تلفزيون عم حسني/ محمد ربيع
عم حسني يلبس جلبابه على اللحم، بلا أية ملابس داخلية، نراه يقضي حاجته في مكانه المفضل، الحديقة الوسطى بجسر السويس، لا يخشى أعين المارة أو راكبي السيارات، لا يتخفى وراء شجرة، وإنما يفعل ذلك في المنتصف تماماً، حيث لا ساتر لجسده وأعضائه
تلفزيون عم حسني/ محمد ربيع
|محمد ربيع|
في المستطيل المحدد بشوارع: جسر السويس، أبوبكر الصديق، القبة، وخط المترو، يتجول عم حسني حراً منذ أن عرفتُ الشوارع.
اليوم، يدور عم حسني في حلقته الخامسة أوالسادسة، هزل جسده كثيراً، وأصبح أكثر هدوءاً من ذي قبل، لم نعد نراه يصرخ في نوبات هلع مرعبة للجميع: العابرين للحي، أو المارين عليه بصفة يومية، أو حتى سكان الحي الذين اعتادوه منذ سنين طويلة.
أول معرفتي بعم حسني كانت عن طريق أخيه، الذي لا أعلم اسمه، وربما لا يعلمه أحد من سكان الحي، فقط نقول: أخو عم حسني. في يوم أحد، أتانا صراخٌ وعويلٌ من الشارع، ولما تطلعنا من النوافذ، وجدنا أخا عم حسني جالساً في الحديقة الوسطية بجسر السويس، يصرخ بلوعة، صراخ فقد عزيز، أو ضياع طفل. لمدة ثلاث ساعات ظلّ يصرخ، ولمّا هدأ، وجدنا عم حسني شخصياً يظهر ويجلس بجانبه على النجيلة، ليبدآ معاً نوبةً جديدةً من الصراخ. كانت هذه المرة الأولى التي أرى فيها عم حسني وأخاه، والمرة الأخيرة التي رأيتهما معاً؛ حدث هذا منذ خمسة عشر عاماً.
بدا الأخ أكبر في العمر، أهدأ بكثير، وإن اشتركا في ارتداء جلبابين متشابهين تماماً، مخططين بخطوط طويلة، بيضاء وزرقاء، جلباب بيتي يوحي للمشاهد بأنّ لابسه رجل هادئ يهوى الراحة في البيت. علمنا أنّ الأخوين يسكنان بيتاً قديماً في أحد الشوارع الواصلة بين طومانباي وسليم الأول، يساعدهما الجيران في المأكل والملبس والغسيل والعلاج، والكثير من المارة والسكان يعلمون مدى احتياج الأخوين، فيمدانهما بالطعام والمال من حين لآخر.
لم أرَ أخا عم حسني إلا قليلاً خلال السنوات الماضية، لكن عم حسني كان متواجداً دائماً، يمشي ناظراً إلى الأمام في اندهاش وذهول. منذ عدة سنوات، لاحظتُ أنّ بؤبؤ عينه تحوّل للبياض، تلاه في ذلك رجل الزبالة، وسبقه مارلين مانسون. استقرّ في ذهني أنّ بياض العين علامة على غرابة الاطوار.
عم حسني يلبس جلبابه على اللحم، بلا أية ملابس داخلية، نراه يقضي حاجته في مكانه المفضل، الحديقة الوسطى بجسر السويس، لا يخشى أعين المارة أو راكبي السيارات، لا يتخفى وراء شجرة، وإنما يفعل ذلك في المنتصف تماماً، حيث لا ساتر لجسده وأعضائه.
قبل ذلك بعدة سنوات، أيام هياج عم حسني المرجف للقلوب، كنا قد علمنا سره، وحتى الآن لا أعرف كيف وصل السّرّ إلينا، أو كيف تعرّف واحد على السرّ أول مرة. كنا لما نشاهد عم حسني قادماً في الطريق، نهتف بكل قوة “تلفزيون يا عم حسني” لتبدأ أكثر ثورات عم حسني عنفاً وغلظة. صراخه في ذلك الوقت كان محيراً لنا، رعب ظريف، يضحك البعض بسببه، ويتسمّر الآخرون خوفاً أو خجلاً. يرفع أثناء الصراخ جلبابه حتى رقبته، ليظهر جسده الضخم المُكتنز حينها، ثم يمسك بعضوه يهزّه هزاً عنيفاً، كأنه يريد أن يقطعه، ثم يأخذ بضرب صدغه بقبضة يده، يعود بعدها ليمسك بحلمة ثديه ويقرصها، ثم يخرج لسانه، ويلعق سبابته، يحملها الكثير من اللعاب، ليضعه على حلمة ثديه. يمسك بعد ذلك ثديه ويوجّه الحلمة نحونا، كل هذا يرافقه صراخ وشخر ولسان متكهرب يلعب خارج وداخل الفم، وعينان تدوران بهستيرية تنظران في كلّ الجهات. ثم يعيد العملية كلها من جديد.
تكرّرت هذه العملية أمامنا كثيراً، مع اختلاف الترتيب والسرعة ودرجة التعقيد، لكنها رسخت في أذهاننا وكأنها ممارسة عادية تماماً يقوم بها “واحد مجنون”، ومن خلال بقائنا المستمر لساعات طويلة في الشارع، كنا نلاحق عم حسني، مكتفين بالهتاف “تلفزيون…” متعففين عن غواية رجمه بالحجارة، أو شدّ طرف جلبابه، أو أيّ تحرش فعلي خارج عن نطاق الهتاف الشهير، حتى إننا لم نكن نحرك ساكناً حينما يواجهنا عم حسني صارخاً “يا ولاد الوسخة”؛ كنا نصمت صمت العاقلين، الصمت الذي يؤكد رجاحة عقلنا وجنون عم حسني.
كنا قد اتفقنا على اصطياد عم حسني أثناء سيره في شارع الكريم، متجهاً نحو طومانباي، ضاع وقت كثير حتى استطعنا اصطياده فعلاً أثناء سيره. كنا نسير بمحاذاته على الرصيف المواجه، منتظرين إقبال سيارة علينا، لنصرخ “تلفزيون…” فيرفع حسني جلبابه مظهراً عضوه أمام السيارة وراكبيها. بذلك نضرب عصفورين بحجر واحد: نثير حسني، ونصدم راكب السيارة. في ذلك اليوم، توقفت السيارة الثالثة، لينزل قائدها ويضرب عم حسني بشدة، لكمات تلو لكمات، لم تكن هناك ركلات أو صراخ أو شتائم، فقط لكمات موجّهة نحو الوجه. في النهاية سقط عم حسني على الأرض، وعاد الرجل بوجه بالغ الهدوء، ليجلس بجانب السّيدة المحجبة في السيارة وينطلق في شارع الكريم. كانت هذه حادثة مرهقة لنا جميعا.
من خلال دلائل أخرى غير ردّ الفعل التلفزيوني، كأن يصرخ عم حسني في وجه كل امرأة بالغة يراها “يا قحبة، يا وسخة” أو في وجه كل رجل بالغ يراه “يا حاج”، ومن خلال غزارة صوتيات عم حسني من صراخ وشخر وحشرجة وهتاف، وقلة كلماته اللاتي لم تتعدَّ الكلمات الثلاث “قحبة، وسخة، حاج”، بدأ بعضنا يدرك ومع تقدمنا في السن، أنّ عم حسني مريض، والأكثر إثارة، أنّ هناك أبعاداً جنسية لمرض عم حسني.
مرض؟ نعم، أدركنا أخيراً أنّ عم حسني مريض، وأنه ليس “مجنوناً” كما كنا نظن، وأن علاجه ممكن وسهل، وأن الكثيرين مصابون بأمراض عقلية أو نفسية شبيهة ويعيشون حياة أقلّ إرهاقاً من حياة عم حسني. أدركنا ذلك عن طريق القراءة، عن طريق الأصدقاء دارسي الطبّ أو علم النفس، عن طريق بعض ممّن يعرفون حالات مشابهة لحالة عم حسني. لم ندرك ذلك عن طريق الأهل، لم يمنعنا أحد منهم من التحرش بعم حسني، أو يوضح لنا أنه مريض، كالمريض بالإنفلونزا أو السّكر أوالضغط؛ كانوا يغضّون الطرف عما نفعله، ثم يؤدون الزكاة والصدقات لعم حسني.
أصبح عم حسني ضعيفاً جداً هذه الأيام، تهدلت كتفاه، وازداد تيهه في الملكوت الواسع. لمحناه يعبر الشارع غير مدرك لمرور سيارة، وهو ما لم يفعله من قبل قط. رأيته جالساً على كرسيّ القهوة يدخن الشيشة، وهو عمل يدلّ على تعقل ورقيّ وحضارة، رأيته يقف -فقط يقف صامتاً- أمام أحد المطاعم، ليخرج عامل من المطعم بطبق يحوي طعاماً كثيراً ويسلمه إياه. رأيته يقذف بكلمتي “قحبة، وسخة” في وجه كلّ امرأة يقابلها في طريقه، ورأيت الوجوه ترتجف عند سماع الكلمتين، لكن الاجساد كانت تمضي في الطريق غير عابئة.
لكن أحداً منا لم يتحرك لعلاج عم حسني، أو لإيداعه المستشفى. كنت سابقاً ألوم “الكبار” الذين لم يتحملوا مسؤولية عم حسني وتركوه لنا لقمة سائغة، ثم لُمت نفسي لأني لم أفعل شيئاً من ذلك حيال عم حسني لما أصبحت مسؤولاً عن عائلة. لكني تعايشت مع الوضع الآن، وكففت عن لوم نفسي، وتقبلت الوضع كما تقبله “الكبار” منذ خمسة عشر عاماً، بل أصبحت أنتظر اليوم الذي سيظهر فيه الجيل الجديد الصاعد هاتفاً: تلفزيون يا عم حسني.