فقدان الأب وعودة الابن الضال في “وبمزيد من الحزن والأسى”
هاكم تحليلا نفسانيا مثيرًا ومليئًا بالحدي لمسرحية “وبمزيد من الحزن والأسى”: إننا، ويا للعجب، أمام احتفال ذُهانيّ، ما بعد حداثيّ، يُقام في ذكرى زعيم حزبي يحمل مشروعًا حداثيًا لمجتمع لم يتجاوز بعد خطواته الأولى في حداثة ما زالت رثة!
فقدان الأب وعودة الابن الضال في “وبمزيد من الحزن والأسى”
|د. هشام روحانا|
من الممكن الخلوص وبشكل علمي دقيق إلى أن هذا العرض المسرحي الذي يقدمه الفنان عامر حليحل (تأليف وإخراج: نزار زعبي)، هو عرض ذُهانيّ (psychotic) بامتياز. فبعد تفحّص الأدلة يتبين لنا أننا لسنا في خضمّ مهرجان تأبينيّ “للقائد الرّاحل” (زعيم الحزب) بل نحن أمام حالة تتفاقم فيها أعراض هذا الذُهان لتصل ذُروتها في العرض المقدّم أمامنا على شكل أهتياج هذياني.
يفترض الذُهان وجود حالة من فقدان الصلة مع الواقع، أي أنّ الذات تفقد صلتها مع الواقع الحقيقي فتعيش داخل بناء هذياني تنسجه من التهيؤات والأوهام. ويكشف لنا مقدّم العرض (سأدعوه الابن الضّال)، من حيث لا يدري، عدم توفّر أيّ أثبات ملموس على وجوده بقرب الزعيم الفقيد؛ فلا الصّور تثبت هذا ولا الحضور يثبتون هذا. فالأشخاص المَدعوون إلى الحفل لم يحضروا، وحتى هؤلاء المدعوين إلى المنصة للكلام، فبقي متكلمًا وحيدًا ممّا يدعونا إلى الشكّ في حقيقة واقعية هذا الحفل التأبيني بمجمله. أي أنّ هذا الحفل التأبيني لا يجري إلا في ذهن هذا الابن الضال.
ومن ثم فإنّ الذُهان يفترض وجود قصور في التكيّف الاجتماعيّ وفي ملكة التواصل مع الآخرين وفي غياب الوعي الذاتي بالحالة المرضية وجميعها ظاهر في النصّ المقدّم. ومن أهم الأعراض الذهانية تفاوتات تقدير الأنا لذاتها: فساعة تكون مرتفعة عالية (هو الذي كان يكتب الخطابات للزعيم؛ قام الزعيم باقتباس أفكاره) وساعة تكون في الحضيض (لست سوى ذَنَب). وفي حالات تفاقم الهذيان الذهاني تفقد اللغة ركائزها المنطقية وتتجلى لنا اشتقاقات وقواعد لغوية خاصّة بالذُهاني. وعليه، فإنّ “الأخطاء” اللغوية” الموزعة على طول النصّ ليست إلا عارضاً ذُهانياً خالصا. إننا أمام مشهد تفقد فيه اللغة قانونها النظاميّ.
مما تقدم يبات لزامًا عليّ تقديم فرضيتي الأولى وهي: ليست هناك علاقة حقيقية بين هذا الابن الضال وبين الزعيم الراحل؛ فنحن لسنا إلا أمام أزمة ذُهانية حادّة! ويفترض التحليل النفسانيّ وجود آلية نفسانية خاصة لنشوء الذُهان، فلا بدّ للعلاقة الثنائية الطفل-الأم (مضافا إليهما الفالوس في المثلث الأوديبي لدى فرويد) من ناظم يقوم بفرض القانون، ويسمى هذا الناظم باسم الأب (الأب الرمزيّ). إنّ انعدام أو أقصاء اسم الأب عن هذه العلاقة الثنائية هو ما يتيح للذات ولوج حالة الذُهان.
حالة الذُهان هذه هي محاولة لردم الهوة الناشئة عن إقصاء الأب مما يؤدي الى إنشاء بناء هُذيانيّ وهميّ يُستعاض فيه عن الاب بالزعيم الحزبيّ. ويقوم الزعيم الحزبي هنا مقامَ الأب، ثم يقوم الابن الضال بالبحث عن اسم الأب في شخص الزعيم الحزبي، إلا أن هذا الزعيم الحزبي ليس سوى بشرٍ؛ فهو يموت وهو يحلم بشراء البصل.
ثمة هوة ما بين الرمزيّ (اسم الأب، الزعيم، المبدأ) وبين الواقعيّ (“ما أكبر الفكرة ما أصغر الدولة”- محمود درويش).
حالة الذُهان هذه هي محاولة لردم الهوة الناشئة عن إقصاء الأب مما يؤدي الى إنشاء بناء هُذيانيّ وهميّ يُستعاض فيه عن الاب بالزعيم الحزبيّ
تقول فرضيتي الثانية إنّ الأزمة الذهانيه الحادة هي الشكل أو الهيئة التي تتخذها ردة فعل الهامش على ما بعد-الحداثة المُتعَولمة. فإذا ما كان العُصاب بحسب جورج طرابيشي هو الشكل الذي يتخذه ردّ فعل المثقفين العرب (“المرضى بالغرب”) على حداثة الغرب، فإنّ الذُهان هو شكل هذا الردّ على ما بعد حداثته. وإذا ما كانت الحداثة تفترض وجود ذات تنويرية موحّدة متكاملة تتمتع بالقدرة على الوعي والفعل من أجل الوصول إلى قيم ثابتة “نسبيًا” كالحرية والعدالة والمساواة، فإنّ ما بعد الحداثة تفترض انفصام الذات أي تشظيها وتحوّلها المستمر، كما تفترض أنعدام أية حقيقة ثابتة موضوعيًا لينهار المقدس أمامها بالكامل.
إننا إذًا، ويا للعجب، أمام احتفال ذُهانيّ، ما بعد حداثيّ، يُقام في ذكرى زعيم حزبي يحمل مشروعا حداثيا لمجتمع لم يتجاوز بعد خطواته الأولى في حداثة ما زالت رثة، يأكل نسيجها عثّ العائلة والفئة والطائفة. محتفلاً بذَنَبِه يقوم أبنُنا الضال فيجهز على ما تبقى له من اسم الأب وعلى ما تبقى له من أمل يتجاوز به وفيه هامشَه الذي يرتضيه بديلاً، ليبقى وحيدًا في ذُهان لا براء منه.