عصفور وزيراً لثقافة النظام: كم تغيّر الديكتاتور؟
مات أمل دنقل ومات يحيى الطاهر عبد الله، وعاش جابر عصفور؛ لكن هذه الجملة لا تنتمي سوى لحقيقة اللغة وسلامتها. لأنّ الحقيقة الأبعد والأعلى والأعمق تعيد صياغة الجملة لتكون: عاش أمل وعاش يحيى ومات جابر عصفور!
عصفور وزيراً لثقافة النظام: كم تغيّر الديكتاتور؟
|إبراهيم نصر الله|
يوشك الدكتور جابر عصفور الآن أن ينهي عقده السابع، وهو عمر يكفي كي يقول المرء فيه: إنني قد عشتُ! بخاصة، وهو يرى رياح الموت تحصد الأطفال والشباب في فلسطين والعراق ولبنان والعالم العربي، كما لم تحصدهم من قبل، وبدموية لم يعد بمستطاع أحد أن يقول: إنه لم يرَ. وقد أصبح الدّم الجزء الأساس من هذا البث الحيّ المباشر على الهواء!
إنّ أيّ مثقف حقيقي يتطلع للحظة مختلفة تتحقق فيها بعض أحلامه التي عمل من أجلها طويلا. بحيث نتمنى في هذه اللحظة المصرية/ التونسية أن يكون الشيخ إمام بيننا وأمل دنقل بيننا، كما تمنينا أن يكون ناجي العلي بيننا وغسان كنفاني بيننا حينما هبت رياح الانتفاضة الفلسطينية، وأبو القاسم الشابي بيننا ليروا كيف يمكن للكلمات أن تورق، وكيف يمكن للشعوب أن تصعد الجبال.
كنا نتمنى أن يكونوا هنا ليتذوقوا طعم أحلامهم، وكي يكونوا أكثر اطمئنانا لأن كلماتهم وأصواتهم ورسومهم لم تذهب سدًى.
وهنا تكمن المفاجأة:
موافقة الدكتور جابر عصفور على أن يكون وزيرًا لثقافة النظام المصري في قمة تداعيه، ولا أقول وزيرًا للثقافة في مصر؛ فالثقافة الحقيقية هي تلك التي تملأ الميادين اليوم وتهزّ الشوارع بكلّ ما في أرواح الشعب من تطلع للضّوء.
موافقة الدكتور على أن يكون جزءًا من نظام يلتقط، بصعوبة، آخر أنفاسه بالرصاص الذي يطلقه على البشر وقنابل الدخان التي تحرمهم حقهم الأبسط في هواء بلادهم وحريتها.
لا أظن أنّ الثقافة العربية صُدمت بواقعة كهذه في هذا العصر.
ففي اللحظة التي نزل فيها مثقفو مصر إلى الشوارع مع جماهيرهم، وحتى بعض أولئك الذين لعبوا طويلا في منطقة الالتباس، بذكاء حادّ وقدرة استثنائية على اللعب على الحبلين مثل عصفور نفسه، وجّه الدكتور الضربة المميتة لفكرة المثقف وفكرة الحرية وحقّ الدم علينا في أن يظلّ دمًا، لا أن يتحوّل إلى ماء لغسل الدم الذي يلطخ أيدي الطغاة.
ليست هذه دعوة لإعادة قراءة ما كتبه جابر عصفور عن التنوير والظلم والعدل وحقوق الإنسان ودور المثقف وزمن الرواية، الذي هو بالضرورة زمن الشعوب، لكنها دعوة لتأمل حالة فريدة في رواية ذات نهاية صادمة رغم كل التباسات ومراوغات بداياتها.
•
لقد احتل جابر عصفور مراكز هامّة لسنوات طويلة، كما لم يحتلها سوى قلة قليلة من المثقفين! حتى بدا كأنه سيظلّ في هذه المراكز إلى الأبد، وأنّ وجوده فيها وجه من وجوه التوريث! وحين كان يترك مركزًا كان المركز التالي جاهزًا وكرسيّه الأعلى في انتظاره. وهي مراكز، بثقلها العربيّ والدوليّ، كانت أهمّ بكثير من مركز وزير الثقافة.
ولذا تبدو الضربة التي وجهها جابر عصفور لقلب ورأس المثقفين العرب والثقافة العربية هي هذا القبول المرعب بمنصب وزير الثقافة في نظام أحلّ دم الشعب المصري وعمل بكلّ ما لديه على إذلال هذا الشعب وإلغاء دوره وحشره في أضيق زاوية يمكن أن يحشر فيها البشر: لقمة الخبز بلا حرية، وطن كبير منزوع الكرامة، أجيال متتالية بلا مستقبل، وسلطة ظالمة لا تؤمن إلا بشيء واحد: الحاكم يبقى، والوطن يزول.
كان جابر عصفور واحدًا من تلك المجموعة المضيئة التي وصلت القاهرة محملة بطاقة التغيير وفورة الغضب مع أمل دنقل ويحيى الطاهر عبد الله وسواهما. مات أمل ومات يحيى، وعاش جابر عصفور. لكن هذه الجملة لا تنتمي سوى لحقيقة اللغة وسلامتها. لأنّ الحقيقة الأبعد والأعلى والأعمق تعيد صياغة الجملة لتكون: عاش أمل وعاش يحيى ومات جابر عصفور!
•
كنت أتمنى أن أتحدّث اليوم عن اللقاء الأول الذي جمعني بجابر عصفور، بعد شهور قليلة من رحيل أمل دنقل. كنت أتمنى أن أتحدّث عن حزنه وحزني وهو يحمل لي سلامًا حارًا لم يُتح لي الزمان لقاء ذلك الكبير الذي أرسله، كنت أتمنى أن أتحدث عن احتضان روحه لكلّ جمال عربي وهو يخبرني أنه يدرِّس قصائدنا لطلبته في جامعة الكويت، كنت أتمنى أن أتحدث عن ذلك الأستاذ الجامعيّ الذي كان يسعى، مثل ملايين المصريين، لتحصيل لقمة عيشه التي لم توفرها له بلاده.
•
يُروى أنّ مثقفا عربيا عمل طويلا مع السلطة، قد قال لأحد أركان تلك السلطة: لقد عملتُ معكم طويلا، لكنني لم أتغيَّر!
فردَّ المسؤول: أنت لا تستطيع أن ترى كم تغيَّرت، فنحن الذين نرى ذلك!
ولا أظن أنّ من اتّصل بجابر عصفور يعرض عليه الدخول في وزارة الطاغية هذه، إلا وكان على يقين كم أن الدكتور قد تغيّر!
(كاتب أردني؛ عن “السفير” اللبنانية)