على قارعة الحبّ/ راجي بطحيش
كانت آخر مرة قلتها قبل سبع سنوات ثم انتابتني حالة حموضة مجنونة في قلبي ومعدتي ألزمتني مغسلة الحمام في شارع “نحلات بنيامين” لليالٍ طويلة من دون نوم يذكر
على قارعة الحبّ/ راجي بطحيش
..
| راجي بطحيش|
1
أوقف سيارتي عند قارعة الطريق قرب رائحة أخرى للمدينة. قد تكون رائحة الجوع أو الاشتياق أو ربّما رائحة أسلاك هاتف أذابتها دموع الحيرة. غينيا، السّنغال، دارفور، أثيوبيا، الفلبين، فيتنام، رومانيا.. وحلحول. حتى الشاورما فقدت ملامح إثنية من رائحتها.
لماذا توقفت هنا؟
لأقول إلى اللقاء. ولأقول كلمة لم أقلها، أو أهمسها أو أتمتمها أو حتى أتقيأها منذ زمن. كانت آخر مرة قلتها قبل سبع سنوات ثم انتابتني حالة حموضة مجنونة في قلبي ومعدتي ألزمتني مغسلة الحمام في شارع “نحلات بنيامين” لليالٍ طويلة من دون نوم يذكر.
هذه كانت آخر مرة.
وفي المرة التي تتلوها. ها أنا أوقف السيارة هنا. في هذه المعجنة البشرية. أناس هائمون في كلّ اتجاه يبحثون عن بيارة برتقال رُدمت. أوقف سيارتي قرب حانوت لعروض البورنو التلصّصية برائحة البول المعتق. ها أنتَ ستترك العربة وقد نفد الوقود منها؛ فلنقل إنّ العربة توقفتْ هنا من نفسها، وأنا على وشك أن أقول:
“أحبك”.
..
2
“أحبك”.
وحتى إن قلتها الآن؛ SO WHAT؟
أيعني هذا أنني أقصدها بضمير وعقل كامليْن متناغميْن ومتوازنيْن، أم أنني مجرد أريد أن أقولها لشيء ما… أيّ شيء!
زدْ على ذلك أنه لا يوجد في هذه المدينة ما هو أكثر من هذا المكان بؤسًا ودراماتيكية لقولها. لن أقولها في روتشيلد إنعطافة اللنبي مثلا، أو في مستديرة ديزنجوف عند تمثال الماء والنار المعطّل، أو في محلة بازل حيث حوانيت الطعام المستورد ومحالق الكلاب وصالونات تجميلهم وباديكورهم ومنيكورهم وتحنيط خرائهم للذكرى.
بعد ثوانٍ سأقول “أحبك” وستنهال الكوارث على رأسي. سيفنى كلّ ما أعرف، وسيفنى كلّ من لن أعرف. كما أنني لن أقولها عند طريق “سلمة” حيث أسكن قرب شرطة لواء تل أبيب والكثير من الخرائب التي لم تكتشفها بعد حوريات الترف، وإن قلتها هناك قرب بيتي المداهم فهذه دعوة لا تفسير لها سوى.. استحقاقات ليل طويل وحياة.
وإذا قلتها في يافا مثلا.. لا أعرف! ستلاحقني الوطاويط ليلا وستخترق نوافذي فجرًا ظنًا منها أنّ الظلمة تساكنني لوقت أطول.. “كيف تجرؤ على المجاهرة بالحب في قلب وطن الخسارة”؟ ستقول الوطاويط…
..
3
“أحبك”.
هي كلمة لم أقلها منذ ألف عام ولم أعد أعرف ماذا تعني بالضبط. أتعني أنني سأصبح “معشوقا” وأمنح كلّ شيء وألقي كلّ ذاكرتي الكلبية العذبة (بعضها) في القمامة؟ كيف سيسمحون لي بأن أقولها ولا ألتزم بشيء ولا بذاتي من بعدها. أن أعود وحدي إلى بيتي بعد ربع ساعة لألعق عسلَ المكائد من جديد وأخطط من أجل الغد: أن أصبح رجلاً انتهاكيًا بامتياز وجدارة ومن دون جدل. وما أفضل من هذا المكان (محيط المحطة المركزية ومساكن العمال الأجانب) لحلّ متغيرات هذه المعادلة.
“أحبك”.
سأقولها، ولتخفيف وقعها سأسرد كوابيس الأمس وقبل الأمس وكلّ هذا الشهر والدهر وما بينهما. فقد حلمت بأنّ أبي مات مرة أخرى وقد قمت باجترار كلّ ما مرّ قبل عاميْن وأكثر من فقدان في منام واحد متقن الإخراج والتنفيذ. ثم حلمت بأنّ إحدى نساء حياتي ماتت هي الأخرى.. فجأة وأنها لم تتزوّج وتنجب أطفالا في حياتها ولا في مماتها. كما أنني نسيتُ أن أسأل أمي في الصباح إذا كانت تلك المرأة ما تزال تحيا بالفعل، أم لا. وبعد كلمة “أحبك” سأسرد ذاك الحلم الفتاك: سيهجرني ابني ويرحل مع أمه إلى دبي (لا أعرف لماذا دبي بالذات) وها أنا أعيش آلام الفراق ووجعه؛ آلام سمجة لئيمة كريهة. سأبكي عندها وأنا أحكي.
..
4
“أحبك”.
سأقولها بعد ثوانٍ وقبل أن تغادر عربتي.
وبعدها… لا أعرف ما الذي سيحصل بعدها.
من سيجلب ماذا ولمن وإلى أين. من سيداهم سرير من وكم من الوقت ومتى. من سيلتقي بمن وفي أية انعطافة شوارع؟.. سلمة- هار تسيون؛ سلمة- هرتسل؛ يافا- انكسار البحر؛ أم في محلة بازل حيث حوانيت الطعام المستورد ومحالق الكلاب وصالونات تجميلهم وباديكورهم ومنيكورهم وتحنيط خرائهم للذكرى.
ثم أنه بعد كلمة “الحب” تأتي الغيرة. أصلا الغيرة هي التي تبقى وتتخلد عوضًا عن الحب. سنبقى مع كلمة “حب” ضئيلة وأنهارٍ من الغيرة من دون حبكة. ثم أنّ بيتي قذر ومليء بشعيرات القطط وسريري مشبع بعرق القيظ. ولا قهوة في بيتي وأكره النّس كافيه والشاي والنبيذ خارج أوقاته. كما أنّ أمي ستتصل بعد ساعة لتسأل إن كنت ما أزال بانتظار الكارثة وهنالك نص يحتلني الآن.. في هذه اللحظة. أقف عند حافة هاويته وعلي تحقيقه.
إلى اللقاء.
17 سبتمبر 2010
من أكثر نصوصك تماسكاً وصقالة فضلا عن الموضوع الذي يشغلني مرارا. حبيييت كتييير, وبحب انو المثقفين العرب يتعرفو ع تل أبيب عن طريق كتاباتك
8 سبتمبر 2010
اعتقد ان مكان هذا المقال في زاوية المثليين
8 سبتمبر 2010
رهيب
7 سبتمبر 2010
مجرم…