رجال من ورق وحزن/ علاء حليحل
قراءة في رواية “جريمة في رام الله” ● يستخدم عبّاد يحيى العادي، المبتذل (Banal)، من أجل الحديث عن غير العاديّ، عن الشخصيات التي قرّرت في داخل مجتمع محافظ، يحبّ العاديّ جدًا، ألّا تكون عاديّة، الأمر الذي حوّل السعي المحموم إلى الحفاظ على العاديّ وتكريسه وتثبيته كمرساة، إلى حزن تراكميّ يخنق معه كلّ أمل بالتغيُّر والتغيير
.
|علاء حليحل|
تتناول رواية “جريمة في رام الله” لعبّاد يحيى، برأيي، ثيمة الرجولة، وتتناولها بقسوة ومن دون رحمة. كأنّ مفهوم الرجولة المعطوبة تحوّل هو بنفسه إلى أداة انتقاميّة من النصّ ومن أبطاله، من دون أن يمنح أيّ شخصيّة ذكريّة في الرواية فرصة لالتقاط النَفَس أو الالتفات إلى الوراء لبرهة، للتمعّن والتفكير. إنّها قسوة الرجولة حين تُشوَّه وحين تُقتل في السرير والشارع والبيت والعمل. لكنّها تُقتل بأقسى أشكالها، بالذات، حين تُقتل شابة بسكّين في زقاق مظلم في رام الله.
لم يكن من السهل أبدًا قراءة “جريمة في رام الله” من دون الصخب المرافق لها منذ قرار النائب العام الفلسطينيّ حظر توزيعها في الأراضي الفلسطينيّة. فكلّ قراءة لأيّ نصّ هيّ سيّالة جدًا بطبيعتها، تتعلق بالكثير من الأمور إلّا النصّ نفسه: الكاتب وتراكم نصوصه؛ القارئ وتراكم قراءاته؛ الظرف السياسيّ والاجتماعيّ والثقافيّ؛ الظروف الشخصيّة للقارئ ومزاجه اللحظيّ؛ والصخب العامّ. لذلك، قد تبدو هذه القراءة محاولة حثيثة لتناول الرواية من منظور أدبيّ/ حرفيّ فقط، في معزل عن الصخب المرافق.
للرواية ما لها وما عليها؛ فهي تتميّز بسرد انسيابيّ متدفّق، يتنقّل بين رواة عديدين على هيئة مونولوجات مكتوبة/ مرويّة، وعلى هيئة سرديّات من الراوي العليم الذي يتصرّف على سجيّته في التقطيع والتوليف وإعطاء الدور لكلّ شخصيّة بالكلام. لذا، فإنّ هذه العمليّة النصيّة هي بنظري أمثولة (أليغوري) للقمع الذي خضعت له رجولة أبطال الرواية الثلاثة: رؤوف ووسام ونور. لثلاثتهم مصير تراجيديّ مُعلَن: رؤوف يخرج في رحلة بحث عبثيّة عن فتاة (دُنيا) حوّلت مسار حياته، من دون نتيجة مرجوّة حتى حين يتعرّف بوجهها في النهاية. أمّا نور فهو شاب مثليّ واقع في غرام رؤوف وحبّه، يحاول أن يتبيّن درب حياته في أعقاب انفصاله عن رؤوف واستسلامه للمهانة والذلّ مع رجال “يستعملونه ويستعملهم” لساعة ويتركونه. ووسام، الذي يفقد توازن حياته حدّ الضياع بعد مقتل حبيبته في زقاق خارج مطعم في رام الله، وهي الجريمة التي تحمل الرواية اسمها.
لن أدخل في تفاصيل أكثر من هذه عن الحبكة وشخصياتها، التي تتقاطع في النهاية مع وقوع الجريمة، كي لا أفسد متعة القراءة، وسأحاول تلخيص مقولتها الكبرى (بنظري) في اقتباس من صفحة 182: “أدركَ حقيقة ما جرى فعلًا، أدرك أنّ التي استغنى عن الجميع حين عرفها، اختفتْ. لم تعد موجودة. كانت تنتابه موجة هلع؛ لأنه بدأ يدرك حقيقة ما جرى، كأيّ مكلوم آخر، كأيّ عاشق فقدَ سبب سعادته في حياة عاديّة جدًا…” يهمنّي هذا الاقتباس جدًا وخصوصًا الجملة الأخيرة فيه “فَقَدَ سبب سعادته في حياة عادية جدًا”، لأنّ يحيى يستخدم العادي، المبتذل (Banal)، من أجل الحديث عن غير العاديّ، عن الشخصيات التي قرّرت في داخل مجتمع محافظ، يحبّ العاديّ جدًا، ألّا تكون عاديّة، الأمر الذي حوّل السعي المحموم إلى الحفاظ على العاديّ وتكريسه وتثبيته كمرساة، إلى حزن تراكميّ يخنق معه كلّ أمل بالتغيُّر والتغيير.
قتل الرجولة هو جزء من عملية قتل الأب، وقد جاءت هذه السلسلة مرمّزة في الرواية بالتعرّض لبوستر عرفات، ما اعتبره البعض تهجّمًا على شخصية عرفات، ولكنهم لم يدركوا (ربما لأنهم لم يقرؤوا الرواية) أنّ هذا المشهد لا يقول شيئًا عن عرفات، بقدر ما يقول الكثير عنّا وعن الجيل الذي سبقنا وعن الجيل الذي سيأتي بعدنا
والخاصّ في هذه الرواية، والذي يبعث على الحزن الحقيقيّ، أنّ الكاتب يختار شخصيات ذكورية للحديث عن ذلك، خارج المتوقع تمامًا، في لعبة القوى المجتمعيّة: رجال/ نساء. لكنّه “يقتل” رجولة شخصياته كي تصبح “غير عاديّة”. هذا القتل هو جزء من سلسلة طويلة من عملية قتل الأب التي يمرّ بها كلّ مجتمع وكلّ جيل، وقد جاءت هذه السلسلة مرمّزة في الرواية بالتعرّض لبوستر عرفات، ما اعتبره البعض تهجّمًا على شخصية عرفات، ولكنهم لم يدركوا (ربما لأنهم لم يقرؤوا الرواية) أنّ هذا المشهد بالذات لا يقول شيئًا عن عرفات نفسه بقدر ما يقول الكثير عنّا وعن الجيل الذي سبقنا وعن الجيل الذي سيأتي بعدنا، في سلسلة “قتل الأب” التي نعيشها مجدّدًا. قد يكون ما أثار الحفيظة في هذا السياق أنّ عملية القتل هذه جرت في سياق مِثليّ، مهين للكثيرين بمجرد النطق به، دعْ عنك ممارسته.
العاديّ حاضر في الرواية على طريقة السلب: كلّ الشخصيات المركزيّة تسبح في بحر متلاطم من المتعارف عليه والمفترض و”المنطقيّ”، وهي بهذا تمارس نوعًا قاسيًا و”رومانسيًّا بطريقة غريبة” من التدمير الذاتيّ الواعي لنفسه، رغم ضبابيّته أحيانًا. وهذه هي الجريمة الكبرى في الرواية: أيُّ محاولة للخروج عن العاديّ، المألوف، في مجتمع مثل مجتمعنا، هي في أحيان كثيرة تسجيلات لموت معلن ومؤسف. فإمّا أن تفشل المحاولة ويعود “البطل” خائبًا إلى أمّه كي تزوّجه ابنة عمّه، وإمّا أن ينتصر دافعًا ثمنًا موجعًا: القطع مع كلّ ماضيه وبيئته وعائلته والبقاء وحيدًا إلّا من بعض الأبطال الخرافيّين الآخرين الذين يشاطرونه هذه الرحلة. “جريمة في رام الله” تستعرض في نصّها غير الصريح، المخفيّ تحت الكلمات، تلك الرحلة السيزيفيّة التي يحاول البعض قطعها، بنجاحات متفاوتة، ولكن عليهم جميعًا أن يقتلوا شخصًا/ شيئًا ما خلال هذه المحاولة، وأعتقد أنّ الغالبية العظمى من الناس لا تخرج لهذه الرحلة لأنّها تفضّل “الموت” على أن تقتل.
في السعي إلى الذات المستقلّة، المنسلخة عن المحيط العاديّ القامع، يضع يحيى أبطاله في تماسّ ومواجهة مع السلطة وأذرعها الأمنيّة، مع السلطة الأبويّة وهيمنة العائلة، مع “الشارع”، مجازيًّا وفعليًّا. فالتيه الروائيّ في شوارع رام الله هو تيه في صحراء معاصرة، في غابات من الاسمنت البارد في مدينة لم تقرّر بعد هويتها الجديدة المعاصرة: كم سنتيمترًا يمكن لها أن ترفع فستانها عن الركبة من أجل الغريب الداهم، كي تكسب رضاه وتظلّ محترمة. هذا هو السياق الذي تدور فيه الرواية، سياق مجتمعيّ/ سياسيّ يتّصف بالضياع غالبًا وبميوعة المعايير والأخلاقيّات المزدوجة. تمامًا مثل الرجولة المعاصرة في مجتمعات محافظة تاريخيّة قرّرت منذ سنوات أن تشمّر عن ساقيْها قليلاً، من دون استشارة الجميع، وقد يكون هذا السبب من وراء الضجة التي أثيرت حول الرواية.
تعاني الرواية كنصّ أدبيّ من تشتّت أحيانًا في مبنى السّرد، خصوصًا أنّ رواية ثلاث قصص مركزيّة في 228 صفحة تستوجب تكثيفًا كبيرًا لم يحضر بنفس المستوى على طول النصّ. وقد انعكس هذا التفاوت في المتانة المَبنويّة للرواية في ترهلٍ طال القليل من المونولوجات، سببه برأيي الحاجة لتوفير المعلومات في سياق خرج قليلًا عن المقوّمات السرديّة الدراميّة. ولا غضاضة من الإشارة إلى بعض المُباشَرَة أحيانًا التي وردت في بعض التوصيفات المِبضعيّة للأعضاء والممارسات الجنسيّة، الأمر الذي سدّ إمكانية الخيال والتخيّل لدى القارئ وحقّق في أماكن معيّنة ردّ فعل عكسيًّا للمرجوّ منه: ابتعاد ذهنيّ وحسيّ عن البطل وما يمرّ به بدلًا من الاقتراب والتضامن. نحن نؤسّس الشخصيّة الدراميّة والأدبيّة على تضامن القارئ والرائي معها، حتى في أفعالها “السيّئة”، وهذا يستوجب حساسية زائدة في مثل هذه الكتابة الواردة في الرواية موضوع الحديث. لكنّ هذا يظلّ مأخذًا جماليًّا بحتًا يأتي في سياق القراءة الأدبيّة والحرفيّة، ولا علاقة له أبدًا بالوصاية على الأدب والأخلاق الحميدة- وهذا ما منعنا الصخب والتحريض من فعله حتى الآن!