آي- سكريم في السيّارة/ تمارا ناصر
أذكر حين وصلنا إلى البيت يومها: كانت أمي في البيت صدفةً، نظرت إليّ وسألتني عمّل حصل، فردّ أبي مُسرعًا بأنّه لقنني درسا هامًّا اليوم: “بتعامل السيارة زي المزبلة بنتك”. فقامت أمي بالتربيت على كتفي: “حبيبتي معليش، السيارة لأبوكي زي مَرَتُه.. يا ريت يعتني فيّي قد ما بعتني بالخرية تبعتُه”
.
|تمارا ناصر|
أمام كرة الشمس الملتهبة، وقفت ورأيت مشاريعي الصيفيّة تتبعثر. فُتات عدميّة متطايرة سُحقت وتلاشت من دون مرورها بالمراحل المترتّبة عند الفناء. لقد أجهضت بأناقة؛ فلا دم ولا أغشية ولا أحشاء ولا مصارين ولا سوائل ولا مخاط. انسلّت أشعّة الشمس إلى داخلي، فانتابني شعور بأنّ أعضائي تتورّم وتنتفخ كحبّة فاكهة أخذت تتجاوز مرحلة النضوج، فضربها الفساد. لمحتُ خطفا بقعة مظللة ودلفت إليها مهزومة. رأسي مصاب بالدوران. حطّت يدها على كتفي وقالت:
“معليش يَختي، كلها رخصة سواقة.. رَوْقيها.”
“شو معليش؟ مش معليش شيلي!”
كانت تحاول معي بشتى الطرق؛ جاءت بقنينة ماء، تجرّعتها دفعة واحدة، ثم بصقتها خارجًا بدفعات متسلسلة. بعدها غرست يدها في حقيبتها باحثة عن شيء تمسح به وجهي بينما أخذت تردّد جملتها بأنّ كلّ شيء سيكون على ما يرام، وبأنّ ردّ فعلي فيه تطرف لا يتناسب مع حجم ما حصل. شعرت بأنّ ما كان سبق نوبة القلق هذه بات مجرد حدث مشوّش، لم أبكِه. لم أكن أبكي رخصة القيادة التي سحبتها منّي للتوّ الشرطة والمحكمة الإسرائيليّة، بل بكيت شيئًا ضاع مني منذ زمن بعيد.. شيء لم يكن ملكي أصلًا. كانت منظومتي النفسانيّة على وشك تبنّي قصّة الرخصة.
قلتُ: “إسّا برُوق.. مش عارفة شو صابني.. آه كلها رخصة”. زاحمت ابتسامتها سيلًا من الدموع لم أتبيّن معانيه على الفور، كما اعتدتُ. أيَسُرُّها اقتناعي السريع بأنها على حقّ وبأنّ كلّ شيء سيكون فعلا على ما يرام؟ أم أنّها تسمح لنفسها بانهيار سريع ورقيق فقط حين تمكنتُ من إبداء بعض التماسك؟
كانت الشمس حارقة، تُذيب عنّي طبقات جلدية ببطءٍ. “يلّا نروح من هون” قالتْ.
قمت أنا بقيادة السيارة رجوعًا؛ فلن يدخل القرار إلى حيّز التنفيذ إلّا بعد شهريْن من اليوم. كانت الأشياء تظهر من النوافذ بجودة عالية، التفاصيل أوضح ممّا يجب بكثير، والألوان من شدّتها بدت لي خارجة عن أُطرها. “شو إسّا؟” قالت متردّدة، “شو بعرفني” قلتُ. ثم حلّ الصمت كستار منسدلا يشقّ الفضاء إلى ضفّتيْن: ضفة اللغة وضفة أخرى لا تعرف اللغة. لم نتفوّه بكلمة لمدّة ما، ثم رأيتها تسحب هاتفها وتكتب رسائلَ بإبهاميْن بدا لي أنّهما يتنافسان على مساحة الشاشة. كنت في هذه الاثناء أقلّب في رأسي ما كانت تقصده بـ “شو إسّا؟”. هل كانت تقصد تلك المشاريع الصيفيّة المُبدّدة؟ أم هذا ما أريد لها أن تقصده؟ أهي تطرح عليّ ذلك السؤال الذي يستدعي الحاجة لمحادثة مفصليّة؟ هل تقول “ماذا الآن؟” بالمستوى الأنطولوجيّ: “شو إسّا؟ وشو مع بعدين؟ وشو مع قبل؟ وشو مع الله؟”… ضجّ رأسي بالكلمات وكانت أطراف أحرفها حادّة كالسكّين، بحيث تسبّبت لي بالمزيد من الألم. قلت: “عم بفكر أروح أزور أهلي”. قالت: “كيف تَنُّه؟”… “شو بعرّفني”، قلتُ، ثم حلّ علينا الصمت مجدّدًا.
كانت الشمس لئيمة وشعرت بأنها تقلّبني على مشواة الجَحيم، فأزالت طبقة أوليّة من جلدي. أوقفتُ السيارة جانبًا وقبل أن تترجّل منها مُتّجهة نحو الشقة قالت: “طب، ابعتيلي بس توصلي”. هززتُ برأسي وراقبتها تخرج من السيارة وتسير نحو الدرج، بينما عاد إبهاماها إلى ذلك النزال وسط الحلبة الزجاجيّة. وعندما تأكّدت من أنّي خارج مجال رؤيتها اندفعتُ بالسيارة بسرعة تكاد تكون مفرطة وغير قانونيّة. من يهمّه “قانونية” بعد اليوم قلت لنفسي، فقد صادروا الرخصة، ثم عبرت رأسي فكرة أنّ أسوأ ما يمكنهم فعله الآن هو زجّي في زنزانة ذات حدود واضحة المعالم؛ أهذا ما أريد؟
قلّبت المحطات الإذاعية: إذاعة الشمس، إذاعة جَلْجَلاتس، إذاعة صوت إسرائيل، إذاعة صوت المدى، إذاعة سوا. أغلقتُ الراديو. حاولتُ تجاهل وإبعاد أصوات سخط أبي من تعاملي مع شؤون السيّارة، رخصة القيادة والتأمين والتِّست (في يركا) وفحص الماء والزيت (كلما سنحت الفرصة) والهاندبريك (الذي يجب رفعه حتى أقصاه دائمًا)…
مضيتُ بالسرعة ذاتها، قلّبت المحطات الإذاعية: إذاعة الشمس، إذاعة جَلْجَلاتس، إذاعة صوت إسرائيل، إذاعة صوت المدى، إذاعة سوا. أغلقتُ الراديو. حاولتُ تجاهل وإبعاد أصوات سخط أبي من تعاملي مع شؤون السيّارة، رخصة القيادة والتأمين والتِّست (في يركا) وفحص الماء والزيت (كلما سنحت الفرصة) والهاندبريك (الذي يجب رفعه حتى أقصاه دائمًا)… لكن لماذا أنشغِل بهذه الأمور الآن؟ ليست هي المسؤولة عن دبّ الرعب في نفسي.
الشمس جهنميّة ومكيّف السيارة لا يقوى على هذه الدرجات. تتميّع بشرتي وتتقطّر. كيف لا تنصهر الإطارات في حرٍّ كهذا؟ يذكّرني أبي باستمرار بأنّي كنت في صغري أطرح عليه سؤالَ الاطارات هذا في كلّ صيف، وكان يأتيني ردُّه جاهزًا، فيقول: “كيف تذوب؟ إحنا البشر منذوب ومنتحلّل قبل هالعجال”، ثم كان ينزل من السيارة بينما أراقبه يملأ إطارات سيارته بالهواء ((2.5 bar وعلى وجهه ابتسامة، أو ما اعتقدت أنّها ابتسامة، وفاتني بأن تكون تعابير وجه منزعجة من الشمس.
نظرت إلى ساعة الوقود وخلافًا للتوقعات كانت على ما يرام. وبينما كنت أحاول تعديل المكيّف، وصلتني رسالة: “شو، وصلتِ؟” قرأتها وألقيت بالهاتف على المقعد المجاور، كما أفعل بكلّ الأشياء التي تصعد معي إلى هذه المركبة. تراودني فجأة ذكرى قديمة: كُنّا في السيارة عائدين من المدرسة. كنتُ قد انتهيت للتوّ من التلذّذ بحبّة بوظة كبيرة، وعلى ما يبدو كانت جرعة السكر التي حقنت بها جسمي زائدة، لأنّي بحركة يد عشوائيّة ومبهرجة، رحتُ وألقيتُ عصا البوظة في السيارة، ظنّا منّي أنّ في الفعل شيئًا من الظرافة. وفي لحظة رأيت أبي يخفّف من سرعة السيارة حتى توقفت تمامًا عند جانب الطريق. بدا لي صراخه لحظتئذ كأنّه آتٍ من أعماق الدنيا. نهرني على فعلتي، ورويدًا رويدًا بدأ الصراخ يتشكّل في صيغة محاضرة قال فيها: “ديمة، السيارة زي البيت، ربّك، زي البيت ديمة! هيك بتعاملي بيتك إسّا؟ هيك بدّك تعاملي بيتك بالمستقبل؟… الإنسان بقضّي وقت بالسيارة هالأيام قد الوقت اللي بقضيه بالبيت، لازم تعتني بالسيارة زي كيف بتعتني بحالك وببيتك”.
أذكر حين وصلنا إلى البيت يومها: كانت أمي في البيت صدفةً، نظرت إليّ وسألتني عمّل حصل، فردّ أبي مُسرعًا بأنّه لقنني درسا هامًّا اليوم: “بتعامل السيارة زي المزبلة بنتك”. فقامت أمي بالتربيت على كتفي: “حبيبتي معليش، السيارة لأبوكي زي مَرَتُه.. يا ريت يعتني فيّي قد ما بعتني بالخرية تبعتُه”.
ضجرتُ من محاولات تعديل المكيّف، واستسلمتُ للحرّ. كيف سأتحمّل بقيّة الطريق؟ أخذت أزيد من سرعة السيّارة، ثم ألقيت نظرة خاطفة إلى هاتفي الملقى جانبا: “شو، وصلت؟”، إلى أين أنا ذاهبة أصلاً في ساعات الصباح هذه، رغم يقيني بخلوّ المنزل في هذا الوقت؟ أهذا ما أريد؟ أن يكون خاليًا؟ أبطأتُ سرعتي وتناولت الهاتف، نظرت فيه مجدّدًا، أرفع رأسي إلى الشارع تارة وأخفضه نحو الهاتف تارة أخرى، وأثناء رقصة الرأس هذه، ظهر أمامي مخلوق شريد، بدا لي من بعيد أنّه كلب، وعند اقترابي اعتقدتُ أنّه “واوي”، ثم رأيتُ فيه قطًّا. لماذا لا يحيد هذا المخلوق عن الشارع؟ كم هو شريد هذا الحيوان، قلت في قرارة نفسي ثم من حيث لا ادري بدأت تسيل دموعي. دموع وعرق وحرّ. بوظة، أريد البوظة. أوقفت السيارة عند جانب الطريق، كتبت رسالة: “لا خلص، بدّي ألفّ وأرجع”. استحضرتُ تلك المشاريع الصيفيّة التي اعتقدت أنها زالت إلى الأبد، فاستدرتُ بالمركبة عائدة إليها.