رسايل بحر: نصّ مُواز / مصطفى جوهر
أما لُبُّ الثمرة فهو الفلسفة والرؤية الخاصة لدى داوود عبد السيد، التي يسعى حثيثا لتمريرها عبر هذا القالب الدرامي المُحكم. تلك الرؤية المهمومة بانقطاع الصلة المباشرة بين الأرض والسماء، واعتقادها الخاصّ بأنّ الصّلة موجودة لكنّ الصورة قد تتنوّع
رسايل بحر: نصّ مُواز / مصطفى جوهر
|مصطفى جوهر|
للأعمال التي يقدمها داوود عبد السيد سمتٌ ومذاقٌ خاصّ، فتجده –في أغلب أعماله– يعتمد على ثيمة الراوي، ويسعى من خلال حركة الكاميرا للتأكيد على حرفيته العالية. كما أنّ عمله يشبه الثمرة الناضجة: لها مظهر مُبهر ولها مذاقها الداخلي وفائدتها المُسمنة.
تدور أحداث فيلم “رسائل البحر” -وهي قشرة الثمرة التي تحدثنا عنها- حول طبيب شاب يعاني التلعثم أمام الناس، ذلك العَرَض الذي يزول عند حديثه لنفسه أو عندما يكون في حالة سُكر. ينتقل الشاب من العيش في فيللا كبيرة فيها من يخدمونه، وله أخ يرسل له مددًا ماديًا بصورة منتظمة، ليقيم في شقة صغيرة، حيث ذكرياته الأولى. يعمل صيادًا للسّمك حتى يستطيع أن يتعايش مع فقره ويقضي حاجات تقشفه، وتسير القصة بتصاعدها الدراميّ والفنيّ بصورة كافية لصناعة فيلم جيّد، مُوشّى بحليات الإمتاع البصري.
فعندما يغلق نافذة الفيللا ليفتح معه في المشهد التالي نافذة على البحر، ناقلا مع هذه الحركة السريعة المشاهد من رتابة الحياة إلى سرعتها وضجيجها مختصرًا –بمهارة– أشياء كثيرة. وقبل أن يعرّفنا المُخرج على الأسرة الصغيرة الإيطالية يطالعك تمثال يشبه تماثيل عصر النهضة، وكأنه يهيئك لدخول عالم هذه الأسرة، فتتجوّل الكاميرا مع الراوي حول أبنية قديمة ذات طراز خاصّ. غير أنّ رياح التبديل فعلت بها فعلتها؛ فتجد مكيفات الهواء وقد احتلت جزءًا من الجدران للتوافق مع الجملة الأخيرة والدقيقة “فيها ريحة زمان”.
أما لُبُّ الثمرة فهو الفلسفة والرؤية الخاصة لدى داوود عبد السيد، التي يسعى حثيثا لتمريرها عبر هذا القالب الدرامي المُحكم. تلك الرؤية المهمومة بانقطاع الصلة المباشرة بين الأرض والسماء، واعتقادها –الرؤية- الخاصّ بأنّ الصّلة موجودة لكنّ الصورة قد تتنوّع؛ فبنظرة سريعة لأسماء شخصيات العمل وتطابقها مع رؤيته ستجد: اسم يحيى واسم قابيل، وهما اسمان لهما دلالتهما اللغوية والتراثية؛ فقابيل القاتل الأول قاتلٌ في العمل، يعاني تذكّره لجريمته، بل يخشى من إجراء جراحة تنقذه من الموت حتى لا ينسى ويُقدِم على فعلته ثانية، وكأنه لا يريد تغييب قانون ما حاملا إرثه على ظهره: إنه من قتل نفسًا بغير حقّ فكأنما قتل الناس جميعًا. وعندما يقصُّ حكاية جريمته يصل إلى نظرة ضحيته؛ تستدعي ذاكرةٌ ما عبارة الضحية الأولى: أنا ما بسطت يدي لأقتلك. وحينما تأخذنا الكاميرا لمشهد النوة وتخبط القارب في المياه وهروب الجميع، بينما البطل يقف على صخرة عالية في عناد يصرخ في البحر، فلا يمكن أن تستدعي الذاكرة سوى ابن نوح. بل إنّ الرسالة الغامضة التي وجدها في زجاجة لفظها البحر، وكذا عدم قدرته على التوصل لترجمة لها أو الاستدلال على لغتها، يُحيلك إلى جدل الوحي وصورته. إنّ التلعثم الملازم للبطل يأخذك لأشهر الرسل والأنبياء: موسى الكَليم ، كما أنّ انتقال البطل من الفيللا حيث رغد العيش إلى التقشف وانقطاع المعونة المادية التي تأتيه من أخيه، يحيلك إلى الإنسان الأول الذي انتقل من مكان لا يجوع فيه ولا يعرى ولا يبرد فيه ولا يضْحَى إلى مكان مَطير يعاني فيه الصبر على العمل في مقابل لا يقيم الأود، حتى يسقط محمومًا من الجوع والمرض. حتى المهنة التي وقع اختيار المخرج عليها: الصيد، تشبه في مساحات التأمل والصبر مهنة رعي الغنم، المعروفة تراثيا بأنها مهنة معظم الأنبياء.
إنّ قدرة داوود عبد السيد على صبِّ قوالبه بحرفية تجعل النصّ الموازي يجد معطياته دونما ادّعاء أو تزيُّد؛ فالفيلم يحمل رؤية خاصّة حول الحياة منذ أُهبِط الإنسانُ الأول، ولأنه -كفصيل يمثل أفراده امتداد البنوة لآدم- لم يجد المخرج غضاضة فى أن يجمع أحداثا جللا في حياة فرد يتلقى رسالة من البحر/ الإله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
(كاتب وناقد سينمائي مصري؛ عن موقع “الكتابة”)
19 أكتوبر 2010
فلم رائع وممتع جداٌ