درس أبو عمار/ هشام نفّاع
إنّ الفصل الأخير من حياة عرفات امتدّ منذ وقع في أكبر أخطائه السياسية مطلع وخلال التسعينيات، وحتى أكبر مآثره البطولية حين قضى صامدًا مطلع سنوات الألفين. نقطتان تصلحان لأن تكونا إحداثيّتين لمعنى المأساة. ولكن، بين هذا وذاك، قضى نحبه مثلما قضى حياته: ثائرًا وبطلا وطنيًا
درس أبو عمار/ هشام نفّاع
|هشام نفاع|
هناك الكثير من التفاصيل التي يتوجّب على المفاوضين الفلسطينيين –بحكم المسؤولية الملقاة على أكتافهم– أن يتذكروها فيما هم ماضون في “هذه” المفاوضات المباشرة. لا أقصد، فقط، تذكُّر أنهم يفاوضون حكومة تمتدّ من ايهود براك يمينًا، مرورًا ببنيامين نتنياهو يمينًا، ووصولا إلى افيغدور ليبرمان والياهو يشاي، يمينًا.. بل تفاصيل مرتبطة بتجربة السنوات الأخيرة من حياة قائد فلسطيني اسمه ياسر عرفات.
يوم بدأ العدوان الاحتلالي الاسرائيلي الذي اندلعت تحت وطأة وحشيته الانتفاضة الثانية، تراوح الأمر بين المفاجأة والمتوقّع. بعدها بفترة تبيّن ألاّ مكان للمفاجأة، لأنّ الخطط العسكرية الاسرائيلية كانت جاهزة ومع عناوين فاقعة مثل: “حقل الشوك”، وبعدها “السور الواقي”. وقد سبق أن تم إعدادها في ذروة المفاوضات التي أراد رئيس الحكومة في حينه، براك، “إنهاء الصراع” في ختامها.
وهكذا، ففي أواخر أيلول-مطلع تشرين الأول 2000 نفذت اسرائيل قرارها الوحشي المبيّت. بعد فشل محاولات ليّ الذراع بأدوات السياسة، أرسلت بجندها ودباباتها لاجتياح الضفة الغربية وقطاع غزة ومحو آخر آثار اتفاقات أوسلو الباهتة. عمليًا، كان هذا ثاني أكبر امتحانات الرّاحل عرفات. الأول كان في “كامب ديفيد”، حين خاطب الرئيس الأمريكي بيل كلينتون الذي “شدّ وجدّ” لجعله يقبل بإملاءات حكومة اسرائيل، بالقول: هل ترغب بالمشاركة في جنازتي؟
يكفي النظر إلى تفاعلات الساحة السياسية الفلسطينية: إلى السلطتين المنقسمتين في رام الله وفي غزة؛ إلى سلطة رفعت لواء رفض التفاوض دون وقف الاستيطان، ثم ابتلعت ما أعلنته ومعه عدة ضفادع Made in USA
كان هذا هو الامتحان السياسيّ الحاسم. ثم جاء الامتحان الميدانيّ. كانت قد مرّت سنتان على العدوان، لم تتورّع فيها المؤسّستان السياسية والعسكرية الاسرائيليتان عن اقتراف أبشع الاعتداءات على الفلسطينيين في المناطق المحتلة عام 1967، بحيث صار استخدام الدبابة والطائرات الأمريكية المقاتلة ضد مواقع مدنية أمرًا عاديًا. في ربيع 2002 أطلق رئيس الحكومة حينذاك أريئيل شارون اجتياح “السور الواقي” الذي نجحت اسرائيل خلاله برفع مكانتها الى ذروة جديدة على سلّم جرائم الحرب البشعة.
على امتداد السنوات التالية لم تتقدم الدبابات باتجاه مواقع المقاومة والاحتجاج في جنين ونابلس وطولكرم وسواها، فقط، بل تقدّمت في اتجاه المقاطعة حيث كان عرفات، فتمّ تدمير أجزاء من المبنى ومحاصرته وقطع الكهرباء والماء عنه. هنا، توالت العروض العربية الرسمية الذليلة، بل المتآمرة مع اسرائيل، بإرسال مروحيّة تخرجه خارج الحدود، لكن عرفات أجابهم بمقولته المجلجلة: يريدونني أسيرًا، قتيلا أو طريدًا، وأنا أقول لهم شهيدًا، شهيدًا..
كان بوسع عرفات التصرّف كما يتصرّف الزعماء التقليديون العرب، وغير العرب. لكنه اختار أن يسلك درب الثوّار حتى النهاية. هذا ما فعله في كامب ديفيد، وهو ما فضّله بحزم خلال 4 سنوات منذ إطلاق العدوان الإسرائيلي المفتوح بعد ذلك بشهور قليلة، إلى أن قضى- اغتيالاً على الأرجح.
إنّ الفصل الأخير من حياة عرفات امتدّ منذ وقع في أكبر أخطائه السياسية مطلع وخلال التسعينيات، وحتى أكبر مآثره البطولية حين قضى صامدًا مطلع سنوات الألفين. نقطتان تصلحان لأن تكونا إحداثيّتين لمعنى المأساة. ولكن، بين هذا وذاك، قضى نحبه مثلما قضى حياته: ثائرًا وبطلا وطنيًا.
استعادة هذه التفاصيل مثيرة للإحراج؛ فيكفي النظر إلى تفاعلات الساحة السياسية الفلسطينية: إلى السلطتين المنقسمتين في رام الله وفي غزة؛ إلى سلطة رفعت لواء رفض التفاوض دون وقف الاستيطان، ثم ابتلعت ما أعلنته ومعه عدة ضفادع Made in USA؛ وإلى درب مجهولة لا يتوقّع لها أن تنتهي بأقل من انفجار/عدوان اسرائيلي جديد.
الصورة قاتمة، المخاطر كثيرة، والإغراءات أمام ضعيفي الإرادة أكثر.. المصالح الأمريكية التي تقتضي “ترتيب الأوراق” وفقًا لها، لم تتغيّر. فلا النفط نضب ولا شهدنا ثورة في أنظمة العرب.
يتمنى المرء ألا يكون مصير المفاوضين الفلسطينيين كمصير عرفات، لكنه سيظلّ يتمنى أن يحذوا حذوه، في صلابة الموقف والمسؤولية الوطنية.. ولكن، هل تُحلّ الأمور بالتمني؟!
18 سبتمبر 2010
مقال فياض احلى.. اكتر اكشن وراديكال