تونس وأثر الفراشة/ رائد الدبس
هذه الحقائق وعوامل أخرى غيرها كان الشعب يهمس بها همساً، وبدأ يتداولها جيل الشباب التونسي المستقل عبر الفيسبوك وغيره من المواقع الاجتماعية ، ساهمت في صنع الثورة الشعبية الشبابية التونسية تماماً. تلك الانتفاضة التي قد تكون بدورها كأثر الفراشة في ليل العرب.
تونس وأثر الفراشة/ رائد الدبس
|رائد الدبس|
بشائر “يناير” أو “جانفي” التي جاءت من تونس مطلع العام الجديد، عبر انتفاضة الحرية والكرامة والديمقراطية، تدفع الحكام والمحكومين، والمحللين والمثقفين والباحثين، إلى محاولة فهم ما حدث وكيف حدث، وما يحدث الآن بعد سقوط نظام بن علي. ولعل مفتاح فهم الحدث يكمن في فهم مسألتين رئيستين هما: العودة لدراسة طبائع الاستبداد وفساد السياسة. ثم دراسة خصوصية الحالة التونسية والبيئة الاجتماعية- التاريخية للشعب التونسي.
واحدة من أهم طبائع الاستبداد هي تعميم ثقافة الفساد في السياسة والمجتمع. وأن يجري هذا التعميم بشكل مترافق مع نشر ثقافة الخوف والرعب من التفكير بالتعبير الحر – وليس مجرد التعبير. يعرف الشعب التونسي وكل من عاش في تونس خلال سنوات العهد البائد أن فساد السياسة قد أدى إلى مصادرة كل شيء، ابتداءً من مصادرة السياسة ذاتها من حياة الناس وتفكيرهم، مروراً بمصادرة الثقافة والاقتصاد، وانتهاءً بمصادرة كل الحريات العامة، كتحصيل حاصل. من “الإنجازات” الإبداعية لنظام بن علي أنه أضاف طبعاً جديداً لطبائع الاستبداد وهو القدرة على إظهار نفسه كنظام نموذجي في السياسة والاقتصاد والثقافة والحريات العامة والفردي. وقد قام بذلك عبر محاولة إقناع التونسيين والتونسيات، ثم العالم كله، أن الحياة في تونس تكاد تكون بمثابة الجنة الأرضية. الطريقة: توفير النظام البوليسي الشديد المركزية والحزم، خارجيًا، أمنًا واستقرارًا. وكان يمارس إبداعاته إلإقناعية تلك، بمنطق خطاب ” بكل حزم.. بكل حزم”.
لكن من سوء حظ الدكتاتور ومنظومته الأمنية القوية، أنهم كانوا يحكمون شعباً يمتلك الكثير من أوراق القوة. فالشعب التونسي يمتلك ذاكرة وتربية وطنية أصيلة، وتقاليدَ عريقة في العمل النقابي والنضال الاجتماعي والوعي الحقوقي والدستوري، بالإضافة إلى مستوى عال جداً من التعليم والثقافة. كل هذه العناصر الأساسية شكلت نوعاً من البيئة الاجتماعية المميزة لتونس وشعبها المعروف بثقافة الانفتاح والتسامح القائمة على إحساس عال بالكرامة الوطنية، الجمعية والفردية. فبرغم كافة مساعي النظام، على امتداد ربع قرن، لتفكيك العناصر الأساسية لتلك البيئة، ووهمه بأنه نجح في ذلك، إلا أن حادثة الشهيد محمد البوعزيزي جاءت مثل أثر الفراشة التي شكل احتراقها سبباً كافياً لخروج الجمهور غاضبًا من مشاهدة مسرحية طويلة تافهة مدتها ربع قرن، كان مجبرًا على حضورها بصمت وقهر أمام ممثل وحيد محاط بجوقة من الفاسدين والحراس والعسس.
بعد إلقاء الرئيس المخلوع لخطابه الأخير (الذي يمكن تسميته خطاب الدكتاتور المذعور) الذي قال فيه لشعبه ضمن محاولة بائسة لتقليد عبارة الجنرال ديغول الشهيرة، ولكن بلهجة تونسية محببة: “أنا فهمتكم، فهمتكم” وقدم فيه سلسلة من الوعود بالإصلاح والديمقراطية والحرية، سألت صديقاً تونسياً: هل سيسامحه الشعب ويهدأ ويقتنع بهذه الوعود؟ فقال لي: “لو كان بن علي أذكى قليلا لقدم هذا الخطاب قبل عشر سنوات مثلاً، وطلق زوجته واعتقل إخوانها الفاسدين الذين نهبوا البلاد وأذلوا الناس، فربما كان الشعب سيسامحه ويقتنع بوعوده ويمنحه فرصة أخرى كي يبقى في الحكم، أما الآن فهذا غير ممكن”. وفي اليوم التالي لهذا الخطاب كان الدكتاتور المذعور المخلوع يجوب الأجواء بطائرته ليلاً، باحثاً عن دولة تؤويه فلم يجد غير المملكة السعودية، وانتهى عهده في الظلام مثلما بدأ.
إن حادثة البوعزيزي التي أشعلت ثورة الكرامة والحرية في تونس، ويقوم الآن شباب عربي غاضب بتقليدها من الجزائر إلى مصر فاليمن، هي حادثة بنت بيئتها التونسية المتسامحة والشديدة العاطفة والحساسية تجاه فعل من هذا النوع. وقد جاءت في لحظتها التاريخية الناضجة تماماً لاستقبالها والتحرك بناءً عليها. فمنذ سنوات طويلة كان الشعب التونسي يعاني ليس من الاستبداد والقمع والفساد والإفقار المنظم فحسب، بل من جرح في الكرامة الوطنية الجمعية والفردية أساسًا.
كثيراً ما كان الشعب التونسي يهمس بحنين إلى أيام الزعيم الراحل بورقيبة، الذي رفض هذا النظام أن يسمح لشعبه أن يودعه بجنازة تليق به. أو يهمس بخجل من حقيقة كان يعرفها جيداً، وهي أن زوجة الرئيس بن علي هي التي تقود البلاد فعلياً بالتعاون مع عصابة من آل الطرابلسي، وأنها تهيئ نفسها للرئاسة القادمة عام 2014. ناهيك عن معرفة الشعب لتاريخها الشخصي ومواصفات كفاءتها المهنية.. هذه الحقائق وعوامل أخرى غيرها كان الشعب يهمس بها همساً، وبدأ يتداولها جيل الشباب التونسي المستقل عبر الفيسبوك وغيره من المواقع الاجتماعية ، ساهمت في صنع الثورة الشعبية الشبابية التونسية تماماً. تلك الانتفاضة التي قد تكون بدورها كأثر الفراشة في ليل العرب.
يقال في تونس الآن وخارجها الكثير من الكلام السياسي وغير السياسي، وهنالك من يحاول تجيير الثورة لمصالح حزبية ضيقة والمزايدة عليها، وهنالك أعداء داخليون وخارجيون خائفون منها ويتآمرون عليها. خطاب القذافي يمكن أيضاً فهمه كخطاب من يشعر بالمصير المشترك مع بن علي. فهو خطاب موجه للشعب الليبي، على طريقة المثل القائل: بحاكيكي يا كنّه إسمعي يا جاره! أما إسرائيل التي تتشدق بديمقراطيتها، فلم تخفِ حزنها وأسفها على سقوط نظام بن علي، وباشرت فوراً بالترويج لخطر التطرف الإسلامي القادم في تونس، مع علمها وإدراكها التام بحقيقة الأمور، وبأن هذه الانتفاضة أثبتت غياب التيار الإسلامي عنها. لكن تصريحات الزعماء الإسرائيليين وخصوصاً سيلفان شالوم ، تحاول أن تتلاعب على مزاج شعبوي لتضخيم دور تيار الإسلام السياسي في تونس، مع إدراكها المسبق لضآلة هذا الدور.
يُراد لشعوبنا العربية كلها أن تبقى مشلولة الإرادة أمام ثنائية اختيار أحد الشرين كأنهما قدر لا رادَ له :إما استبداد أنظمة تتدثر بعباءة العلمانية وتنزع روحها وعقلها، وإما استبداد التيارات الأصولية والظلامية التي تنزع أساس وجود فكرة بناء الدولة الحديثة وتجهضها قبل ولادتها المتعثرة. وجاءت انتفاضة تونس المجيدة ألتثبت سقوط هذه الثنائية القدرية الشريرة
أخيراً، لا بد من كلمة لمن يوجهون النصائح للشعب التونسي البطل من المكاتب المريحة في استوديوهات الفضائيات، ويختلفون على تسمية انتفاضته المجيدة: أليس من الأفضل التوقف عن ذلك والتفكير باستخلاص وتعلم الدروس من هذا الشعب الذي أثبت جدارة ووعياً قلَ نظيره في بلادنا العربية؟
24 يناير 2011
وأخيرا.. لا بد من كلمة لمن يوجهون النصائح للشعب التونسي البطل من المكاتب المريحة، أو أحد المقاهي، أو في الغرفة المكيفة في البيت، ويجترون سطحيات ما كتب في مقالات مهمة وكبيرة عميقة، ولا يضيفون شيئا، لأنهم لم يقرأوا على الأقل ما كتب قبلهم عن الموضوع، أليس من الأفضل التوقف عن كتابة مقالات لا تقدم جديدا، لأن من يكتب يجب أن يضيف جديدا وإلا فلا داعي لكتابته.
أوليس من الأفضل أن نسمي الأمور بسمياتها، وأن نعي أنها ليست انتضافة، بل ثورة، وثورة حقيقية، وأنه يجب أن نعرف أن نميز بين “ثورة” و”انتفاضة”.