“عسل أسود” آخر أفلامه: أحمد حلمي أبرع ممثل كوميدي في جيله
لم يكن بارعاً دائماً في إثارة الضحك، لكنه أتقن عمله، وقدّم تنويعاً ساهم، من دون شكّ، في تطوير لغته الأدائية. المشكلة كانت في غياب كتّاب ومخرجين كوميديين يجعلون الكوميديا غطاء لنصّ إنساني أوسع
“عسل أسود” آخر أفلامه: أحمد حلمي أبرع ممثل كوميدي في جيله
|نديم جرجورة|
مرّة أخرى، أنساق إلى الكتابة عن الممثل المصري أحمد حلمي. فيلمه الأخير «عسل إسود» (2010) لخالد مرعي دعوة مفتوحة إلى كتابة كهذه، تمزج السيرة بالأداء، وتحاول فهم المسار التمثيلي، على ضوء عناوين سينمائية معيّنة. مرّ أحد عشر عاماً منذ بداية المسار. شارك الممثل الشاب (مواليد «بنها» في محافظة القليوبية، في 18 تشرين الثاني 1970) في «عبّود على الحدود» (1999) لشريف عرفة. إنها إطلالته السينمائية الأولى، بعد تخرّجه من «المعهد العالي للفنون المسرحية» (قسم ديكور)، وعمله مذيعاً في «القناة الفضائية المصرية» (برنامج «لعب عيال»). اختاره شريف عرفة لتأدية دور إلى جانب الراحل علاء ولي الدين. إنهما من جيل سينمائي واحد، تقريباً. غالب الظنّ أن ولي الدين، لو قُدِّر له البقاء حيّاً، لأبدع في تأدية أدوار كوميدية سليمة. أحمد حلمي أدرك هذا الأمر. وإدراكه واضحٌ في نتائج بلغها بعد أحد عشر عاماً على وقوفه الأول أمام الكاميرا السينمائية.
لا أعرف سرّ انشدادي إلى الممثل وأدائه. لم يكن بارعاً دائماً في إثارة الضحك. لكنه أتقن عمله، وقدّم تنويعاً ساهم، من دون شكّ، في تطوير لغته الأدائية. المشكلة قائمةٌ في مكان آخر. في غياب كتّاب ومخرجين كوميديين، يجعلون الكوميديا غطاء لنصّ إنساني أوسع. أو يصنعون الكوميديا من أجل الكوميديا الصافية والجميلة. المشكلة قائمةٌ في الاستسهال والتسطيح والتهريج. أمورٌ كهذه باتت طاغية، أو شبه طاغية، في المشهد السينمائي المصري. أحمد حلمي عرف نجاحات تجارية أيضاً. لكنه أمسك نفسه عن الوقوع في فخّها. لن أستخدم تعابير «نقدية» متداولة في الصحافة المصرية، كأن أقول إن كوميديا أحمد حلمي «هادفة»، أو إن أفلامه متضمّنة «رسائل»، أو إن نتاجه السينمائي منتم إلى «السينما النظيفة». هذه تعابير مسيئة للسينما وللعاملين الجادين فيها ولمشاهديها المثابرين على نتاجها الإبداعي السوي. لكن أحمد حلمي مختلف. اختلافه كامنٌ في قدرته على جعل التنويع، في المواضيع والشخصيات والكتّاب والمخرجين، تدريبا حقيقيا لبلورة عمله.
الانشغال بالكوميديا
منذ العام 1999، بدا أحمد حلمي مشغولاً بالكوميديا. غير أن الكوميديا لم تكن منزّهة عن أغراض فنية ونقدية أخرى. الرومانسية. التحليل النفسي. المآزق الاجتماعية. الماورائيات. الرغبة. هذه كلّها جعلت النتاج السينمائي أوسع وأشمل وأقدر على ابتكار أشكال متفرّقة في التمثيل. قد يرى البعض أن الممثل الشاب متمسّك بأسلوب واحد في الحركة والضحكة والنبرة والنطق. متمسّك بخط واحد في أداء لا يحيد عنه. لكن، لا يُلغي هذا قدرة الممثل الشاب على تطويع الجسد في خدمة النصّ والشخصية معاً. أي إن أحمد حلمي حافظ على نسق عام في التمثيل، مشتغلاً من داخله على ابتكار صُوَر متنوّعة لحضوره السينمائي. وما اختباره تمثيل ثلاث شخصيات (برنس وبيبو وسمسم) دفعة واحدة في فيلم «كده رضا» (2007) لأحمد نادر جلال، إلاّ تأكيد على حرص الممثل الشاب على خوض التجربة أولاً، وعلى فهم الأبعاد المتناقضة في الشخصيات الثلاث ثانياً، وعلى القول إنه قادرٌ على بلوغ مرتبة رفيعة المستوى في التمثيل. فالشخصيات الثلاث هذه (ثلاثة توائم مختلفي الأمزجة والمهارات والذكاء) سمحت لأحمد حلمي اختبار إمكانياته في تقديم التناقض الصارخ في الشخصيات الثلاث في آن واحد. غالب الظنّ أنه أبدع في هذا، وأنه منح المُشاهد متعة الفرجة، من دون أن يمنع عنه متعة الغوص في التفاصيل اليومية للحياة الشبابية القاسية، بتحدّياتها ومشاكلها.
هناك أيضاً «آسف على الإزعاج» (2008) لخالد مرعي، الذي برهن فيه على أداء لامع، وعلى مقاربة مسألة نفسيّة معقّدة، مرتكزة على «انفصام الشخصية». لم يتوغّل الفيلم (كتبه أيمن بهجت قمر) في أعماق الاضطراب النفسي هذا. لم يُحلِّله أو يُشرِّحه أو ينساق إلى عوالمه الدفينة. الهدف كوميدي بحت. المعالجة منتقلة من الكوميديا إلى الاضطراب النفسي. حسن صلاح الدين (حلمي) رافضٌ ومتمرّدٌ على واقع. لم يقبل وفاة والده. عاش في كنفه. المتتاليات البصرية كلّها مشغولة بحرفية في الكتابة والمقاربة والأداء. الصدمة حدثت في الخاتمة. لا يُمكن، هنا، التغاضي عن الفيلم اللاحق له: «ألف مبروك» (2009) لأحمد جلال أيضاً، عن سيناريو لمحمد وخالد دياب. استيقاظ حسن صباح كل يوم دعوة إلى عيش حياة عادية. المأزق كامنٌ في أن حسن انتبه لاحقاً إلى أنه يعيش اليوم نفسه كل يوم. اشتغال على قصّة قدّمتها السينما مراراً. هنا، الأمر مختلف قليلاً: أحمد حلمي مهموم بكيفية صنع الشخصيات الدرامية، وبكيفية رسم معالمها الإنسانية. لا يسقط في التكرار. يأخذ من القصّة المعروفة ما يراه ضرورياً لفهم إشكالية الزمن والاغتراب عن النفس، ولإتاحة مجال إضافي للضحك السليم.
اغترابات
الاغتراب عن النفس برز في «عسل إسود». اسم الشخصية مثير للانتباه: مصري سيّد العربي. المضمون أيضاً: الشاب العائد إلى بلده بعد غربة طويلة، وجد نفسه أسير اغتراب داخلي بشع وقاس. الفيلم متشعّب التفاصيل. لكنه مستند إلى خط درامي واحد. العودة لحظة انطلاق الحدث. الدخول إلى البلد، أو إلى عالمه السفلي أحياناً، كشف تناقضات وأثار صدمة. أُخذ على الفيلم تشويهه «الصورة النقية» لمصر. قيل الكثير ضده أو معه. الفيلم رسالة حبّ لمصر. نقدٌ للغربة. لكن «عسل إسود»، إلى جانب براعته في تحليل بؤر الخلل (أو بعضها على الأقلّ) في البناء المجتمعي المصري، قدّم أحمد حلمي في حلّة جديدة. أكاد أقول إن تعاونه الجديد مع المخرج خالد مرعي ارتكز على فكرة الاغتراب عن النفس أيضاً. في «آسف على الإزعاج»، لم يخرج حلمي من اغترابه المدوّي هذا إلاّ بصدمة انقلاب الأمور عليه، وانفتاح أفق المصالحة مع نفسه أمامه. وفي «عسل إسود»، يُمكن الاستعانة بالتحليل هذا أيضاً، وإن اختلف المضمونان، وسارت المقاربتان في اتجاهين مختلفين تماماً.
في لائحة الأفلام التي مثّل فيها، هناك فيلمان اثنان فقط أخرجهما خالد مرعي. هذا ليس تفصيلاً عابراً. الاشتغال مع مخرج واحد في أفلام عدّة مسألة معروفة في السينما المصرية والعالمية. الثنائي محمد خان وأحمد زكي مثلاً. الثنائي مارتن سكورسيزي وروبرت دي نيرو، قبل أن يختار المخرج ممثلاً شاباً آخر يُدعى ليوناردو دي كابريو. أرى في هذا تمتيناً لعلاقتين اثنتين: شخصية ومهنية. يُصبح المهنيّ أرقى وأجمل. لكن تنويع المخرجين بالنسبة إلى الممثلين مفيدٌ بدوره. يمنحهم خيارات شتّى تسمح لهم بتطوير تقنيات أدائهم، لأن لكل مخرج أسلوبه ومفرداته وعالمه وحكاياته. وهذا يُغذّي مخيّلة الممثل الجدّي، وعقله وروحه. مع خالد مرعي، غاص أحمد حلمي في الداخل الذاتي للفرد، نفسياً واجتماعياً. ومع الآخرين، انتقل من الكوميديا العادية والبسيطة، إلى العوالم القاسية والشخصيات المركّبة.
الدخول إلى الذات الفردية تمثّل أيضاً في «سهر الليالي» (2003) لهاني خليفة. حكاية جيل شبابي مرتبك وقلق وممزّق. أربعة أصدقاء (حلمي وشريف منير وخالد أبو النجا وفتحي عبد الوهاب) تاهوا في أزقّة الدنيا وشوارع النفس البشرية المنهارة، في مقابل أربع سيّدات (حنان ترك ومنى زكي وعلا غانم وجيهان فاضل) يعانين أزمات عاطفية وعائلية (ثلاث منهنّ متزوّجات من ثلاثة من الأصدقاء). حلمي، بتأديته دور عمرو، بدا متقدّماً قليلاً على أدواره السابقة، خصوصاً أنه، لغاية هذا الفيلم، ظلّ محصوراً إما في دور ثان، وإما في أداء جماعي. مع هذا، بدا الممثل الشاب سائراً في الطريق الصحيحة، التي أفضت به، في العام نفسه (2003)، إلى تأدية «أول بطولة رجالية مطلقة» في «ميدو مشاكل» لمحمد النجّار. وعلى الرغم من أن «ميدو مشاكل» حقّق 17 مليوناً و556 ألفاً و806 جنيهات مصرية كإيرادات، إلاّ أنه عادي في حبكته وسرده ومقاربته أزمة العيش الراهن بالنسبة إلى الجيل الشاب. أهمية الفيلم هذا أنه فتح الباب واسعاً أمام بطولات فردية مطلقة لممثل اجتهد فنجح، وسعى فبرع في مسعاه المؤدّي به إلى إثارة القلق في نفوس ممثلي جيله.
يستحقّ أحمد حلمي قراءات نقدية عدّة. يستحقّ اهتماماً جماهيرياً أيضاً. اشتغالاته المتنوّعة مرايا بيئة وأناس وحكايات. أداؤه مثير لمتعة الفرجة، غالباً. الحاجة إلى نصوص أجمل وأقوى ملحّة. لكنه يبقى أبرز ممثل كوميدي في جيله، إن لم يكن أهمّهم وأبرعهم في التقاط نبض مجتمع وبلد، مغلّفاً إياه بلقطات كوميدية.
(عن “السفير” اللبنانية)