عن فيلم “بر بحر” وقانون النفي!/ مرزوق الحلبي
يحقّ لحَمّود كمُبدعة في السينما أن تختار “روايتها” و”أبطالها” لإيصال رسالتها أو فكرتها. وأستهجن وأستسخف تلك التساؤلات غير البريئة عن إصرار المُخرجة على اختيار هؤلاء الأبطال والبطلات تحديدًا! ببساطة: هذا حقها الفني وهذا حق كل مُبدع في كل مجال أن يختار أبطاله وتقنياته وطُرُق تعبيره عن “روايته”
.
|مرزوق الحلبي|
من “أسرار” مشاهد فيلم “برّ بحر” (إخراج: ميسلون حمّود) أنّها مشغولة ببساطة، بلغة اليوميّ وغير متفلسفة. ومنها أنّ كلّ الأدوار تقريبًا مسنودة لأناس نعرفهم شخصيًّا، الأمر الذي أعطى شعورًا بأنّنا حيال فيلم تسجيليّ. ومنها أنّ النماذج التي يعرض الفيلم إليها هي نماذج حقيقيّة نصادفها أو نعرفها في حياتنا الواقعيّة. كأنّ الفيلم في مجمله يسرد قصصًا لا تُحصى في كلّ قرية صغيرة أو كبيرة من أماكننا، لتشكّل في نهاية المَطاف قصّة جماعيّة حقيقيّة. وتتعزّز هذه “الحقيقة” مع تعمّد المخرجة الإشارة في إطار الحوارات والمشاهد إلى منابع الشخصيّات، من حيفا وترشيحا وأم الفحم والطيبة ويافا.
جدير بنا التوقف عند مكوّن المكان في الفيلم لأنه أثار قدرًا كبيرًا من السجالات حول الفيلم. الأماكن عينيّة في الفيلم فقط، يُقصد بها كل مكان عربي هنا، في الجليل والمثلث والنقب. بل هي المكان العربي الذي خرجت منه الشخصيّات إلى المكان العبريّ- إذا صحّ التعبير. بمعنى: الأماكن المذكورة، وإن وُجدت في الواقع الفعلي، تشكل استعارة للتدليل على المكان العربيّ عمومًا، لا للتحدّث عن أم الفحم تحديدًا. وشخصيّة الشاب أو الشابة من أم الفحم هي شخصيّة الشاب العربيّ والشابّة العربيّة في كلِّ الأماكن في البلاد. ومن هنا أرى باستغراب واستنكار الإصرار على رؤية الفيلم يتحدّث عن أم الفحم، أو كأنه يستهدف الإساءة إليها أو إلى المثلّث وأهله- كما ادّعى البعض.
في تصويب البعض للفيلم نحو أم الفحم -وهو ما لم تقصده مخرجة الفيلم ولا هذا ما يظهر من مشاهده- نوع من الضّحويّة المدّعاة لدى البعض الذي يلعب في إطارها دور “المظلوم” الذي يستحقّ كل اهتمام وتضامن- دور نحبّه نحن العرب الفلسطينيين مقابل العالم والحياة عمومًا. الضَّحوية مُريحة وجوديًّا! هذا في مستوى من اللغط حول الفيلم ومحاولات منع عرضه، أمّا في المستوى الآخر، أتبيّن نوعًا من الرياء والزيف اللذيْن كان الفيلم نبشهما في وجوهنا، وتوكيدا لوجودهما في المكان العربي بما يعنيه من راهنية ثقافية وأنماط وأحكام ونماذج للشخصية العربيّة.
شابتان كان يعتبرهما المغتصب شاذتين عاهرتين تتضحان في الفيلم كملاكين ناصعي القلب والرحمة بالفطرة، مقابل الشرّ الذي يجسده هو في ممارسته اليومية
فأمّ الفحم كغيرها من أماكننا تسرح وتمرح فيها كلّ النماذج التي عرض لها الفيلم. حتى لو كانت الشخصيات في الفيلم تنميطيّة مرسومة بناءً على فكرة نمطية مسبقة، إلا أنّها شخصيات -كلّها من دون استثناء- موجودة في الحقيقة في كل موقع عربي. لكن، صحيح، أيضًا أنّ مجتمعنا مليء بشخصيات أخرى مغايرة تمامًا. وهذه حقيقة لا تستطيع لا مخرجة الفيلم -ولا الفيلم نفسه- أن تكذّبها، ولم تدَّعِ ذلك. ومع هذا يحقّ لها كمُبدعة في فنّ السينما أن تختار “روايتها” و”أبطالها” لإيصال رسالتها أو فكرتها. ومن هنا أستهجن وأستسخف تلك التساؤلات غير البريئة عن إصرار المُخرجة على اختيار هؤلاء الأبطال والبطلات تحديدًا! ببساطة: هذا حقها الفني وهذا حق كل مُبدع في كل مجال أن يختار أبطاله وتقنياته وطُرُق تعبيره عن “روايته”. وإلّا، فكيف يُمكننا فهم حرية الإبداع (وليس في السينما وحدها) خارج هذا الحق؟
وما دمنا في شخصيات الفيلم نُشير إلى نوعية هذه الشخصيات كمكوّن يُهدّد المُشاهِد المُحافظ أو حتى المتوسّط. إنها شخصيات غيريّة لكنها قوية بشكل واضح. وهو ما يُمكن أن يضاعف شحنة التهديد. وهي إن مضت بعيدًا في تحقيق ذاتها -في حيز الثقافة الأخرى وجغرافيتها ومداها- وممارسة حرياتها وخياراتها، إلّا أنّها لم تتجرّد من إنسانيّتها وتضامنها الفطريّ ولا من قيمها وحقيقتها كما يظنّ الرائي إليها من المكان العربيّ والثقافة العربيّة. يكفي أن نضع مشهد الدفء الذي حصلت عليه الشابة التي اغتصبها خطيبها من زميلتيها في الشقّة، مقابل مشهد الاغتصاب ذاته لنعرف كيف يُمكن للواقع أن يكون مقلوبًا عن صورته في الأذهان. شابتان كان يعتبرهما شاذتين عاهرتين تتضحان في الفيلم كملاكين ناصعي القلب والرحمة بالفطرة، مقابل الشرّ الذي يجسده هو في ممارسته اليومية. الشاب هنا تمثيل لمجتمع بأسره يحسب في العادة أنه الأطهر والأنقى وأن مَن يتركه إلى المدينة إنما يُمارس الرذيلة!
تُمثّل غالبية بطلات وأبطال الفيلم جيلا شابا شبّ على الطوق بالمعنى الجغرافيّ والثقافيّ والسلوكيّ. تأخذ المخرجة شخصياتها إلى ناحية متطرّفة كجزء من التوتير بينهم أو بينهم وبين المكان/ المجتمع/ الثقافة التي أتوا منها. وهو أسلوب سينمائيّ ناجح يؤجّج الحبكة ويخلق علاقة ترقّب شديد وعصبية مع المتلقي. وأعتقد أنّ المخرجة نجحت في هذه التقنيّة في الفيلم وفي الحقيقة. فأن تجد ممثلات وممثلين عربًا لكلّ الشخصيات يؤدّون مشاهد الفيلم كلها بهذه القوة -وإن بتفاوت- فهو بحدّ ذاته علامة على حصول تحوّل حقيقيّ لدى بعض قطاعات المجتمع. وهذا التحول في صلب فكرة الفيلم وفي التوتّر بينه -ككيان مرئيّ دلاليّ مستقلّ- وبين القطاعات المحافظة أو المتديّنة في المجتمع على طوائفه وأشكال تديّنها. ولأنه يشتغل بمواضع الكسر -الغيريّة الجنسية والحريات الشخصية في مُطلقها- بوضوح ومن دون مواربة، فإنّه يهزّ “الهوية” و”الانتماء” وصورة المجتمع عن ذاته منسوخة في ذوات الأفراد!
صحيح أنّ الفيلم يعرض لحياة العربيّ/ة في المدينة اليهودية، لكن هذه الحياة على حُرّياتها القُصوى هناك تشير إلى حياته في قريته
صحيح أنّ الفيلم يعرض لحياة العربيّ/ة في المدينة اليهودية، لكن هذه الحياة على حُرّياتها القُصوى هناك تشير إلى حياته في قريته. ولعلّ التوتّر بين الحياتيْن على ما تشكلّانه من عالمين متباعدين متصارعين هو، أيضا، من عوامل القوة في مشاهده. وهي مشاهد تعكس ما تقوله “حياة العربيّ” في مدينة الآخر عن “حياته” في “مدينته” أو قريته هو. وهي مقولة فاضحة في مستويات ثلاثة على الأقل: في مستوى الإشارة إلى المدى الكبير من الزيف والرياء في المكان الأصلي من معاملات ومجاملات تُخفي الحقائق تحتها؛ في مستوى إلغاء الأفراد و”قتلهم” تمامًا خاصة في حالة الغيريّة في الهوية الجنسية أو نمط العيش والخيارات؛ وفي مستوى أفضليّة مدينة الآخر على مسقط الرأس فيما يتّصل بالحريّات الشخصية وتحقيق الذات. وهذه حقيقة واقعة لجيل لا يستطيع أن يعيش حريته كاملة ولا هويته الجنسية ولا جنسانيته إلا في المدينة اليهوديّة. بل أكثر من هذا: صارت المدينة اليهوديّة الأفقَ الذي يحقّق فيه الفرد العربيّ هنا ذاته الشخصيّة والمهنيّة والإبداعيّة!
ولعلّ عامل الفضح والكشف ونشر الغسيل في الهواء الطلق أمام أعين المارّة، خاصّة من الثقافة الأخرى التي نرتبط بها بعلاقة صراع وجود وثقافة، يُمكن أن يكون لوحده، تحديدًا، عاملا شديد الفاعلية في الخروج ضدّ الفيلم ورسالته. وهي رسالة واضحة تؤكّد أننا مجتمع ليس مُعافى كما نعتقد!
عندما يبدأ مجتمع ما بملاحقة مُبدعيه ومحاسبتهم على النقطة والفاصلة وإخضاع كلّ أعمالهم للحُكم الإلهي وفهم إبداعاتهم حرفيًّا لا إيحائيًّا ولا دلاليًّا يعني أننا أسّسنا لنظام محاكم تفتيش وصادرنا الكثير من الحريات. إنّ قانون النفي الكامن هنا في نصّ الفيلم وبطلاته وأبطاله ومشاهده وفي رسالته النقديّة التي لا ترحم، هو هو الذي يحفظ الوجود معقولًا والأفق مفتوحًا، لا الجمود والانغلاق والإسكات كما هو حاصل حيال الفيلم أو مظاهر النفي الأخرى. ومن عادة قانون النفي إذا حضر أن يُغضب الذين يسعون إلى إيقاف الحياة عند معتقدهم.
16 يناير 2017
للأسف مجتمعنا العربي في الداخل تعود عدم عرض مشاكل وواقع مجتمعنا علنا . بداية جيدة جدا وارجوا أن لا تكون النهاية…