ديفيد فوستر والاس: المَوت اللائق بالمعرفة الفائضة/ ريم غنايم
لم ينتحر ديف، رفيق الكلاب وصاحب العقل المنحرف، خطأ… لقد انتحر بكامل طاقته وخصوبته الأدبيّة، في التوقيت والمكان المناسبيْن، انتحار الأربعينيّ في مرآب بيته، وانتحار من فقد معنى المتعة التي كثيرًا ما طاردها، ومن قبض على المعرفة الكاملة بالعالَم المنقوص
|ريم غنايم|
في الثّاني عشر من أيلول عام 2008، رحل الكاتب الأمريكيّ الشّاب ديفيد فوستر والاس عن العالم معلّقًا نفسه في حبل في مرآب منزله، مستغلاً فرصة غياب زوجته، كارين غرين، لساعات، واضعًا حدًّا لمسيرة أدبيّة استثنائيّة قصيرة لكاتب أمريكيّ مكتئب، عن عمر ناهز السادسة والأربعين.
لم يكَن الكاتب معصوب الرأس أوّل الأدباء المكتئبين في دفيئة الأدباء المنتحرين، وبلا شكّ لن يكون آخرَهم؛ فالانتحار في الأدب فكرة طالَت شعراء وشاعرات وروائيّين وروائيّات من بقع جغرافيّة مختلفة لا تحكمها بالضرورة ذات الثقافة وذات الظّروف وذات الاحباطات الجمعيّة والفرديّة، عرفناها مع: فيرجينيا وولف، وفلاديمير ماياكوفسكي، وإرنست همينغواي، وسيلفيا بلاث، وجون كنيدي تول، ويوكيو ميشيما وغيرهم. يبدو الانتحار هنا غواية العقل العارف والرّغبة في تحرير النّفس من هواجسها، وسعيًا لاختبار الجرأة في أقصى حدودها.
لم يكن في مقدور والاس، الكاتب الغاضب في صَمت، أن يقاوم الرغبة في الانتحار لسنوات إلاّ باللجوء إلى الكتابة ليكون واحدًا من أهمّ الأقلام المعاصرة في المدوّنة السّرديّة الأمريكيّة، ويعيش السنوات المعدودة من حياته الأدبيّة في قلق البحث عن معنى المرح والمتعة في الكتابة، محاولاً القبض على معاني وأشكال الحياة المتعدّدة، من دون أن ينجح تمامًا في مصالحة العالَم.
ديف كاتب محطّات بامتياز، وقد ارتبطت هذه المحطّات بطبقات متعدّدة من وعي الذّات للذات وللعالَم، بين المرح والتّيه والتنقّل بين الأفكار وفق حاجة الفنّان وردّ فعله على عالَم حداثيّ، وبعد حداثيّ أمريكيّ متطّرف في الغربة وموغل في الوجوديّة التي صنّعتها ماكينات الإعلام والتّجارة والتلفزة والموضة وعشق الكليشيهات. كانت رؤيته عميقة وطويلة الأمد تجاوزت الحداثة وما بعد الحداثة ودمجت بين ثقافة البوب والثقافة العالية، ولامَست مفاهيم حزن النّفس البشريّة والمَرح والموازنة بين المفارقات، لتولّد أدبًا يُعيدُ صياغة علاقته ككاتب بالقارئ. فقد كان والاس مفتونًا ومهووسًا على الدّوام بتلكَ العلاقة بينه وبين القارئ ورأى بأنّه لا يساوي شيئًا عند القارئ إلّا من خلال ما يكتب.
والاس، المولود عام 1961، هو ابن لجيمس دونالد وسالي فوستر، بورجوازيّين مثقّفين ينتميان إلى عالَم الفلسفة والأدب والأكاديميا. عام 1987 أصدر روايته الأولى مكنسة النّظام تجاوزت الخمسمائة صفحة، وعام 1996 أصدر روايته الثانية الدعابة اللانهائيّة (1097 صفحة)، وعام 2011 (بعد انتحاره) صدرت روايته غير المكتملة الملك الشّاحب. لم يكتف والاس بهذا الحدّ من الكتابة، إذ بين كلّ رواية وأخرى لعب الروائيّ الموسوعيّ دَور القاصّ وكاتب المقالة والصحفيّ الألمعيّ، فكتب فتاة ذات شعر غريب، ومقابلات قصيرة مع رجال مقيتين، وسِلوان وشيء من المفترض أنّه مرح لن أفعله مجدّدًا وغيرها. رسم بورتريهات خياليّة لشخوص عالقين يعيشون واقعًا لا يعتقدون بوجوده، سيرة أطفال محترقين تتناسخ أرواحهم، عوالم نساء مثليّات وطفولات ضائعة، عوالم إدمان واكتئاب وانتحار، رحلة غروتسكيّة على متن سفينة المتع، شخوص وأحداث من الواقع يجرّها والاس إلى عالمه الأدبيّ والتأملّيّ الذي يتحوّل إلى مرايا تعكس مرايا واقعه، مرايا تهشّم مرايا أخرى. من هنا، أصبح والاس كاتبًا مهمًا شقّ طريقه إلى القارئ، وصارت الكتابة زخمة زخم الموسيقى والرياضيّات والرّياضة.
القارئ لأعمال والاس القصصيّة والروائيّة والصحفيّة، يُلاحظ فيها متانة الأسلوب، ورشاقة العبارات وعمق السورياليّة الفكريّة واللعب على أوتار الفكاهة العميقة المغموسة بالحزن، وبالرغبة الضّائعة في الخلاص
ولع والاس برياضة التّنس ومارسها في شبابه وتفوّق فيها. ثمّ توقّف فجأة عام 1977. “ارتدّت موهبتي” يقول، وكان هذا الارتداد بداية الولوج إلى عالم الحزن الرّاشد. لكنّ الانقطاع عن رياضة الجسد، سرعان ما نقله إلى رياضة الذّهن، فالرجل كان على قدر كبير من الموهبة والولوع بالتفكير الهندسيّ، فانتقل عام 1980 ليدرس الفلسفة متخصّصًا في الرياضة والمنطق، وكان لأعمال لودويغ فيتغنشتاين أثر كبير في ترسيم عمق الرؤية الفلسفيّة للواقع في كتاباته لاحقًا.
وكعادة المكتئب الباحث عن ذاته في متاهة التحوّلات، توقّفت متعة التفكير الرياضيّ فجأةً ولم يعد ديف يشعر بوهج ما افتتن به، فكان الاحباط والحيرة مصير الكاتب، والرّهبة من فقدان المتعة سببًا في انقطاعه عن الدراسة وعودته إلى البيت ليتحوّل إلى كاتب وقنّاص أفكار.
القارئ لأعمال والاس القصصيّة والروائيّة والصحفيّة، يُلاحظ فيها متانة الأسلوب، ورشاقة العبارات وعمق السورياليّة الفكريّة واللعب على أوتار الفكاهة العميقة المغموسة بالحزن، وبالرغبة الضّائعة في الخلاص. هكذا يتناول الكاتب الكاريزماتيّ كلّ ما تقع عينه أو يده أو قلبه عليه. وقد كان بإمكان الكاتب الشّاب أن يقع فريسة الشهرة السّريعة والنجاحات الأدبيّة والصّحافيّة والأكاديميّة الباهرة، والمنصب الاجتماعيّ والفكريّ المرموق، لكنّ الرّجل كان منشغلاً بخطّ آخر. لم تنقصه موهبة التأثير في الآخرين، ولا قوّة الحضور، ولا العقل النقديّ التقويضيّ الذي واجه به، مع مجايليه من الكتّاب الشّباب أمثال جوناثان فرانزن، زيدي سميث وغيرهم، ماكينة الرأسمالية وزيف الانغماس في ملذّاتها، وتفتيت المنظومات الاجتماعيّة المشوّهة بلغة لا تشبه لغة أحد. وعلى الرّغم من أنّ والاس لم يكن سياسيًا، ولم يكن ناقدًا سينمائيًا، ولم يكن لاعب تنس محترفًا، ولم يكن نحويًا، لكنّه لامس هذه الظّواهر كمَن انتمى إليها، فكتب عن حملة جون مكاين الانتخابيّة عام 2000، عن أحداث الحادي عشر من سبتمبر، عن أفلام ديفيد لينتش، عن روجر فيدرر، عن اللغة والنّحو وغيرها من المقالات، رابطًا ببراعة بين التفاصيل الصغيرة وبين معانيها الجماليّة الأكثر عمقًا.
لم ينتحر ديف، رفيق الكلاب وصاحب العقل المنحرف، خطأ، ولم يكن الفرار إلى المَوت خيارًا قسريًا للهروب من العالَم. لقد انتحر بكامل طاقته وكامل خصوبته الأدبيّة، في التوقيت المناسب وفي المكان المناسب، انتحار الأربعينيّ في مرآب بيته، وانتحار من فقد معنى المتعة التي كثيرًا ما طاردها، ومن قبض على المعرفة الكاملة بالعالَم المنقوص، المعرفة التي فاضت عن حدّها وعن حاجة الكاتب لها، فجاءَ المَوت ثمنًا طبيعيًا لبداية حياة جديدة يستكشفها بتجسّدات أخرى في حيوات أخرى.