رحيل محمد أركون: الفلسفة العربية تودع وريث ابن رشد
المفكّر الجزائري الذي رحل أوّل من أمس، انخرط منذ ربع قرن في مشروع نقد العقل الإسلامي، فكان نصيبه التكفير، والنبذ الرسمي. حاول المواءمة بين القرآن والتاريخ، بين الإسلام والحداثة، مفكّكاً الأطروحات الاستشراقية. وها هو يلتحق بمحمد عابد الجابري ونصر حامد أبو زيد
رحيل محمد أركون: الفلسفة العربية تودع وريث ابن رشد
المواد المنشورة هنا هي تغطية صحيفة “الأخبار” الخاصة اليوم (الخميس، 16 أيلول 2010)
|ياسين عدنان|
لم يكن أحد يتوقع أن يصير ذلك الطفل الأمازيغي الضئيل الذي تلقّى تعليمه الأول في مدرسة كاثوليكية صغيرة بين جبال منطقة القبائل الجزائرية (شمال البلاد) أحد رموز العقل الإسلامي في العالم. ابن قرية تاوريرت ميمون – مسقط رأس الكاتب والإثنولوجي مولود مهدي – في منطقة تيزي وزو، ظلّ يجهل العربية إلى أن انتقل برفقة أسرته إلى ضواحي وهران هرباً من شظف العيش وسط الجبال.
في عاصمة الغرب الجزائري، سيجد الفتى الأمازيغي نفسه مجبراً على تعلّم لغة القرآن خلال مرحلة التعليم الثانوي.
كان ذلك تحدياً شبه مستحيل. لكنّ محمد أركون الذي أخذ عن والدته الصبر والجلد والهدوء سيتعلم سريعاً العربية ومحبة الفلسفة. هكذا، نال شهادة البكالوريا بتفوّق ليجد نفسه طالباً في قسم اللغة العربية في “كلية الآداب” في الجزائر العاصمة.
أركون (1928 – 2010) العالِم الجزائري وأستاذ تاريخ الفكر الإسلامي والفلسفة في جامعة “السوربون”، غادرنا مساء أول من أمس الثلاثاء في باريس، بعد صراع مع السرطان. لم يكن أركون الطالب المتحفِّز يظن أن محاضرة بسيطة سيلقيها في بداية الخمسينيات، في كلية الجزائر، أمام زملائه الطلبة تحت عنوان “مظاهر الإصلاح في مؤلفات طه حسين” ستثير غضب بعض رفاقه.
إعجاب أركون بطه حسين جعله يعكف طوال سنوات الإجازة على أعماله ليدرسها قبل أن يخلص إلى غياب الانسجام في مشروع صاحب “الأيام”.
لكن، من كان يجرؤ على انتقاد طه حسين في مرحلة كانت فيها شعارات القومية العربية أحد أهم أسلحة حركة التحرر الوطني؟ لهذا، فقد استاء الطلبة من أركون، وقاطعه أغلبهم.
منذ البداية، فهم الباحث الشاب الدرس جيداً. النقد ليس هواية عربية. لكنّ المصيبة هي أن روح النقد كانت قد تلبّست تماماً ابن تاوريرت ميمون، ولم يعد هناك من مجال للتراجع.
درس الإسلام باعتباره ظاهرة دينية تاريخية معقدة ضمن منظور أنثروبولوجي مقارن
ولأن النقد يحتاج إلى أدوات، فقد غادر أركون الجزائر في عام 1954 باتجاه باريس لتعلّم منهجية البحث على أيدي مستشرقين كبار من أمثال شارل بيلا، وهنري لاوست، وأساساً ريجيس بلاشير المتخصص في فقه اللغة، الذي تعلَّم منه منهجية تحقيق النصوص وتدقيقها ودراستها على الطريقة التاريخية الوضعية.
كان أركون في السادسة والعشرين حين انخرط في إعداد أطروحة دكتوراه عن الممارسات الدينية في منطقة القبائل الكبرى تحت إشراف جاك بيرك، قبل أن يغيّر وجهة البحث إلى القرن الرابع الهجري ويتوقف عند “نزعة الأنسنة في الفكر العربي الإسلامي”. حدث التحوّل مصادفة. فقد ذهب أركون مرة إلى المعهد الوطني للغات والحضارات الشعرية ليستمع إلى محاضرة للوسيان فيفر عن “ديانة رابليه”. هذه المحاضرة جعلت الباحث الشاب يفكر بجدية في قلب نظام الدراسات المتعلقة بالإسلام.
هذه اللحظة المعرفية القوية هي التي ستقوده إلى صداقة كل من مسكويه (932 – 1030) ورفيقه أبو حيان التوحيدي (923 – 1023).
كثيرون يعدّون أركون تلميذاً لابن رشد واستمراراً لمشروعه، لكنّ صاحب “الفكر الأصولي واستحالة التأصيل” ظلّ دائماً يحيل على التوحيدي، معتبراً صاحب “المقابسات” أخاه الروحي ومعلـمه الأول. فالتوحيـدي يمثّل بالنسبة إلى أركون إحدى اللحظات الأساسية في تاريخ العقل الإسلامي.
الرجل هضم الثقافة الفلسفية السائدة في القرن الرابع الهجري، كذلك فإن الحداثة التي تضمنها فكر أبو حيان قامت على عقلانية منفتحة متعددة، وعلى فهم للإنسان لم تبلغه الحداثة الغربية إلا مع المتأخرين من رواد ما بعد الحداثة، من أمثال ميشال فوكو وجاك دريدا.
“الإنسان” إذاً هو كلمة السر التي همس بها أبو حيان لمحمد أركون. والبعد الإنساني في العلاقات ما بين الشعوب والديانات والخطابات الفكرية ظلّ مركزياً في فكر صاحب “الأنسنة والإسلام مدخل تاريخي نقدي”.
كما أن الاهتمام بنزعة الأنسنة في الفكر العربي الإسلامي، وخصوصاً مع التوحيدي ومسكويه، ظل في عمق انشغالاته الفكرية. لكن يبقى مشروع “الإسلاميات التطبيقية” الذي حاول أركون أن يقطع به مع “الإسلاميات الكلاسيكية” التي كرستها كتابات المستشرقين أهم إنجازاته الفكرية.
بعدما اهتم في ستينيات القرن الماضي بمنهجية اللسانيات، وبالضبط التحليل اللساني التفكيكي الذي قرأ على ضوئه القرآن والسيرة النبوية ونهج البلاغة ورسالة الشافعي وسيرة الشيخ المفيد (محمد بن محمد بن النعمان)، سيعدد أركون مناهجه، محاولاً إخضاع النص الديني لمحكّ النقد التاريخي المقارن.
كان مقتنعاً بأنّ المسلمين لم يمارسوا بعد تاريخ الأديان. وما كتبه أبو الفتح الشهرستاني عن “الملل والنحل” لا يدخل في هذا الباب. فما يلزم اليوم هو الاشتغال برصانة فكرية ودقة منهجية على تاريخنا الروحاني الذي يختلف كثيراً عن التاريخ السياسي والاقتصادي والاجتماعي للإسلام.
هكذا، بمحاولة تطبيق المناهج العلمية على القرآن والنصوص المؤسسة، تكرّس مشروع “الإسلاميات التطبيقية” وتواصلت إصدارات أركون المخلخلة للدرس الإسلامي التقليدي: “القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني”، و”الفكر الأصولي واستحالة التأصيل”، و”تاريخية الفكر العربي الإسلامي”، و”الفكر الإسلامي: نقد واجتهاد”، و”الفكر الإسلامي: قراءة علمية”، و”أين هو الفكر الإسلامي المعاصر؟”.
ظلّت المصاحبة التحليلية النقدية لتاريخ الإسلام وفكره في صلب انشغالات الرجل على امتداد أعماله حتى إصداره الأخير “تاريخ الإسلام والمسلمين في فرنسا منذ العصور الوسطى وحتى اليوم”، وهو الكتاب الذي تقصَّى فيه تاريخ الروابط التي جمعت العالم الإسلامي بفرنسا منذ معركة بواتييه (1356) مروراً بالحروب الصليبية وانتهاءً بالوجود الإسلامي في فرنسا ساركوزي.
لكن في كلّ أعماله وكتاباته، ظل محمد أركون حريصاً على كشف العوائق الذهنية والمعرفية والعراقيل الاجتماعية التي تحول دون تحقيق المصالحة مع زمننا، ومع الحداثة الكونية. دعا إلى تجديد الفكر الإسلامي، وإلى ضرورة الانخراط في قراءة جديدة لتراثنا الديني بمناهج حديثة.
حاول من خلال إسلامياته التطبيقية دراسة الإسلام باعتباره ظاهرة دينية تاريخية معقدة، وذلك ضمن منظور أنثروبولوجي مقارن. كذلك انخرط في مشروع علمي دؤوب من أجل تنقية الإيمان من التشددات والتعصبات التاريخية التي علقت به، وذلك من خلال البحث عن نزعة أنسية تفكر في الإنسان وقضاياه وقيمه وحقوقه
الدنيوية.
واليوم، حين يرحل أركون مباشرة بعد المفكّرَين، المغربي محمد عابد الجابري والمصري نصر حامد أبو زيد في السنة نفسها، صار يحق للواحد منّا أن يضع يده على قلبه. ففرسان العقلانية يترجّلون تباعاً، لتبقى الساحة نهباً لفقهاء الظلام، وسعاة اليأس… والغربان.
سيوارى محمد أركون في الثرى في الدار البيضاء في المغرب، مسقط رأس زوجته، حيث عاش مدةً من الزمن، على أن يتحدّد موعد الدفن لاحقاً، وفق ما أفادت به عائلته. كذلك يخصص “معهد العالم العربي” في باريس وقفة تكريميّة للراحل عند السادسة والنصف مساء 27 أيلول (سبتمبر) الحالي.
(الرباط)
بين التكفير والاضطهاد الرسمي
|سعيد خطيبي|
ترك محمد أركون خلفه الباب مفتوحاً على تأويلات عديدة. غيابه سيحرمنا صوتاً، طعن على امتداد العقود الثلاثة الماضية في مشروعية أنظمة سياسية عربية تستمد حضورها من اللّعب على وتر الدّين. “الدّول العربيّة التي ظهرت مباشرةً بعد نهاية المرحلة الكولونيالية، تحاول فرض سلطة دينية، وتوجيه حرية المعتقد لخدمة مصالحها، مانعةً الخوض في نقاشات حرّة حول النص القرآني”. أمام هذه المواقف الحادّة، قد يُفرح رحيل أركون الكثير من معارضيه في الجزائر.
بين تكفير الجماعات الإسلامية المحافظة، وانتقادات الدوائر السياسية، وخصوصاً في الجزائر، عاش محمد أركون حياة منفى. بقي موطنه الجزائر خالياً من أي تشكيل ديني يتبنّى أطروحاته، في مقابل اتساع حضور الطرق الصوفية التي اتهمها الراحل بالتواطؤ مع القوى الاستعمارية، مطلع القرن التاسع عشر. طرح كلّفه انتقادات واسعة، من مختلف زعماء التوجه الصوفي، في بلد المليون ونصف المليون شهيد، وهم يستحوذون على عدد مهم من المقاعد، في البرلمان، وحقيبة وزارية ثابتة. معطيات أسهمت في منع تداول مؤلفات أركون في الجزائر، وعدم اعتماد نصوصه ضمن الكتب المدرسية.
في عام 1991، عندما تدخّل الجيش الجزائري لمنع “الجبهة الإسلاميّة للإنقاذ” من تسلّم مقاليد الحكم التي حصلت عليها بعد الانتخابات التشريعيّة، انتصر أركون لمنطق الروح الديموقراطية رغم موقفه النقدي الصريح من الإسلاميين.
عايش أركون مختلف التحوّلات التي عرفها تاريخ الجزائر المعاصر، من الثورة التحريرية، إلى الحرب الأهلية. وأصرّ دوماً على أهميّة إعادة تعريف الهويّة المغاربية إجمالاً، وعدم حصرها في بعديها الإيديولوجي والجغرافي. محمد أركون لم يرمِ شخصيته الأمازيغية الجزائرية، المتمتعة بروح العناد. ولم يرضخ أمام مواقف المنع التي أعلنتها في وجهه الجهات الرسمية في بلاده. بقي مؤمناً بأنّ الاعتراف به سيبلغ يوماً ما أرض الأجداد، بعدما طاف مختلف بقاع العالم، ونال جوائز مهمة منها “جائزة ابن رشد للفكر الحرّ” (2003).
(الجزائر)
هكذا تكلّم… آخر المعتزلة
|ريتا فرج|
كأنّ رحيل العلّامة محمد أركون المباغت هو بمثابة اغتيال للعقل العربي الناقد. مَن هم ورثته من المجدّدين العرب الذين اجتهدوا في زعزعة اليقينيات والدوغمائيات العقائدية؟
العالِم الجزائري وأستاذ تاريخ الفكر الإسلامي والفلسفة في “السوربون”، قارع المسكوت عنه في الإسلام التاريخي. أسّس لمشروع نقد الفكر الإسلامي في أكثر من أطروحة أثارت جدلاً ثقافياً قلّ نظيره بالنسبة إلى أقرانه ممن حفروا في أركيولوجيا التاريخ. تعود مكانته المعرفية والأكاديمية إلى كونه اعتمد في قراءته للنصوص التأسيسية على المناهج الغربية الحديثة، من اللسانيات والسيميائيات، وصولاً إلى وضع الظاهرة المدروسة ضمن سياقها الزمكاني. كلّ أدواته النقديّة وظّفها لإخراج الإسلام من الدوغما التي تكبّله.
“الإسلام أوروبا الغرب”، و”العلمنة والدين”، و”الفكر الإسلامي: نقد واجتهاد”، و”الأنسنة والإسلام مدخل تاريخي نقدي”، أطروحات صاغها صاحب مشروع نقد العقل الإسلامي على مدار عقود، وبذل جهده الفكري في تأكيد حيوية “الحدث الإسلامي” و”الحدث القرآني” – لجهة الحركية، والتفاعل مع المتحوّل – بعدما ميّز بينهما، من دون أن يعني ذلك أنَّه لم يموضع “القرآن” في تجلياته التاريخية. تحرّى أركون بعقل العقل عن المسبّبات التي عاقت محاكاة الإسلام للعصر، كما فعلت المسيحية الغربية حين أعدّت عدّتها مع ديكارت، رائد العقلانية الأوروبية.
المقارنة بين “الديانات التوحيدية الثلاث” – وهو المصطلح الذي ابتكره صاحب “نحو نقد العقل الإسلامي” – مثّلت أحد أبرز المناهج التي عمل عليها، بعدما خلص إلى أنّ الحقبة التي يمر بها الإسلام الراهن لا ترتبط فقط بالتفسيرات الخاطئة للنص المقدس. الإسلام اليوم يعيش الأزمة نفسها التي خبرتها المسيحية الغربية في قرونها الوسطى، حين “أجبرت بعد مقاومات عنيدة وتأخر زمني، على هضم مكتسبات الحداثة العلمية والفلسفية والقبول بها”.
منذ خرقه المسكوت عنه في إسلام النص وإسلام التاريخ، كرّس أركون جهده الأكاديمي (نقلت غالبية كتبه إلى العربية عن “دار الطليعة” و”الساقي” بجهد تلميذه هاشم صالح) في التحري الأنثروبولوجي والأركيولوجي عن العوامل التي تعوق المواءمة بين الإسلام والحداثة، متأثراً بطريقة فوكو. لم يكتفِ بهذا الحدّ، بل رأى أن الإسلام لا يتناقض مع العلمانيّة، لأنّه خبرها منذ التأسيس لأواصر الدولة الأموية تحت عنوان “إيديولوجيا التدبير”، لتبلغ ذروتها مع الفكر المعتزلي (المذهب الرسمي في عهد الخليفة المأمون). “فالإسلام بذاته ليس مغلقاً على العلمانية”، لكنّ الدوغمائيات المعاصرة أوصلته إلى الانسداد اللاهوتي الراهن.
على إيقاع اللطف الإلهي الذي يعني بالمعنى القرآني “نور العقل”، جادل أركون عقائد الانغلاقيين الذين مثّلوا امتداداً للأشاعرة. هو شديد التأثر بالمعتزلة، روّاد الاجتهاد.
يمثّل أركون حلقة الوصل التاريخية لمعارك الإصلاحيين من أمثال الأفغاني والكواكبي وعلي عبد الرازق ومحمد عبده التي تابعت مسيرتها مع طه حسين ومحمد عابد الجابري ونصر حامد أبو زيد وعبد الله العروي وهشام جعيط. لم ترهبه يوماً فوضى العنف باسم الإسلام. الواقع المأزوم فرض عليه خوض معركة الفكر على أكثر من جبهة. التحديث بالنسبة إليه حاجة ملحة، وقراءة التراث وتأويله يحتاجان إلى قواعد تستنطق النص المقدس. قواعد لا يفقهها سوى الحداثيين، أو الحركيين كما يصنِّفهم الراحل السيد محمد حسين فضل الله.
أركون الذي تمرَّس في دراسة ظاهرة الوحي القرآني بمدلولها التاريخي، كان السبّاق في هذا المجال. الاتجاه الإسلامي الرسمي الذي لا يقبل تاريخية الوحي والقرآن، لا بد من أنّه انزعج من اجتهاداته. غير أن المواءمة بين القرآن والتاريخ، وبين الإسلام والحداثة، لم تكن وحدها التي شغلته. ردَّ على بعض المستشرقين الذين شوّهوا صورة الإسلام في الغرب كرمز للعنف واضطهاد المرأة. كانت له في هذا المجال أفكار علمية من دون أن يدخل في جدلية هدم علم الاستشراق وتصويره في السياق الإمبريالي كما فعل إدوارد سعيد في أطروحته الشهيرة.
يكرّس المسار المعرفي عند أركون جهده لإدخال علم الإسلاميات التطبيقية على التراث، بغية تفكيكه وتعريته من الأوهام التي تكبله، وهو في هذا المجال تأثر بمدرسة الحوليات الفرنسية وأضاف إليها مناهج جديدة. لقد فاجأنا أركون برحيله، تاركاً إرثاً علمياً لا يوازيه فيه أحد من ناحية الإعداد لمشروع متكامل عنوانه نقد العقل الإسلامي.
هزمهم الموت ولمّا يكسبوا معركة “التنوير”
|ياسين تملالي|
يا لِيُتْم العقلانية العربية وهي تنظر إلى ثلاثة من آبائها يُوارون في الترابَ في أقل من أربعة شهور: محمد عابد الجابري ونصر حامد أبو زيد ومحمد أركون. يا لسوء حظ معتزلة القرن العشرين: هزمهم الموت من دون أن يكسبوا معركة “التنوير” في بلدانهم. بدأ المعتزلة قلةً قليلةً، لكنّ الزمن – على قسوته عليهم – كان أرقّ عليهم منه على خلفائهم المعاصرين. قالوا إن “القرآن مخلوق”. مع ذلك، لم “يجمع العلماء” على تكفيرهم. معتزلةُ القرن العشرين لم تحمهم كثرتُهم (النسبية). بدأت محنتُهم حالَ تغريدهم خارج السرب. بعضهم كأركون، غادر بلَده طويلاً، ولمّا عاد إليه منتصف الثمانينيات مدعواً إلى “مؤتمرات الفكر الإسلامي”، فهم أنه لم يؤت به إلا ليُسبغ عليها صفة الشرعية الأكاديمية. البعضُ الآخر، كأبو زيد، أُجبر على اللجوء إلى المنفى بعدما كُفّر وطُلّق من زوجته بحكم سوريالي من محكمة سوريالية. ومن لم يتعرض للنفي كالجابري، لم يسلم من ألسنة المتطاولين.
سبّب المعتزلةُ “محنة ابن حنبل” وشارك بعض أقطابهم في “محاكم التفتيش” المأمونية. الجابري وأبو زيد وأركون، عكسَ ما يُروّج له بعض من يخلطون بينهم وبين غلاة “التنوير” التسلطي، لم يسبّبوا محنة أحد. لم يعذّب أحدٌ بسببهم، لكنّ براءتَهم لم تحمهم من إهانات أهونُها اتهامُهم بأنهم في خدمة الحكومات الجاثمة على صدور أوطانهم.
عاش المعتزلة في أوج مجد دولة تمتد أطرافها من حدود الصين إلى المحيط الأطلسي. لم يكن فكرُهم، على أهميته، شرطاً ضرورياً لبقائها. مع ذلك، ما أعظم أثَرهم في تاريخ الدولة العباسية. معتزلةُ اليوم، ممن يغيّبهم الموت واحداً تلو الآخر، نشأوا في بلاد مستعمرة، العقلانيةُ فيها شرط أساسيٌ لنهضتها. مع ذلك، تبدو كتاباتُهم فيها ترفاً بالغاً إن لم يعدّها بعضهم كفراً لا عقابَ عليه سوى الموت.
انتُقد المعتزلة أشد الانتقاد، لكنّ بغداد في عهدهم لم تكن تحت سلطة بيزنطة، فلم يُجابَهوا إلا نادراً بأن فكرهم “مستوردٌ دخيل”. أما ورثتُهم اليوم، فما إن ينطقوا حتى يهبَّ المتزمتون ليصفوهم بأنهم “رأسُ حربة الغزو الثقافي”، ناسين أن لا أحدَ غيرهم انتقد الاستشراقَ وحجّم تأثيرَه في مؤسسات أكاديمية ذات تأثير كبير في القرار السياسي الأوروبي والأميركي.
هذه محنةُ معتزلة القرن العشرين، اجتهدوا فحوربوا وشرّدوا، وقضى كثيرون منهم في المنفى. ماتوا غرباء. هذه محنةُ ولادتهم في زمن تُقهر فيه بلدانهم باسم الرقي، وتقاد باسم العقلانية إلى المعتقل.