سياق جريمة هدم “شيبرد”/ هشام نفّاع
الحكومات الاسرائيلية واضحة جدًا في هذه المسألة. وحتى حين يراوغون، مثلما يجري مقابل ادارة براك اوباما، فإنهم يحافظون على صراحة فاضحة بخصوص القدس. إذًا فرسالة اسرائيل واضحة وهو ما يقتضي الخروج باستنتاجات عربية، وفلسطينية أولا
سياق جريمة هدم “شيبرد”/ هشام نفّاع
|هشام نفّاع|
جريمة سلطات الاحتلال الاسرائيلي، يوم الأحد، بهدم جزء من فندق “شيبرد” التاريخي العائد إلى ملكية عائلة الحسيني الفلسطينية، ليست جريمة منفردة بل إنها جزء من سلسلة. حكومات إسرائيل في هذا السياق هي عبارة عن مخرّب متسلسل في القدس.
فيما يلي ترتيب لمعطيات أوردتها في مقال سابق لتوضيح صورة ما يجري: خلال عام 2009 أصدرت حكومة بنيامين نتنياهو قرارات ببناء 200 مبنى لتوسيع النواة الاستيطانية المقامة في رأس العمود، 250 مبنى استيطانيًا في الشيخ جراح، و20 مبنى في محيط فندق “شيبرد” – هذه هي أرضية الجريمة الجديدة.
لكن هذا التوسّع الاستيطاني ليس من اقتراف حكومة نتنياهو فحسب. فبعد مؤتمر أنابوليس بأسبوع (كانون الأول 2007) نشرت السلطات الاسرائيلية مناقصات لبناء 747 مبنى في مستوطنة هار حوماه المقامة على أراضي جبل أبو غنيم قرب القدس. وكانت سبقتها في العام نفسه مناقصات لبناء 46 مبنى استيطانيًا آخر في القدس الشرقية. في العام التالي، 2008، ارتفع عدد المباني الاستيطانية المطروحة للبناء إلى 1961 مبنى. التوسّع الاستيطاني في القدس الشرقية ومحيطها عامي 2007 و2008 كان بقيادة حكومة إيهود أولمرت وهو يتواصل اليوم بقيادة الحكومة الحالية. ففي مضمار تهويد وضمّ المدينة وتأبيد احتلالها، لا يختلف حكام اسرائيل السابقون عن الحاليين. أحزابهم تُجمع وتجتمع هنا. كلهم هنا مجرمو استيطان متساوون. ولا يُقال هذا من باب التعميم “كلهم نفس الشيء” بل استنادًا إلى المعطيات والسياسات خلفها.
الحكومات الاسرائيلية واضحة جدًا في هذه المسألة. وحتى حين يراوغون، مثلما يجري مقابل ادارة براك اوباما، فإنهم يحافظون على صراحة فاضحة بخصوص القدس. إذًا فرسالة اسرائيل واضحة وهو ما يقتضي الخروج باستنتاجات عربية، وفلسطينية أولا.
الحديث الرسمي الاسرائيلي عن القدس ليس سوى غطاء لمشروع أكبر من هذه المدينة. إنه، خارجيًا، حديث غيبيّ يزعم التحدث باسم مصالح اليهود في محجّتهم الدينية الأولى. ولكن لو كان الأمر كذلك فيجب أن يقتصر الجدل على بعض المعابد والمعالم الدينية المحدودة على مساحة مئات الدونمات التي كانت تُعرف بـ “المنطقة الحرام” حتى عام 1948. لكن القدس بالمفردات السياسية الاسرائيلية التي تُترجم وتُفرض يوميًا على الأرض، تمتد على مساحة شاسعة جدًا تتعدّى القدس كلها بشرقها وغربها وشمالها وجنوبها.
حتى العام 1948 كانت مساحة القدس 20 ألف دونم. وبعد احتلال 1967 بدأت عملية اسرائيلية مخططة لتوسيع حدود المدينة (دون أية علاقة بمزاعم الزيادة السكانية الطبيعية)، فوصلت عام 1993 (عام “أوسلو”!) إلى نحو 126 ألف دونم. وهي مناطق اقتطعت وصودرت من 28 قرية فلسطينية محيطة بالقدس، وتقع عليها اليوم أكبر المجمعات الاستيطانية.
توسيع المستوطنات على أراضٍ في الضفة الغربية، بعد ضمها إلى منطقة نفوذ “القدس الموحدة”، هو استكمال لأكبر مشاريع اسرائيل – المشروع الاستيطاني. مقابل هذه السياسة التخطيطية-الفعليّة، يقتصر الخطاب العربي الرسمي على الشعارات الصوتيّة، الدينية منها والقومية، ولكن من دون اعتماد على خرائط مثلا.. وهكذا، يتحوّل هذا الخطاب العربي الرسمي، بمفرداته العاطفيّة الممجوجة، إلى مكمّل فعليّ للتضليل الاسرائيلي المتباكي على “محجّة اليهود”. وهكذا تتحوّل المسألة عن السياسة لتتحوّل إلى صراع أديان على معالم الأديان. أما النتيجة فتلتقي بحميميّة مع عقيدة “صدام الحضارات” الامبريالية التي اختُرعت لتفريغ الصراعات من مضمونها السياسيّ. وحين تطغى البلاغات العاطفية الدينية على السياسة، تضيع القضايا. تمعّنوا في التاريخ!
إن المشروع الاحتلالي المسمى “القدس عاصمة اسرائيل الموحدة” يضمّ كبريات المستوطنات والمجمعات الاستيطانية: مستوطنة معليه أدوميم شرق القدس، مستوطنة جفعات زئيف من الغرب، مجمّع مستوطنات بنيامين من الشمال، مجمّع جيلو وغوش عتصيون من الجنوب، هار حوما، جفعات هامتوس، وريخس شعفاط والجزء الأكبر من بسجات زئيف. هذا المشروع الاستيطاني يشطر الضفة الغربية إلى شطرين، يقطع تواصلها الجغرافي، يمنع تطورها كوحدة جغرافية-سياسية متماسكة ويبقى السيطرة على معظم مصادر المياه الجوفية فيها. أي أنه يدمّر الأرضية لإقامة دولة فلسطينية ولو في حدود 1967 الضيقة.
منذ مطلع سنوات الألفين سوّقت حكومات اسرائيل مشاريع الضمّ بتسميات مختلفة. كان أولها “الحفاظ على كبريات الكتل الاستيطانية”، أعقبها “تبادل الأراضي” و “التصحيحات الحدودية”، واليوم صار كل هذا يسمى “القدس الموحّدة”. هناك مخططات اسرائيلية مصدّق عليها لهدم بيوت وأحياء بأكملها؛ جدار الفصل (أكبر مشاريع تعزيز الاستيطان) قطّع الوحدة الجغرافية والاجتماعية والحضارية للمدينة ومحيطها؛ جهاز التخطيط الاسرائيلي أعلن صراحة ان هدفه حتى العام 2020 هو فرض أغلبية يهودية ساحقة (بنسبة 70%) في القدس الموسّعة. ولن يكون حاصل هذه الارقام تأبيدًا للاحتلال والضم والاستيطان فحسب، بل تنفيذ ترانسفير بطيء للفلسطينيين المقدسيين أيضًا.
بعد مسلسل مفاوضات مدريد وما تلاه مطلع التسعينيات، خرج الراحل الكبير د. حيدر عبد الشافي بالاستنتاج الهام التالي: “بدون وقف الاستيطان ومع استمرار تهويد القدس، فإن المفاوضات تصبح دون قيمة حقيقية، لأنها تتم في ظل استمرار فرض الوقائع على الأرض، والتي تغيّر وتمس جذرياً بقضايا التفاوض والحل النهائي”.
اليوم، مع تحوّل “القدس الموحّدة” إلى المشروع الاستيطاني الرئيسي، يصبح من واجب واضعي السياسات الخروج باستنتاجات: الدخول في مفاوضات تتمتع بمرجعيات، واعتماد إحداثيات الخرائط وليس أية أحاديث عاطفية كالحة لن تفيد القدس وشعبها بشيء.