتناع غير الصائم عن الأكل والشرب جهارًا واجبًا أخلاقيًّا أدبيًّا، إن لم يكن جريمة جنائيّة
|مرزوق الحلبي|
لا أفهم قرار السلطة الوطنية الفلسطينية تجريم الآكلين والشاربين جهارًا في رمضان إلّا في سياقه؛ فالسلطة التي تآكلت مصداقيتها السياسيّة منذ آخر انتخابات تحاول التعويض عنها من خلال الاقتراض من الشرعيّة الدينيّة المُضمرة على شكل مناصرة التديّن الشعبي وأنماطه الآخذة بالتشكّل. وهي، بإجرائها هذا، إنما تسير على خُطى معظم الأنظمة السياسيّة والاجتماعيّة العربيّة في استثمارها للسلطة الدينيّة الأقدم في تثبيت سلطة الدولة الأحدث.
بمعنى: المشهد الذي ارتسم بقانون “السلطة الوطنية” ليس غريبًا في الثقافة العربية. ومع هذا فهو يحمل مفارقة فلسفية أخلافية سياسية بالنسبة للأفراد الذين قد يكونون أفنَوا أحلى سني حياتهم في مناهضة الاحتلال ومقاومته وإذ بهم يُحاكمون ويزجّ بهم في السجن لمجرّد أنهم تناولوا شربة ماء أو شطيرة في رمضان، وهم في انتظار الفرج على الحاجز! أو أنّ السلطة العاجزة عن تحرير الإنسان الفلسطينيّ تلجأ إلى محاكمته لمجرّد اختياره عدم الصوم أو لاختياره المجاهرة بعدم صومه أمام مَن هم صائمون!
هذا وحده مُقلق ومُنهك للفلسطينيّ أينما كان. لكنّ السجال الذي دار حول الواقعة يُثير القلق بالقدر نفسه وأكثر، خصوصًا وأنّه كشف الاعتقاد لدى بعض “المتساجلين” بأنّ المتديّن أفضل من سواه، وأنّ على غير الصائم مثلًا أن يُراعي صوم الصائم باعتباره يقوم بعمل جلل أو أنه أفضل ـكصائم ملتزم بالفريضةـ من غير الصائم الراغب في ممارسة حياته كما يختارها لجهة الأكل والشرب في أيام رمضان. وأمر آخر مُقلق، هو اعتبار ضرورة امتناع غير الصائم عن الأكل والشرب جهارًا واجبًا أخلاقيًّا أدبيًّا، إن لم يكن جريمة جنائية.
تمحور السجال، من حيث رغبنا أو لم نرغب، حول الإنسان المتديّن الصائم وضرورة مراعاة مكانته وصومه وجوعه. بمعنى انكفأنا بلغتنا/ ثقافتنا من مجال الإنسان المواطن ذي الحقوق والحريّات ووجوب احترامها وضمانها بمساواة تامّة لمستحقّيها إلى لُغة الإنسان الصائم المتدين كمركز الاجتماع وذروته. وفي هذا أكثر من دلالة على أنّ الاجتماع الذي تريده السلطة الوطنية وأنصار قرارها هو اجتماع فيه الأولوية للتديّن وأحكام الشريعة وسلطة الدين التي تبدو هنا ورقة رابحة لفرض سلطة “السلطة”. وهي بهذا تُراهِن على الفرض والإكراه لا على الحريات والاختيار الإرادي لنمط الحياة الشخصية.
المشهد الذي ارتسم بقانون “السلطة الوطنية” ليس غريبًا في الثقافة العربية. ومع هذا فهو يحمل مفارقة فلسفية أخلافية سياسية بالنسبة للأفراد الذين قد يكونون أفنَوا أحلى سني حياتهم في مناهضة الاحتلال ومقاومته وإذ بهم يُحاكمون ويزجّ بهم في السجن لمجرّد أنهم تناولوا شربة ماء أو شطيرة في رمضان، وهم في انتظار الفرج على الحاجز!
ضمِنت الحداثة، بوصفها اجتماعًا، الحقوق والحُريّات على نحو متطوّر ومنها الحريات الدينية ـ حرية المعتقد والتديّن وممارسة الشعائر والطقوس. وضمنت في الوقت نفسه وبالقدر ذاته من الحماية الحرية من الدين والإكراه الديني لا سيما في الحيّز العام الذي أرادته نظامًا محرّرًا تماما من أيِّ إكراه. نشأ ارتباط حرية الدين بالحرية من الدين من التجربة التاريخية للمجتمعات الحديثة التي شهدت في حقب لها إكراها دينيا واستعمالا عنيفا لسلطة الدين ضد أتباع ديانات مغايرة أو ضد غير المتدينين. بينما شهدت في حقب أخرى قمعا للحريات الدينية والمعتقد الديني واضطهادا لمجموعات دينية. ولا تزال الظاهرتان ملازمتين للاجتماع خاصّة عندما تنتكس فيه الحداثة بوصفها نظاما متكاملا يهتم دستوريا وقانونيا بضمان الحريات ويتدخّل لمنع أي مس بها. ووفق مبدأ التزامن والارتباط بين الحريتين ـحرية الدين ومن الدين- ينبغي أن يظلّ الحيز العام كالشارع والساحة والمطعم والمتجر والحاجز -في السياق الفلسطينيّ- حرّا في اتساعه لكل الحريات، للصائم إذا صام ولغير الصائم إذا أكلَ. وعليها ألا تفضّل أيا منهما على الآخر من حيث منالية الخيار الذي يعتمدانه. لكنها هنا في حالتنا فعلت ذلك مفضّلة المتدين على سواه وسلوكيات دينية بعينها على سلوكيات علمانية أو غير دينية. وهنا، تصير السلطة الوطنية -أو أي سلطة دولة تختار ذلك- وكيلا للدين وسلطته وسلوكياته وتنتفي مساواة المواطنين أمامها.
هذا في مستوى النقاش المتّصل بالحرّيات لكن هناك محورًا آخر للنقاش تمثّل في أنّ البعض، وإن رأوا في قرار السلطة الوطنية الفلسطينية زائدًا عن الحد، اعتبروا إشهار عدم الصيام أمام الصائم مخالفة أدبيّة أخلاقيّة. وهنا، ومن حيث انتبهوا أو لا -اشتقّوا مسألة الأدب والأخلاق من مركزيّة الدينيّ والفرد المتديّن الملتزم بالفروض. ورسموا العلاقة بينهما لصالح المتدين الأجدر باحترام صومه حسب هذا المنطق. وهم بهذا كالسلطة الوطنية “حكموا” غير الصائم ألّا يمارس خياره عدم الصوم علنًا في الحيز العام، لأنّهم صادروه تمامًا لصالح الحريّة الدينيّة التي افترضوا أنها تعلو على الحرية من الدين وبإمكانها أن تحاسبها، إن لم يكن بتشدّد فبلهجة تأنيب وتوبيخ.
وهنا يتحتّم التأكيد بشكل غير قابل للتأويل أن التزام المتدين الصائم بفريضة الصوم هو خيار فردي في أساسه “الامتناع” عن الإتيان بسلسلة أفعال. بوصف الصوم سلوكا دينيا فرديًا اختياريا لا يُقيم على الآخرين أيّ واجب أو فرض ناحية الصائم، لا بلغة الحقوق ولا بلغة الشَرع الديني. أما المتغنين بأشكال إحياء رمضان في السابق والتسامح الذي ساد بين الصائمين من أهل الله وغير الصائمين -أو بلغة أوضح بين مسلمين ومسيحيين- فهذه رومانسية أو حنين مردّها إلى احتمالات عديدة. ولأني على طاقات إيجابية عقلانية أرجّح أنّ الأمر قد يكون حصيلة تفاهم الجيران في إطار جيرتهم وعيشهم المشترك وتدبّرهم أمر مناسباتهم من دون وسيط أو وصاية من أحد. وأرجّح، أيضًا، أنّ الأمر وليد ثقافة هويّاتية تقوم على توكيد الجامع الوطني العروبي الاجتماعي على حساب المكونات الأدنى من دين وعقيدة. وهي “ثقافة” تتواضع في التعامل مع المكوّنات وتُبرز الجامع ويمتنع الواحد في إطارها عن استظهار صومه أو صليبه أو ألوانه الخمسة لصالح قِيَم تُعتبر أهم وأنبل. لكن ما العمل أن هذه الهوية قد اهتزت ورُكّبت الآن أكثر على العقيدة الدينية واستظهار رموزها وطقوسها وصارت الغلبة فيها للأكثر عددا؟
في الراهن الذي يتسم بفائض دين وتدين، بعنف متعدّد الأشكال باسم الدين ووفق أحكامه، وبقتل أتباع ديانات أخرى على أساس الاختلاف أو تُهمة “الكُفر”، في وقت تتسع فيه دائرة المجزرة باسم الأديان، حريّ بنا أن نلتفت أكثر للحرية من الدين والمعتقد ولموضوعة الاختلاف. صحيح أنّ هناك شعورًا عامًّا في ربوعنا بالمظلوميّة قبالة المحتل الإسرائيلي أو سياسات الاضطهاد أو قُبالة الغرب بوجه عام. وقد يتطوّر هذا الشعور إلى شعور بالهزيمة يصير فيها الدين ملاذًا- هذا مفهوم؛ لكن لا يُمكن التسليم بأن يصير الدين إكراها أو سوطا يُساط به الناس ويُساقون به إلى السجن.
في إسرائيل الرسمية الراهنة يبدو تفضيل اليهوديّ على العربيّ “طبيعيًّا” وقد تحوّل إلى سلسلة من القوانين والأعراف والسياسات ـ واعتقادي أن الأمر مرفوض على كل واحد منّا جُملة وتفصيلا ـ وبالمستوى نفسه علينا رفض أي تفضيل للمتدين على سواه في مجتمعنا أو وقف الحيز العام للديني على حساب غير المتدين أو الملتزم بالشعائر. لأن التفضيل يمنح المتدين أو المتاجر بالدين “شرعية” لمنع “رمضان ماركت” أو سباق عدو أو مهرجان أو عرض موسيقي أو فني. لكن الأمور بدأت في رأيي عندما أخذ المتدينون في مجتمعنا حق مصادرة أعمدة الكهرباء للدعوة الدينية واعتبار الديني أهم من الوطني والمدني. أو عندما تنازل العلمانيون وغير المتدينين عن الحيز العام لصالح “الدين” وشعارات تعد بالجنة وتؤنّب غير المحجّبة وتعاتب الذي لا يصلّي. الأفضل أن تُترك علاقات الناس اليومية بين متدين وعلماني أو بين صائم وغير الصائم للناس يحسمون أمرهم فيها، من دون تكريس الحيّز العام لأيّ منهم على حساب الآخر. فإذا راعى أحدهم خيار الآخر فهذا قراره الذي ينبغي ألا تتدخل السلطة/ الدولة فيه، وإذا لم يفعل فلن يُحسَب ذلك جرما ولا جنحة ولا خطأ أدبيًّا أخلاقيًّا لأنّ له بالأصل، وفق رؤيتنا، الحقّ المساوي الموازي في قيمته ونفاذه ألّا يلتزم بالصوم وسواه من فرائض، وأن يختار الأكل والشرب كما يرتئي. فلا صوم الأول يمسّه ولا أكله هو يمسّ صوم الشخص قُبالته.
7 أغسطس 2017
ارى ان مقالك يحوي بروباغاندا منظمة لعلمنة المجتمعات المسلمة الامنة باعرافها وشريعتها..انصحك ان تنفث سمومك التحريرية في اسمال وتحرقها ودع عنك العدو في مضمار قاسم امين فقد سبقك فيه بسنين وما جنى فيه ناقة ولا جملا.
4 يونيو 2017
السلام عليكم.
مقال رائع جدا. تحضرني حادثة صغيرة حدثت معي قبل خمس سنوات حيث دعيت الى جلسة عمل في رام الله في رمضان. كنت برفقة صديقي- طيب الذكر، احمد حجازي.. اشتد بنا الجوع والعطش، مع ان الجلسة كان من المزمع عقدها بعد وجبة الافطار. مع ذلك، اقتنينا كعك بسمسم وفلافل.. أين اكلنا؟ اختبأنا في المركبة كما لو اننا نقترف جريمة ما بحق احد ما!.