فصل من رواية ”وحدها شجرة الرمّان“ لسنان أنطون
خرج أربعة أو خمسة رجال ملثمين يرتدون الخاكي ويحملون رشاشات وركضوا باتجاهنا. حاولت أن أحميها بيدي اليمنى، لكن أحدهم كان قد وصل إليّ وسدّد ضربة قوية بأخمص رشاشته إلى وجهي وأسقطني أرضاً ثم ركلني في بطني وخصري وظهري عدّة مرات
فصل من رواية ”وحدها شجرة الرمّان“ لسنان أنطون
…
|سنان أنطون|
ننشر هنا فصلاً من رواية سنان أنطون الجديدة الصادرة بعنوان ”وحدها شجرة الرمّان“ عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، تموز ٢٠١٠
كانت تنام عارية على دكّة مرمر في مكان مكشوف بلا جدران أو سقف. لم يكن هناك أحد حولنا ولا شيء على مدّ البصر سوى الرمل الذي ينتهي عند الأفق الذي كانت تسرع نحوه، وتختفي فيه، غيوم احتشدت بها السماء تناوبت على حجب أشعة الشمس. كنتُ عارياً وحافياً ومندهشاً من كلّ شيء. أحسستُ بالرمل تحت قدميّ وبريح باردة بعض الشيء. اقتربتُ ببطء من الدكّة لأتأكد من أنّها هي. متى ولماذا عادت من الغربة بعد كلّ هذه السنين؟ كان شعرها الأسود الطويل مكوّماً إلى جانب رأسها وقد غطت بعض خصلاته خدها الأيمن، كأنه يحرس وجهها الذي لم تغيّره السنين. الحاجبان مُشذبان بعناية والجفنان مسبلان ينتهيان برمشيها الكثيفين. كان أنفها ساهراً على شفتيها المليئتين وكانتا مصبوغتيْن بلون ورديّ كأنها مازالت على قيد الحياة أو أنها ماتت للتوّ. كانت الحلمتان منتفضتين فوق النهدين الكُمّثرييْن ولم يكن هناك أثر للعمليّة. كانت يداها مشبوكتين فوق سرّتها والأظفار طويلة مصبوغة بلون شفتيْها الورديّ. عانتها حليقة وأظافر قدميها مصبوغة بالورديّ هي الأخرى. تساءلتُ في سرّي هل هي نائمة أم ميّتة؟ خفتُ من أن ألمسها. تفرّستُ في وجهها وهمستُ باسمها: ريم. فابتسمتْ دون أن تفتح عينيها في البداية، ثم فتحتهما وابتسم السواد في بؤبؤيهما أيضاً. لم أفهم ما كان يحدث. سألتها بصوت عال:
- ريم! شتسوّين هنا؟
كنتُ على وشك أن أحتضنها وأقبّلها، لكنها حذّرتني:
- لا تبوسني. غسّلني أوّل حتى نكون سويّة وبعدين. . .
- شنو؟ بسْ بَعْدِچ طيَْبة. ليش أغسْلچ؟
- غسّلني حتى نكون سوية. اشتاقيتلك هْواية.
- بس إنتي مو ميتة.
- غسّلني حبيبي. غسّلني حتى نصير سويّة.
- إِبّيش؟ ماكو شي هنا؟
- غسّلني حبيبي.
بدأ المطر يتساقط. أغمضتْ عينيها. مسحتُ قطرة عن أنفها بسبابتي. كانت بشرتها ساخنة ممّا يعني بأنها حيّة. بدأتُ أمسّد شعرها. سأغسلها بالمطر! ابتسمتْ كأنها سمعتْ ما فكرتُ به. مسحتُ قطرة أخرى استقرّت فوق حاجبها الأيسر. خُيّل إلى بأنّي سمعت صوت سيارة تقترب. التفتّ فرأيت همڤي تقترب بسرعة جنونية وتخلّف وراءها ذيلاً من الرمل المتطاير. استدارت فجأة وبعنف نحو اليمين وتوقفت على بعد أمتار منّا. فُتِحَت أبوابها. وضعتُ يديّ على عورتي. خرج أربعة أو خمسة رجال ملثمين يرتدون الخاكي ويحملون رشاشات وركضوا باتجاهنا. حاولت أن أحميها بيدي اليمنى، لكن أحدهم كان قد وصل إليّ وسدّد ضربة قوية بأخمص رشاشته إلى وجهي وأسقطني أرضاً ثم ركلني في بطني وخصري وظهري عدّة مرات. أخذ واحد آخر يجرّني من ذراعي بعيداً عن الدكّة. لم يقل أيٌّ منهم شيئاً. كنت أصرخ وأشتمهم لكنّي لم أسمع صراخي. أجبراني على أن أركع على ركبتيّ وقيّدا معصميّ بسلك ثم وضع أحدهما سكيناً على عنقي بينما عصّب الآخر عينيّ. تداخلتْ ضحكاتهم مع صرخات ريم وحشرجاتها التي سمعتها بوضوح. حاولتُ الإفلات منهما لكنهما كانا يمسكان بي بإحكام. صرختُ ثانية لكني لم أسمع صراخي. فقط صراخ ريم وضحكات الرجال وآهاتهم وصوت زخات المطر. أحسست بألم حاد و بالسكين الباردة تخترق عنقي. سال الدم الحار على صدري وظهري. سقط رأسي على الأرض وتدحرج على الرمل ككُرة. سمعتُ وقع خطًى تقترب. نزع أحدهم العصّابة عن عينيّ ووضعها في جيبه وابتعد بعد أن بصق عليّ. رأيت جسدي إلى اليسار من الدكّة راكعاً وسط بركة من الدم. كان الثلاثة الأخرون يعودون إلى الهمڤي واثنان منهم يسحلان ريم من ذراعيها. حاولتْ أن تدير رأسها إلى الوراء نحوي لكن أحدهم صفعها. صرختُ باسمها لكني لم أسمع صوتي. وضعوها في المقعد الخلفي وأغلقوا الأبواب. سمعت صوت المحرك. ابتعدت الهمڤي بسرعة واختفت في الأفق. وظلّ المطر يزخّ على الدكة الخالية.
استيقظتُ لاهثاً ومبللا بالعرق. مسحتُ جبهتي ووجهي. نفس الكابوس يتكرّر منذ أسابيع مع بعض التغييرات الطفيفة. أحياناً أرى رأسها المقطوع على الدكّة وأسمع صوتها يقول: غسّلني حبيبي. لكن هذه أول مرّة يكون فيها مطر. أعرف مصدره الآن، فقد تسلل من الخارج هذه الليلة. سمعت صوتَ تساقطه على زجاج النافذة بجانب سريري. نظرت إلى ساعتي وكانت الثالثة والنصف صباحاً. لم أنمْ أكثر من ثلاث ساعات بعد يوم طويل ومرهق. ممزّق بين الأرق وبين هذا الكابوس الذي لم أحاول تفسيره أو فهم دلالاته. لكنه يلحّ عليّ. لعلّه الموت يضحك عليّ ويقول لي: ظننتَ أنّك تستطيع أن تهرب منّي أيها الأحمق؟
لا يكتفي الموت مني في اليقظة ويصرّ على أن يلاحقني حتى في منامي. ألا يكفيه أنني أكدّ طول النهار معتنياً بضيوفه الأبديين وبتحضيرهم للنوم في أحضانه؟ هل يعاقبني لأنني ظننت بأنّي كنت قادراً على الهرب من براثنه؟ لو كان أبي حيًّا لسخر منّي ومن أفكاري وما كان سيسمّيه دلعاً لا يليق بالرجال. ألم يمضِ هو عقوداً طويلة في مهنته يوماً بعد يوم دون أن يشتكي مرّة من الموت؟ ولكن الموت في تلك السنين كان مُقِلّاً وخفراً بالمقارنة مع موت هذه الأيام الذي أدمن علينا حتى كأنّ هوساً قد أصابه. لكن قد يكون البشر -والرجال بالذات طبعًا- هم الذين أدمنوه حين تسنّى لهم أن ينادموه بلا رقيب ليلَ نهارَ؟ أكاد أسمع الموت يقول: أنا أنا، لم أتغيّر أبداً. لستُ إلا ساعي بريد.
إذا كان الموت ساعيَ بريد فأنا واحد من الذين يتسلّمون رسائله كلّ يوم. أنا من يُخرجها برفق من ظروفها الممزّقة المُدماة. وأنا الذي يغسلها ويزيل منها طوابع الموت ويجفّفها ويعطّرها متمتماً بما لا يؤمن به تماماً ثم يلفّها بعناية بالأبيض كي تصل بسلام إلى قارئها الأخير: القبر.
لكن الرسائل تتراكم كلّ يوم يا أبي! أضعاف ما كان يمرّ عليك حتى في أسبوع كامل يمرّ عليّ في يوم أو اثنين. هل كنتَ ستقول إنها إرادة الله وبأنه القدر لو كنت حيّاً؟ ليتك كنت هنا كي أترك الوالدة معك وأهرب بدون أن يلاحقني شعور بالذنب. أنت كنت مسلّحاً ، لا بل مدججاً ، بالإيمان الذي كان يحمي قلبك ويجعله قلعة منيعة على قمة جبل. أما أنا، فقلبي بيت مهجور، شبابيكه مكسورة وأبوابه مخلوعة تعبث به الأشباح وتتنزّه فيه الريح.
بحثتُ عن الوسادة الثانية التي تعوّدت أن أضعها فوق رأسي منذ صغري كي لا أسمع أي صوت. كانت قد سقطت على الأرض بجانب السرير بالقرب من نعليّ. حملتها ودفنت رأسي تحتها وحاولت أن أسترجع حصّتي من الليل. لكنّ صورة ريم وهي تُسْحب من شعرها ظلت تعاودني. ما الذي تفعله هي في هذا السيناريو؟ هل هي الأمل الكاذب أم الذنب أم أنها الماضي الذي سيُقطَع رأسه هو الآخر بعد أن مات الحاضر؟ أو قد تكون النساء اللواتي قرأت عن أخبار اغتصابهن وقتلهن ويحرّم علي شرعاً أن أغسلهن؟
ربما يجب أن أتوقف عن مشاهدة الفضائيات ومتابعة الأخبار. يكفيني ما أراه كل يوم بأمّ عينيّ. لكن كم مرة وعدت نفسي بأن أتوقّف عن قراءة ومشاهدة الأخبار؟ لم تكن ريم تلعب أي دور رئيسي في كوابيسي حتى قبل أسبوعين. تُرى أين هي الآن؟ آخر ما سمعته عنها قبل سنين كان بأنها في أمستردام. ربما أبحث عنها في الغوغل من جديد بعد العمل غداً في مقهى الانترنت. سأجرّب تهجئة مختلفة لحروف اسمها بالانكليزية علّني أجد شيئاً. لكن هل لي أن أنام ساعة أو ساعتين قبل أن أعود إلى مزيد من بريد الموت اليومي؟
(سنان أنطون شاعر وروائي عراقي. من أعماله ديوان “ليل واحد في كل المدن” (“الجمل”) ورواية “إعجام” (“دار الآداب”).)
___________________________
قراءة شخصية • من هي ريم؟
شعرت، بعد قراءة الفصل، أنني مسحت بمنديل حريري، ظهر فجأة في جيبي، جبين شاب عرفت من هلوسته أنه عراقيّ، بلّله العرق من كابوس مرعب يلاحقه بعد الأرق، شاب مرعوب تسكنه صدمة يوميّة ومشاعر شوقٍ يائسة. شعرت أنني ربتّ على كتفه حين وصف نفسه “قلبي بيت مهجور، شبابيكه مكسورة وأبوابه مخلوعة تعبث به الأشباح وتتنزّه فيه الريح”، وأغلقت الشبابيك المكسورة ليدخل مطر أقلّ.
أدركت، بعدما عرفت أنه يغسّل الموتى، الكثير من الموتى، أنني بينما أمسّح عنه عرقه وأصغي له، إنما أخرج من وجدانه المهزوز بعضًا من الموت والحكمة. فيقول لي: “لا يكتفي الموت مني في اليقظة ويصرّ على أن يلاحقني حتى في منامي”. ما هو الموت سألته، أجاب، هو هو، لم يتغير “ساعي بريد”، وما دخلك بالموضوع “أنا واحد من الذين يتسلمون الرسائل كل يوم”.
أجابني النصّ، على سؤال رافقني منذ الكابوس المعرّي، “من هي ريم؟”، فأجابني مغسّل الموتى حائرًا: “هي الأمل الكاذب أم الذنب أم أنها الماضي الذي سيُقطَع رأسه هو الآخر بعد أن مات الحاضر؟ أو قد تكون النساء اللواتي قرأت عن أخبار اغتصابهن وقتلهن ويحرّم علي شرعاً أن أغسلهن؟”.
إرتحتُ عندما عرفت أنه يبحث عنها، إنه دليل حياة، الحبّ أقوى من الموت، أحيانًا، لأنه يمنع الاستسلام له. أطفأت غرفة النصّ عليه، بعدما أحرجني بسؤاله: “هل لي أن أنام ساعة أو ساعتين قبل أن أعود إلى مزيد من بريد الموت اليومي؟”.
هي المرة الأولى التي أقرأ فيها لسنان أنطون، وأزور فيها شخصياته، أحببتُ ما تذوقت من وجبته الأدبيّة، رغم أنّ نشر فصل من رواية، هي كما نسميها عندنا “شمّ ولا اتدوق”.
(إياد برغوثي)