بيت بمنازل كثيرة/ مازن معروف
تجلس الفتاة في قمرتها في واشنطن او نيويورك او حتى قريبا من مدينة ملاهٍ. مجهزة بمقبض، تحرك بواسطته طائرة بلا طيار. من مسافة آلاف الكيلومترات. يتحول الهدف افتراضاً. لا دلالة على إتمامه إلا ما تبعثه لك الاقمار الصناعية. قتل على طريقة الـ”بلاي ستايشن”
بيت بمنازل كثيرة/ مازن معروف
..
|مازن معروف|
العودة إلى دوستويفسكي، أو “تلك العتمة الباهرة” للطاهر بن جلون. 40 في المئة من الناس اختاروا ألا يقرأوا كتبا على الإطلاق طوال حياتهم. كل كلمة تشبه ذئبا يعوي في اتجاه ما. كل عتمة تشبه قياسا ما. قياسا لنقاوة الدم، نشاط خلايا الدماغ، قدرة الكائن على سلخ فكرة الموت كأنها فروة تحتية بين جلدة الرأس والجمجمة. في الشهر الماضي، تلقى كاتب فلسطيني في غزة استدعاء من سلطات “حماس”. قيل له إنه سيُسأل عن بعض الامور. لم يعتقلوه عنوة. ادخروا حصته من المذلة لتبديدها عليه في غرفة التحقيق. عُصبت عيناه في الصباح التالي بعيد وصوله إلى مركز الشرطة. ثم ألفى نفسه واقفاً بعد وقت ما الى جوار شخص لا يعرفه. سنسمّي الشخص برهان. ضُرِبَ برهان على جسده، ثم أُمِر الكاتب بالضحك عليه. رفض. ضُرِب بدوره، وعُذِّبَ في غرفة الحمام قريبا من الكرسي، الكرسي المستخدم لإفراغ الأمعاء من زوائد الطعام. بروتينات مسحوقة، وجزيئات نشويات عملت عليها العصارات لتحطيمها، ثم سلكت في الأنابيب المعوية طالبةً الخروج. لا نعرف المدة التي استغرقها آخر من جلس على الكرسي لتخفيف وزنه من المواد الفاسدة، وهذا في كل حال مهم. بعدها وقّع الكاتب ورقة، وخرج. لكن، كان عليه القدوم مجددا في الصباح التالي. قيل، لإنهاء الإجراءات. لم يتغير شيء. عولج الكاتب بحصّة تعذيب أخرى. ثم أطلق سراحه. في اوائل التسعينات من القرن المنصرم، صُدِم العالم لوجود معتقل تحت الارض، في حفرة، بعيدا من النور، معتقل في الظلام إسمه تزمامارت. في أحد بلدان المغرب العربي. أُزيل في ما بعد، ووضعت مكانه شجرة سنديان كبيرة، أعني وضعت بالقوة. أحد الناجين روى قصة صموده في تلك الحفرة لمدة عشرين عاما. بلا ضوء. بلا جسد. كان عليه إبقاء دماغه حيا. دماغه فقط. حياً، يعني نظيفا، فارغا. خالياً من نشارة الذكريات.
في اوائل التسعينات من القرن المنصرم، صُدِم العالم لوجود معتقل تحت الارض، في حفرة، بعيدا من النور، معتقل في الظلام إسمه تزمامارت
كتب الطاهر بن جلون قصته في “تلك العتمة الباهرة”. رسالة أحد المعتقلين الى زوجته أودت بالمكان، وبالعتمة أيضا. أي أن حفنة من الكلمات فعلت ذلك. كانت هي الأمل. والأمل هنا كلمة طرية، فاقدة العظام، هلامية، كحيوان بحري بدون عمود فقري. كلمة ضعيفة جدا وليست في الضرورة تحصيلاً حاصلاً. كلمة لا محل لها في الفوضى الانسانية. عندما كان أستاذ اللغة يصر على إقناعنا بقوة الكلمة وسلطتها، كنا نضحك سرا. نسخر منه. ففي بلادنا، ليس للكلمة أي مغزى. إنها عبء. أمرٌ علينا توارثه مرغمين. لم يقل الاستاذ إن الكلمة وحدها لا تكفي، يلزمها تخصيب. تماما كالأورانيوم، أو كالرحم. نحن مغمّسون بالأحماض الأمينية الحارقة. من بين ملايين الحيوانات المنوية، واحد فقط ينجح في الوصول إلى البويضة. الرحلة شاقة، يموت الباقي خلال سباحته داخل الرحم. يحترق. أحماض يفرزها الجدار الأنثوي بغية الحماية، أو ربما لأنه ضجر. تموت كلمات عديدة نكتبها. تموت من تلقاء نفسها. الضجر مرة أخرى. تموت لأنها لا تخصّب إما لِعِلّةٍ فيها وإما لعلّة في قارئها. “ويكيليكس”، الموقع الإخباري المتخصص في نشر الوثائق السرية، أخضع البنتاغون له. واشنطن لا تدري كيفية التملص من هذا المأزق. نشر الموقع الالكتروني سبعا وسبعين ألف وثيقة سرية عن الحرب في أفغانستان. فضيحة تزمامارت. تماما كفضيحة القتل من غرفة مكيفة بالريموت كونترول. تجلس الفتاة في قمرتها في واشنطن او نيويورك او حتى قريبا من مدينة ملاهٍ. مجهزة بمقبض، تحرك بواسطته طائرة بلا طيار. من مسافة آلاف الكيلومترات. يتحول الهدف افتراضاً. لا دلالة على إتمامه إلا ما تبعثه لك الاقمار الصناعية. قتل على طريقة الـ”بلاي ستايشن”. يعلن لاحقا سقوط مدنيين بغارة من طريق الخطأ. تخسر الفتاة. عندما يحذف أحدهم مقطعا من كلماتك، فأنت تخسر أيضا. لا. هو من يخسر. أو هي. لا فرق. أنت تفتقد فقط. تفتقد الرغبة في الكتابة مجددا. لأنه عالم من التسويات. الطريف أنك عندما تشتري لوالدتك نصف كيلو من الطماطم الحمراء والصلبة، فإن البائع لا ينظر في وجهك. لا يهمّه من تكون. معدة. مجرد معدة. وستُفرغ تماما بالطريقة نفسها كما آخر رجل دخل حمّام التعذيب في غزة. على الكرسي. جلوساً.
العودة إلى دوستويفسكي، لفهم الشخوص، الكآبة، الجريمة، الفرح، الغضب. لتبرير كل شيء. حتى أن “شْرِكْ” الغول صار محببا. جميلة هوليوود أحيانا. ذكية دائما. صفحاتنا التي نكتب فوقها، مثقوبة. تنزّ منها الكلمات. لذلك لا يبقى أثر لما نكتبه. وهذا يبطئ من تزايد وزن العالم. يبقى أن الكتابة في بلادنا، تمرّن على توقّع رائحة ما بعد إحراق جثة. وهذا سيتكرر في انتظار فيضان شبيه بما يحدث في باكستان، أو غضب تربة – كما في الصين – وسحل نفسها على مئات الناس النائمين مثلنا. لا فرق، طالما أننا سنستيقظ في الوحل.
(عن “النهار”)