خصوصيات ثقافية حمّالة أوجه/ رائد الدبس
لنا في العالم العربي أمثلة لا تحصى، حيث يصبح الدفاع عن الخصوصيات الثقافية والدينية سيفاً حاداً مُشهراً في وجه المدافعين عن الحريات العامة والفردية وحقوق الإنسان والمرأة والأقليات، وكذلك في وجه الخصوم الفكريين والسياسيين بوجه عام. قديتا.نت كمثال…
خصوصيات ثقافية حمّالة أوجه/ رائد الدبس
| رائد الدبس|
“لا شيء يشوه السلوك العام للمثقف بقدر ما تفعل الزركشة والصمت الحذر والتبجح الوطني والارتداد الاستعادي المعبر عن الذات بطريقة مسرحية.” (إدوارد سعيد)
..
شهدت مرحلة ما بعد الاستشراق وما بعد الاستعمار ظهور مقولات الاعتراف بالخصوصيات الثقافية والدينية والقومية، واتساع دوائر نقاشها. كان من بين أهداف هذا الاعتراف بالخصوصيات الثقافية على يد مدارس ما بعد الاستشراق الغربي، التخفيف من وطأة صفات التعميم والتجريد والتنميط التي ثابرت علوم الاستشراق الغربي على إطلاقها في مرحلة الاستعمار. وسرعان ما لقيت مقولات الاعتراف بالخصوصيات الثقافية قبولاً واسعاً من جانب الشعوب التي تعرضت لكلٍّ من عمليات النهب الاستعماري، وكذلك عمليات التنميط الاستشراقي. وحدثت لأول مرة في تاريخ العلاقات بين الشرق والغرب عمليات تعاون ثقافي تهدف لتطوير تلك المقولات وتطويعها. وقد انخرطت في عمليات التعاون والتطويع نخب ثقافية وسياسية ودينية من غالبية بلدان وشعوب الشرق، أو ما بات يُعرَف أيضاً بنخب من العالم الثالث.
عمليات التعاون الثقافي الإيجابي في حدّ ذاته، كانت تجري وفقاً لمبادئ عامة وعناوين عريضة، من قبيل: احترام الخصوصيات الثقافية والدينية والقومية؛ الحفاظ على الموروث الثقافي؛ احترام حقوق الإنسان وحقوق المرأة والأقليات؛ احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية؛ وغير ذلك من المقولات والمبادئ العامة التي جاءت كلها جاهزة من الغرب، ولم يكن مطلوباً من نخب وحكومات العالم الثالث أكثر من التأكيد عليها وربما الإضافة والتعديل في بعض التفاصيل الصغيرة هنا وهناك.
في واقع الأمر، لم يكن ممكناً ولا معقولاً، الاختلاف مع أي من هذه المقولات، أو النظر إليها بسلبية لمجرد أنها آتية من خلف البحار، أو أنها منتَج فكري مُطوّر ومُهيّأ لمرحلة ما بعد الاستعمار. لكن لننظر إلى التطبيقات العملية على كلا الجانبين، أي في الغرب والشرق. فبينما كان تطبيق تلك المقولات في الغرب يدفع بعجلة التطوّر والتقدّم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي نحو الأمام، بقيت تطبيقاتها في ما سمّي بدول العالم الثالث تسير على نحو أبطأ بكثير من نظيراتها في الغرب. ليس هذا فحسب؛ فالأسوأ من ذلك هو أنّ التطبيقات العملية لهذه المقولات خلقت أنواعًا فريدة من المعايير المزدوجة للقيمة ذاتها، فهنالك معيار يصلح للغرب ولا يصلح للشرق، والعكس صحيح. أو أنّ معيار الخصوصية بالنسبة للغرب يعني التقدّم والتطوّر الدائمين في بناء مجتمعات مدنية، أما في الشرق فهو يعني الحفاظ على جوهرانية ثابتة تزداد تخلفاً مع مرور الزمن.
الدفاع عن هذه الخصوصيات ضمن منطق جوهراني ثابت، يمكن أن يقدم إغراءً خطابياً سهلاً وجاهزاً للتوظيف الأصولي، الفكري أو الديني على حد سواء. وهو خطاب الدفاع المأزوم عن الهوية وخصوصياتها
يمكن الحديث عن نماذج كثيرة تظهر ازدواجية المعايير، في السياسة كما في القضايا الاجتماعية الكبرى. فما يُعتبر في الغرب من أهم الخصوصيات مثل المساواة، والحريات العامة والفردية وحقوق الإنسان، يجري التعامل به حين يتعلق الأمر بالعالم الثالث وفق مقتضيات المصلحة السياسية، وحسب طبيعة العلاقة مع هذه الدولة أو تلك. ففي السياسة والعلاقات الدولية، وحدها المصالح هي التي تبلور وتحدد سلوك الدول، أما المبادئ والقيم فهي جزء من حملات العلاقات العامة التي تخدم المصالح الدولية وليس العكس. فعندما تقتضي المصلحة وجود علاقات صداقة وتحالف مع دولة من دول العالم الثالث، تنتهك حقوق الإنسان والمرأة والأقليات وترتكب فيها أبشع الجرائم مثل تجارة الأطفال أو رجم النساء أو منعهن من قيادة السيارات أو إخضاعهن لعمليات الختان، ويجري السكوت عن كل هذا وعن ما هو أفظع منه بكثير، تحت شعار احترام الخصوصيات الثقافية وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، مع أنّ هذه “الخصوصيات” كلها تُعدّ جرائم يعاقب القانون مرتكبيها في الغرب. أما حين يتعلق الأمر بدولة ليست صديقة للغرب، فيجري التركيز على تلك “الخصوصيات” وفضحها باعتبارها جرائم تنتهك حقوق الإنسان والمرأة والأقليات، وغير ذلك. هذه الازدواجية لم تقتصر على تعامل الغرب مع الدول والحكومات فحسب، بل تعدّتها إلى خلق شرائح اجتماعية واسعة ونخب ثقافية وشبه ثقافية تمارس الازدواجية ذاتها، في الغرب والشرق على حدّ سواء. وليس بالضرورة من موقع الدفاع عن الخصوصيات الثقافية في حدّ ذاتها، بل من مواقع الأصولية الدينية أوالأيديولوجية المتعددة الأوجه. فالدفاع عن هذه الخصوصيات ضمن منطق جوهراني ثابت، يمكن أن يقدم إغراءً خطابياً سهلاً وجاهزاً للتوظيف الأصولي، الفكري أو الديني على حد سواء. وهو خطاب الدفاع المأزوم عن الهوية وخصوصياتها. ولنا في العالم العربي أمثلة لا تُعدّ ولا تحصى على ذلك، حيث يصبح الدفاع عن الخصوصيات الثقافية والدينية سيفاً حاداً مُشهراً في وجه المدافعين عن الحريات العامة والفردية وحقوق الإنسان والمرأة والأقليات، وكذلك في وجه الخصوم الفكريين والسياسيين بوجه عام، أي أنه غالباً ما يتحول إلى حق يراد به باطل. أو حق يُستخدم لا للدفاع عنه في حد ذاته، بل للتشهير بالخصوم والتقليل من شأنهم وشأن أفكارهم دون بذل جهد يُذكر في مناقشة أفكارهم ومواجهة الحجة بالحجة والبرهان.
وفي هذا السياق، غالباً ما تجري عمليات التجميل والزركشة لصورة مجتمعاتنا وكأنها مجتمعات ملائكية، في مقابل عمليات الشيطنة لمجتمعات الغرب والقيم الاجتماعية السائدة فيها.. هذه هي بعض مظاهر تطبيق مفهوم الخصوصيات الثقافية في معظم دول العالم الثالث، في مرحلة ما بعد الاستشراق الغربي، وهي تطبيقات أقلّ ما يمكن أن يقال فيها، أنها تطبيقات مأزومة حمّالة أوجه.
الاستشراق الإسرائيلي لم يبتعد عن نظيره الغربي، فهو يكاد يكون بمثابة مولوده الشرعيّ. القائمون على الاستشراق الإسرائيلي هم يهود غربيون (إشكناز) ولا يختلفون في نظرتهم للمجتمع الفلسطيني وتنميطهم له عمّا فعله نظراؤهم المستشرقون الأوروبيون من تنميط لكلّ مجتمعات الشرق. وبما أنّ الاستشراق الإسرائيلي وُلد ونما في مرحلة ما بعد الاستشراق، وهي المرحلة التي ازدهر فيها الحديث عن الخصوصيات الثقافية، فإنه تناغم مع تلك المقولات وبدا قادراً على الاعتراف بالخصوصيات الثقافية والدينية للفلسطينيين، لكن من دون التخلي عن الصور النمطية التي كوّنها عنهم “كمجتمع عشائري جاهل ومتخلف ومنغلق على ذاته، ولديه الكثير من التابوهات والمحرمات” وغير ذلك من التوصيفات والصور النمطية.
الاعتراف بخصوصيات ثقافية ودينية للمجتمع الفلسطيني ليس معزولاً عن مجمل أهداف الاستشراق الإسرائيلي وسعيه الدائم لتنميط هذا المجتمع في مجموعة من الصور النمطية سالفة الذكر، في مقابل رسم صور مغايرة عن المجتمع الإسرائيلي وتصويره بأنه مجتمع الحداثة والديمقراطية والتعددية السياسية والاجتماعية والثقافية، وأنه مجتمع لبيرالي منفتح على كل الأفكار، ويصون الحريات العامة والفردية، وقادر على الحديث العلني عن كلّ الظواهر والآفات والانحرافات الاجتماعية التي تحدث فيه، من دون تحفظ أو مواربة، ومن دون أن يمسّ ذلك الكشف والعلنية بصورة المجتمع. الاعتراف بخصوصيات المجتمع الفلسطيني يأتي للقول: أنظروا إلى خصوصيتنا الثقافية كيف تخدم تطور المجتمع الاسرائيلي، في مقابل خصوصية ثقافية ودينية تؤدّي إلى استمرار تخلف المجتمع الفلسطيني وخوفه من الانفتاح على الحريات العامة والفردية، بل خوفه من مناقشة الأفكار المتعلقة بالحريات.
واقع الأمر أنّ هنالك أسباباً موضوعية لخصوصية الحالة الفلسطينية؛ فالأمر يتعلق بمواجهة احتلال استيطاني كولونيالي يحاول أن يستولي على الرواية التاريخية قبل الاستيلاء على الأرض وطرد السكان. من هنا تكتسب مسائل مثل الحفاظ على التراث والهوية والرواية التاريخية والخصوصية الثقافية وتماسك النسيج الاجتماعي ومنظومة القيم الوطنية والاجتماعية، أهمية فائقة في مواجهة المحتلّ ومشروعه. لكن لو نظرنا إلى هذه المسائل، بما في ذلك خصوصية الحالة الفلسطينية برمّتها، ضمن منظور ديناميكيّ ينظر للحياة والمجتمع والهوية في تطوّرها وليس ضمن منظور جوهرانيّ ثابت عاجز عن الحركة، فما هي ضمانة عدم استخدام هذه الخصوصية لتكريس صور نمطية ثابتة وتجريدات خرافية تعزز حس البراءة البدائية المنافقة لدى المجتمع الفلسطيني؟ وما هي ضمانة عدم استخدامها لقمع محاولات الحديث والنقاش العلني في القضايا المسكوت عنها؟
ما يثير الانتباه في الساحة الثقافية الفلسطينية (خصوصاً في الضفة والقطاع)، هو الافتقار للنقاشات الفكرية والنظرية الجادة العميقة، والاكتفاء ببعض السّجالات المستندة إلى الحسّ الاجتماعي والسياسي المشترك، المنطلق من مقولات جاهزة تسعى لضبط التقاليد والأعراف وحمايتها من المؤثرات الخارجية “الدخيلة”. وسرعان ما يُرفع شعار الخصوصية الثقافية التي لا تسمح بنقاش علني لظواهر مَرَضيّة وانحرافية موجودة ومنتشرة في المجتمع. وكأنّ لسان حال هذه السجالات المأزومة يقول: لا مجال للحكايات الصغرى والهامشية أن تعبر عن ذاتها أمام الحكاية الفلسطينية الكبرى.
هذه السجالات التي تبتعد عن معايير الحقيقة الموضوعية، تحاول أن تمارس نوعاً من الوصاية على المجتمع باسم الوطن وقضيته الكبرى وخصوصياته الثقافية، لا تخدم قضيتنا الوطنية ولا مجتمعنا الفلسطيني بشيء
أثيرت مؤخراً بعض السجالات حول موقع “قديتا.نت” الذي خصص زاوية لكتابات المثليين جنسياً. الأمر المؤسف هو أن تلك السجالات ابتعدت عن الموضوعية وتحولت إلى هجوم اتهامي اتخذ أبعاداً تضخّم موضوع هذه الزاوية وتسخر من طرحه ومن المدافعين عنه وتشخصن النقاش معهم. في حقيقة الأمر، فإنّ هذه السجالات التي تبتعد عن معايير الحقيقة الموضوعية، تحاول أن تمارس نوعاً من الوصاية على المجتمع باسم الوطن وقضيته الكبرى وخصوصياته الثقافية، لا تخدم قضيتنا الوطنية ولا مجتمعنا الفلسطيني بشيء. الأمر الأسوأ من ذلك، هو أنّ هذا النوع من السجالات يكون منفراً أحياناً إلى درجة تدفع بالكثير من المثقفين وأصحاب الرأي إلى الابتعاد عنها وعدم المشاركة فيها والترفع عن المستوى الذي تنحدر إليه. وبنتيجة ذلك، فإن الأصوات التي تبقى أكثر ارتفاعاً هي تلك التي تستخدم خطاب الخصوصيات لأجل إسكات الآخرين والتقليل من شأنهم وشأن أفكارهم. فإذا كان ينبغي السكوت عن قضايا المثليين جنسياً وقضايا أخرى مثل زنى المحارم والعنف المتعدد الأوجه، فماذا عن روايات العملاء وطرق إسقاطهم؟ هل ينبغي السكوت عنها بذريعة الحفاظ على تماسك النسيج الاجتماعي أو غير ذلك من الذرائع؟ وهل ينفع هذا السلوك الاعتباطي الهادف لممارسة الوصاية على المجتمع؟ وهل هذه هي وظيفة الثقافة والمثقف؟
أخيراً، لا بأس من التذكير بما كتبه المفكر الراحل إدوارد سعيد عن السلوك العام للمثقف ومعايير الحقيقة، بأن “لا شيء يشوه السلوك العام للمثقف بقدر ما تفعل الزركشة والصمت الحذر والتبجح الوطني والارتداد الاستعادي المعبر عن الذات بطريقة مسرحية.”