المسرح والإعاقة/ نبال الهواري
رغم وجود الكثير من شخصيات البكماء لما لهم من أدوار كبيرة في تجسيد الأفعال النبيلة والمواقف البطولية، إلا أنه لم يفلت من قبضة بعض المستهترين بقيم المسرح وإجمالا الكثير ممن عملوا في مسرحيات الشباك الرخيصة كانوا ينالون من المعاق والإعاقة بطريقة سيئة
المسرح والإعاقة/ نبال الهواري
|نبال الهواري|
حفظ لنا تاريخ المسرح الكثير من الشواهد الدرامية وشخصيات، وضّحت تلازم الدراما بالإعاقة، باعتبار أنّ الإعاقة فعل دراميّ قوي، فيه الكثير من التفاصيل التي تؤجّج العاطفة، وهي من الطاقات الفعّالة التي يعتمدها المسرح. فنادرًا ما تجد مسرحية تخلو من شخصية معاقٍ ذهنيٍّ أو كفيفٍ أو أبكمَ أو أصمَّ، أو إعاقة جسدية أثرت على فعله العقلي. ولا نريد أن نسرد أنواع الإعاقات بقدر ما نرغب في تسليط الضوء على بعض النماذج الإنسانية التي حفلت بها النصوص المسرحية واكتظّت بها خشبات المسارح.
يأتي استغلال هذه الشخصيات من مؤلف المسرحية نتاجَ وعيه؛ فمنهم من ناقش المُعاق بعقل مفتوح والآخر فتح باب العاطفة للمعالجة الدرامية فسقط بالميلودرامية التي لا تترك تأثيرًا بمصافّ التحوّل في التلقي عند المشاهد. وهناك بعض المؤلفين من استغلّ شخصيات معاقة من أجل استجداء الكوميديا والضحك غير المبرّر. وهذا الأمر يتطلب منا التقرب من تقديم نماذج حاولت أن تؤسّس لظاهرة فيها الكثير من التناقض في تناول موضوع الإعاقة على المسرح.
الكتابات الأولى في فنّ المسرحية، ونخصّ بالذكر منها المسرحية الأكثر جلالاً وعرضاً على خشبات المسرح العالمي وهي مسرحية “أوديب”، الشخصية الأسطورية الملحمية التي كتبها أولاً سوفوكلس، وضعت الحكمة على لسان الحكيم الكفيف “ترزياس”، الذي كان يتمتع بحكمة ونبوءة. وحينما أخبر ملك طيبة بأنه سيخلف طفلا يجلب الدمار للمدينة، وحدث ما حدث من قتل أبيه الملك والزواج من أمه، وحين التقاه وهو ملك، أخبره بأنه هو الرّجس الذي دنس المدينة. وذُهل أوديب من تصريح “ترزياس” وعاب عليه ما آلَ إليه من العمى، فكانت الإجابة أنّ الحكمة في البصيرة لا في البصر. وهذا تفسير مبدئيّ وعلوَّ كعب للإعاقة باعتبارها دافعًا للحكمة والفلسفة والإبداع. ولا نريد أن نحصي عدد الأعمال التي كتبت وتصدّت للإعاقات بمختلف أشكالها، ولكن يحفظ لنا تاريخ المسرح مسرحية الكاتب البلجيكي موريس ماترلنك مسرحية “العميان”، التي ناقش فيها أنّ هذه الفئة هم مجتمع متقارب من المجتمع الاعتيادي في كلّ التفاصيل وليس ثمة فاصل بينهما. وكذا الأمر في مسرحية “القيثارة الحديدية” لأويكينزي الأيرلندي.
إنّ الاستخدام الأمثل لفكرة توظيف الإعاقة في الدراما يترك أثرًا واضحًا لدى المتلقي، ويستمر المسرح في استلهام شخصيات مع إعاقات جسدية وذهنية وغيرها. وقد أثريت المكتبة المسرحية بتلك النصوص سواء عالميًا أم عربيًا. إلا أنّ الذي يؤخذ على الكثير من الكتاب هو توظيف هذه الشخصيات بطريقة تثير السّخرية، ممّا أكد مبدأ أنّ المسرح يجنح نحو الإسفاف باستخدام الأصمّ مثلا في اللعب على المفردات اللغوية والسّخرية من شخصيته، وبأعمار مختلفة، أو تلك الطريقة التي يُستغل فيها المعاق ذهنياً للسخرية وتلفيق المقالب عليه. ورغم وجود الكثير من شخصيات البكماء لما لهم من أدوار كبيرة في تجسيد الأفعال النبيلة والمواقف البطولية، إلا أنه لم يفلت من قبضة بعض المستهترين بقيم المسرح وإجمالا الكثير ممن عملوا في مسرحيات الشباك الرخيصة كانوا ينالون من المعاق والإعاقة بطريقة سيئة.
وحتماً يأتي الردّ من بعض التجارب التي تنتصر لقضية المعاقين باعتبارهم قوة حقيقية قادرة على اللحاق بالفعل اليومي والتطوّر الكبير في العالم. لذا فإنّ التجارب المسرحية التي كانت تقدم لم تتفق على صورة واحدة لحسم الموقف الملتبس بين المسرحيات الجادة في معالجة المعاقين وبين المسرحيات التي تلهث وراء خراب الذائقة وتسيء لها. ولأننا نؤمن بالمبدع من الأفعال عند المعاقين فإنّ للمسرح دورًا واسعًا في أخذ زمام المبادرة، إلى جانب الردّ من المؤسسات التي تُعنى بالمعاق ومتطلباته.
ولأنّ المسرح يستهدف بالدرجة الأساس الجمهور فإنّ مسرح ذوي الاحتياجات الخاصة -هكذا نسمّيه- ينقسم بحسب التوجّه؛ فأمام فئة المعاقين تكون العروض مجالا خصباً لتقوية الجانب المعنويّ؛ فهو بالإضافة لكونه جانبًا مهاريًا تعليميًا تثقيفيًا ترفيهيًا فإنه يوجّه هذه الفئة باتجاه الصواب من أنّ المسرح يدعم الجانب النفسي للمعاق. وحتى وإن أقتصر العمل المسرحي مع المعاقين على الجانب الترفيهي فإنه يؤدي الغرض بتقريب المعاق من واقعه ويزرع الثقة في نفسه. ففقد الحواس يتم تعويضه بتنشيط الجانب الحسّيّ من خلال الاعتماد على منهجية خاصة تنقل العمل المسرحي من الجانب الترفيهي إلى الجانب العملي العلمي، بينما إذا كان الجمهور المستهدف جمهورًا عامًا فيكون دور المسرح تثقيفياً، لأنّ المسرح الذي ننشده للمعاقين يذهب باتجاه الفعل النفسي وليس كما في الفعل المسرحي للطفل السويّ، مثلا، والذي يعتني بالجانب التعليمي المعرفي.
ومع علمنا بأنّ المسرح قادر على إحداث تغير في مجالات التربية والتعليم لذوي الاحتياجات الخاصة، فهو يثقف بحقوق المعاقين ويحفز القدرات التخيلية وتدريب القدرات الجسدية. لذا ففكرة نقل المسرح بتجربته الثرية الإنسانية من إرث حضاري بنته عقول طوّرت الجانب الإبداعي لفنّ ما زال حياً، إلى موقع متقدّم من فكرة إطلاق الجانب التفاعلي بين المعاق والمجتمع، أمر لا يقل إبداعًا عن كل الإرث الأدبي للمسرح.
8 فبراير 2014
أشكر الكاتبة نيبال على هذا المقال الذي ركز بالفعل على ظاهرة مهمة تخص المعاقين في الدراما والمسرح . مقال جيد والمضمون يستحق الانتباه .