في امتداح المثليات: انطباعات رجل غيْريّ

سبتمبر 3, 2010 كويريات, مواضيع ساخنة | 6 comments

>>

|ياسر عبدالله|

إلى آلكسندرا، صديقتي ثنائية الميول، التي حررت الأنثى التي بداخلي.

(قبل القراءة: إحداثيات هذه الانطباعات في الذاكرة ناشئة عن الاقتراب من مجتمع المثليين القاهريّ وهي لذلك لا تخصّ سوى هذه المدينة، على الرغم من تعميماتها النظرية التي تصحّ بدرجة أو بأخرى على مجتمعات غير قاهرية، ولا ينبغي إتخاذ هذه الانطباعات ذريعة لإتخاذ أية أفعال عدوانية ضد المثليين، إذ أنّ هذه الانطباعات -رغم انطلاقها من تحليل مفاده لا ثورية المثليين الذكور وخضوعهم التام لقوانين مجتمعهم- غير أنها لا تعني أبدًا عدم أحقيتهم في الاختلاف علنًا وبأية صورة كانت، وأية أفعال عدائية تتخذ هذه الانطباعات وتحليلها ذريعة لها هي مسؤولية صاحبها. فتحليلات ماركس لانتهازية البرجوازية الصغيرة وتردّدها أثناء الثورة ليست مسؤولة بأيّ حال من الأحوال عن أفعال ستالين ضد هذه الطبقة، فالتحليلات حرة أما الأفعال فلا.)

“المثلية الذكورية أمر قبيح وكريه، وبعد اقترافها يشعر الرجال بالاشمئزاز من أنفسهم، فيشربون ويتناولون المخدّرات لتسكين آلامهم، لكنهم يشمئزون من الفعل فيغيرون شريكهم دائمًا و لا يمكنهم الشعور بالسعادة حقًا… بالنسبة للنساء، فالأمر على عكس ذلك، لا يفعلن شيئًا يتقززنَ منه، وليس هناك شيء منفر، وبعد ذلك يشعرن بالسعادة، ويمكنهن أن يعشن حياة سعيدة معًا.”

(الآنسة جروترود ستاين موجهة حديثها إلى أرنست همنجواي[1])

لسبب ما لا أدريه يقينًا -يدريه لا وعيي تمامًا، فهو مزيج من عقدة إخصاء مرتبطة بعقدة الخوف من الاغتصاب-  أصدّق رأي الآنسة ستاين؛ فاصطدامي الأول بالمثليين الذكور، في بدء صباي، يرتبط بمحاولات تحرش دائمة من قبل المثليين، الإيجابيين والسلبيين على حد سواء، ولا زالت ذاكرتي تحتفظ بمشاهد ما من أول عام في مرحلتي الثانوية، حيث اعتاد بائع عجوز في كشك صغير التحرّش بتلاميذ المدرسة وإمساك قضبانهم بصورة مكشوفة.

تنطلق المثلية النسائية من تناقض جذري مع المجتمع الذكوري، تناقض مع أهمّ قيمه، وأيقونته المكرّسة في لا وعيه، تناقض مع القضيب، أنها بتنازلها عن الذكر تعيد تأسيس حقّ غاب منذ أن اكتشف الإنسان سرّ الجماع، ” في العصر الحجري القديم كان الإنسان يجهل العلاقة بين الجماع والحمل والولادة“. لذا أعتقد في وجود سرّ مقدس للمرأة يجعلها إلهة مقدسة، ومع اكتشاف الزراعة ربط بينها وبين الأرض التي تعطي الحياة للبذرة، لكنه ومع نفس الاكتشاف كشف عن سرّ القضيب والمني: “ إنها فترة التاريخ التي تعرف فيها البشرية القضيب، وتكتشف دور الذكر في عملية الإخصاب”[2]

مع اكتشاف دور الذكر تبدأ أهم عملية تحول في التاريخ، من حكم النساء Geneocracy، إلى حكم الرجال، مع ما يستتبعه ذلك من تغيير حاد في النظم العقائدية والجنسية، يتراجع حق الأم لصالح حق النسب الأبوي، ويفسر باخوفن في كتابه عن الحق الأمومي Das Mutterrecht  الثلاثية الأوريستية لإيسخيلوس تبعًا لذلك؛ فالإيرينيات الحاميات لحق الأم تطاردن أرويست جراء قتله لأمه التي قتلت أبيه، وتحاجج ضد أوريست بأنّ أمه كليتمنسترا لم تكن مرتبطة مع أبيه برابطة الدم (الأمومية)، بينما قتل هو أمه، منشأ رابطة الدم تلك[3].

من وقتها، بدأت عبادة الفالوس –ولم تنتهِ سوى في شكلها التعبدي– وتراجع دور البظر –بل تم تفسيره من قبل فرويد على أنه قضيب لم يكتمل– لصالح القضيب المتربع الأبدي على العرش. المثليات إذًا يوجهن بعلاقتهن المستغنية عن الذكر سؤالاً هامًا وجذريًا لسيطرة القضيب الأزلية تلك: هل من الممكن التنازل عن القضيب لصالح متع أخرى متولدة عن المداعبة؟ هل يمكن التنازل عن الإيلاج –فخر العبادة الفالوسية وتاجها؟ هل يمكن التنازل عن القذف –سرّ الحياة في النظرية المتحورة حول القضيب؟

مع السيطرة القضيبية تنشأ مبادئ عدة كلها قامعة للأنثى وسر متعتها؛ الختان بصفته حزامًا للعفة –قطع البظر العضو الأكثر إثارة لغضب عبدة القضيب؛ البكارة بوصفها إراقة لدم مقدس من قبل عضو مقدس –الفالوس– يجب دفع دية الدم –المهر– بسبب حدوث هذا الإهراق؛ الفحولة بصفتها الشيء الأكثر أهمية في مجمل عملية الجنس والتناسل.

تضرب المثليات هذه الفرضيات –أو على الأقل تسعين لضربها؛ فالفالوس قامع أبدي: “يغتصب الرجال لأنّ لديهم السلطة واللغة والمال والمعرفة والقوة والقضيب”[4]. ومركزيته ليست عدو المرأة فقط، “فالرجال يخسرون بموجبها على نحو مختلف عن خسارة النساء ولكن بنفس القدر من الجدية”[5]. فمع مركزية القضيب تنشأ مركزية الفحولة ويظل الرجل مهددًا داخليًا بهاجس العجز الجنسي وعدم الإنتصاب الكامل –صدى آخر لعقدة الخصاء الفرويدية– ويقمع الرجل المرأة بداخله، ويحقر أشكالًا أخرى من العلاقة بينه وبين المرأة –الفتيشية، الحب السحاقي بدون إيلاج بين رجل ومرأة- ويختصر مجمل عملية الحب في ثلاث مراحل لا غير: إيلاج وقذف وإخراج. وبعد القذف يكتشف حزنه Post coitum omne animal treste، ولكي يتغلب على حزنه يلقي الخطب والشعارات وينعت المرأة بالمازوخية وبالسلبية ويلومها على كل شيء حتى وجودها.

تحاول المثلية النسوية الخروج من هذا الخضوع، الخضوع الذي يشكل وجود القضيب سببه الأول بمركزيته الفكرية واللغوية وقدرته على الثقب؛ أنها كأنثى مواجهة منذ البدء بترسانة أسلحة لغوية كلها تمجد في القضيب وتضعها في موضع أدنى؛ “ركب وفتح وخيط وحاك ودق”- كلها ألفاظ ذات دلالات جنسية في العاميات العربية، “بطة وفرسة ووتكة –من وتد وهو الذي يدق في الأرض– وشاسيه –من شاسيه السيارة وهو ما يركب عليه الجسد المعدني– كلها ألفاظ ذات دلالة مرتبطة بالأنثى في نفس العاميات، تحاول المثلية النسائية الخروج من علاقة الوطأ وعلاقة الراكب والمركوب وإعادة الإعتبار لعضوها الأنثوي كعضو له الحق في الحياة والمداعبة بدلاً من وصفه اللغوي: “وسمي كذلك من الكَسّ، وهو الدق، لأنه يدق دقًا شديدًا”[6].

على العكس تمامًا من المثلية النسائية تنطلق المثلية الرجالية من تقديس القضيب، ويفاخر المثليون الذين تحدثت معهم بطول قضبان الرجال الذين ناموا معهم. لم تتحرر المثلية الرجالية –وأنى لها ذلك– من الخضوع لذلك الإله المخفي، الفالوس، لذا تقدسه وتسعى بشتى الوسائل للحصول عليه، بما يتضمنه ذلك من الخضوع لهيمنته الفكرية والرمزية، والتحرش الجسدي وعدم احترام حدود الغير الصادر عن المثليين الرجال هو شكل من أشكال تقديس القضيب. فالتحرش في منشئه ليس إلا رغبة قضيبية في التعبير عن العداونية الذكورية؛ فالذكور من أيّ جنس، شأنهم شأن الديكة الرومية، تنظر لبعضها شزرًا حتى تحمرّ وجناتها الدهنية ثم تضرب بعضها حتى الموت ظنًا من كلّ واحد أنّ الآخر يرغب في قتله. ويتواشج مع التقديس الخفي والمعلن للفالوس تقديس خفيّ ومعلن أيضًا للفحولة في شكلها الأكثر بدائية.

هكذا تُصَدِر المثلية الرجالية مفاهيم الطلة القبيحة Dirty look ومفاهيم القبح الرجولي بإعتباره قمة الجمال، على عكس ما تطلبه المرأة العاشقة  “كل الرجال لطفاء، فبدون الرقة فالرجل غير مثير”- كما قالت مارلينيه ديتريش[7]، المتهمة بعلاقات مثلية لهروبها من تحت السيطرة القضيبية وبحثها عن الجمال الرجالي الرقيق.

على عكس ما يذهب إليه أوكتابيو باث في كتاب “اللهب المزدوج” عن استثنائية سافو في الأدب الإغريقي قائلاً  “إنّ المثلية النسائية على عكس الرجالية لا تكاد تظهر في الأدب الإغريقي”، أرى أنّ ذلك غير استثائي على الأطلاق؛ فالمثلية النسائية قمعت بصورة كبيرة لإحتوائها على تهديد لعرش القضيب، وظلت مجرد كابوس وهاجس ممثلاً في الأمازونيات قاطعات الأثداء، على عكس المثلية الرجالية التي تم قبولها في المجتمع الإغريقي والمجتمعات التالية له –وإن حدث هذا بصورة هامشية. فالفكر الإسلامي على سبيل المثال لا يذكر سببًا وجيهًا ضد المثلية النسائية سوى أثر  ضعيف مرويّ كحديث عن سحاق النساء ومساواته بالزنا، ولا يذكر السبب الحقيقي إلا كزلة لسان في القاموس المحيط على لسان شاعر مجهول أنشد شعره أبو حيان قائلاً:

يا عجبًا للساحقات الدرس ……… والجاعلات الكس فوق الكس

(والدرس طحين القمح ومن معانيه أيضًا الحيض. ويقال للفرج أبو درس)

ويبدو هذا القبول في مجتمع القاهرة جليًا، فعلى الرغم من التحريم الديني للمثلية الرجالية، يتجمع المثليون في تجمعات واضحة وجلية ومعلنة في ميادين عامة، كميداني رمسيس والتحرير، وهو فعل مستحيل على المثليات، لا لكونهن كذلك ولكن لكونهن أناثًا منتهكات دومًا، وفي نهار شهر رمضان الجاري يمكن مشاهدة رجال يداعبون بعضهم مداعبات واضحة وصارخة في مثليتها من دون أن توجه لهم أية تهمة ودون حتى أيّ سؤال من دوريات الشرطة التي تجوب تلك الميادين، وذلك على العكس تمامًا من سلوك نفس الشرطة تجاه فتى وفتاة يقمن بنفس تلك الأفعال، وبخاصة لو كان ذلك في نهار رمضان. لذا يقنع المثليون القاهريون بموقعهم هذا وحتى وإن كان مهينًا، فهو يوفر لهم القضيب المعبود الأسمى، وعلى العكس مما يعتقد البعض، يبدو الذين تحدثتُ معهم في سرور بالغ لحالة المجتمع المنغلقة جنسيًا، فهذا الإنغلاق يوفر لهم فرصًا لاصطياد –والتعبير لأحدهم– الرجال، على عكس مما لو كان ذلك المجتمع منفتحًا.

ليست كل الأشكال المختلفة من العلاقات المثلية النسائية سوية، ففيها أيضًا تتواجد علاقات غير سوية بين أنثى مسيطرة وأخرى مسيطر عليها، في تلك العلاقة تحتل المسيطرة مكان القضيب الغائب وتحلّ محله. ورغم غياب فعل الوطأ جسديًا يظلّ فعل الوطأ معنويًا ممثلاً في علاقات السيطرة، وليست هذه العلاقات بنادرة بين المثليات. وهناك شكل آخر من العلاقات المثلية يتم فيه رفض الذكر نهائيًا والانعزال في معازل نسائية بحتة –مقاهٍ ومطاعم– محرم فيها دخول العلاقات، وهذه العلاقات الأخيرة تعدّ الشكل الأكثر تطرفًا للمثلية النسائية وهي لا تسهم في التحليل الأخير إلا في تكريس عزل النساء وحجزهم داخل دور الحريم وإن اختلفت المُسمّيات.

ليس في انتصار المثلية النسائية ما يفزع الرجال، أنه تحرير لهم من عبودية قضيبهم وتحرير الأنثى اللعوب الكامنة داخل كل رجل –تتحدث الطاوية دائمًا عن تناغم الين واليانج، الأنوثة والذكورة، ذلك التناغم المحرّم على الرجال كونهم يقمعون ميولهم الأنثوية. كم من رجل خجل أن يعترف أمام حبيبته برغبته في أن تقبله خلف أذنيه أو تمصّ بشفتيها حلمتيه؟ وكم من رجل عاش عمره خائفًا من عدم انتصابه وأصابه ذلك بالعصاب طوال ممارسة الجنس حتى بدا القذف خلاصًا من التعب؟ إنّ انتصار المثلية النسائية وإنزال القضيب عن عرشه سيعني الكثير: “لكل أولئك الذين يعانون الحب: العاجزين جنسيًا، الجامدين، الخائفين، القاذفين قبل الآوان، والقاذفين لفترات أطول مما يجب، للرجال المرتعبين من النساء وللنساء المرتعبات من الرجال”[8]، سيحدث ذلك بتحرير الجنس من علاقة السائد والمسود، الراكب والمركوب، وهو ما تساهم فيه المثلية النسائية على أكمل وجه، بينما تخضع له المثلية الذكورية بلا أدنى مقاومة.

إن أولئك المُقَدِسين للقضيب عبدة الفالوس الخفيين “قد يعتبرونه تجديفًا أن ينطلق الإنسان في حياته وهو يصرخ بفرح مثل البولينزيين القدامى قائلاً: ليصبح قضيبك قادرًا على الاختراق، حيث ستكون الإجابة المهذبة وبرفق: وليصل بظرك إلى الذروة.”[9]

(كاتب ومترجم مصري)

[2] بو علي ياسين – الثالوث المحرم.

[3] إنجلز – أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة.

[4] النساء .. وداعًا للذكورية الدائمة – ترجمة: غادة نبيل – مجلة العصور الجديدة – العدد السادس فبراير 2000. ( وقد استفدت كثيرًا من ترجمات غادة نبيل في هذا العدد وغيره من الأعداد.)

[5] المصدر نفسه.

[6] القاموس المحيط مادة ( ك س س ).

[7] يولان تشانج – فنون الجنس الطاوية – ترجمة: أحمد عمر شاهين- مجلة العصور الجديدة العدد السادس. (نشرت ترجمة هذا الكتاب مسلسلة ثم توقفت فجأة، ربما بسبب موت المترجم، وحتى الآن لم يصدر هذا الكتاب كاملاً، والجنس الطاوي يوجه أسئلة جذرية لمركزية القذف والقضيب في الفكر الغربي والإنساني).

[8] الكتابة في العتمة- ترجمة: غادة نبيل – العصور الجديدة – العدد السابع مارس 2000.

[9] المصدر نفسه.