بطولة بلا موت/ علاء حليحل
لقمتان من الجلوكوز لا تعنيان شيئًا إلّا أنّ البرغوثي إنسان طال جوعه. إذا كانت هاتان اللقمتان كفيلتيْن بدعمه لمواصلة الإضراب فليكن. أبطالنا بشر مثلنا ولا نريد لهم الموت أو العمى أو الإعاقة. تمامًا مثلنا. لكنّهما يضربون عن الطعام ونحن لا. لذلك يظلون استثنائيّين وجديرين بالحياة الحتميّة، لا الموت الحتميّ
>
|علاء حليحل|
في البداية تغضب على مروان البرغوثي لأنّه أكل أثناء إضراب الأسرى، المُرتبط باسمه؛ ثم تغضب لأنّه ضُبط وهو يأكل، لا لمجرد الأكل؛ ثم تغضب لأنّ الوزير جلعاد أردان ومصلحة السجون نصبا له كمينًا؛ ثم تغضب على الحالة الدفاعيّة التي دخل الفلسطينيّون فيها، ما بين مبرّر ومُكذّب؛ ثم تحاول أن تستوعب ما جرى: كسرٌ للرابط الحتميّ الراسخ عند الناس، وهو العلاقة الحتميّة بين البطولة وضرورة الموت.
البطل، ميثولوجيًّا وكشخصيّة دراميّة وتراجيديّة، هو الاستثنائيّ من البشر. لا يهمّ إذا كان سيحقق مُراده في النهاية، لكنّ البطل التراجيديّ سيموت في النهاية (أنتيجونا، ماكبث). استثنائيته في أّنه الوحيد من بين الآلاف وعشرات الآلاف مَن وقف ضدّ التيار، وحارب رُغم أنّ نهايته معروفة سلفًا. البطل نصف إله (أخيل، هرقل) ولذلك فهو ليس مثلَنا: لا يجوع ولا يضعف أمام لقمتيْن من الجلوكوز بعد أيّام طويلة من الجوع.
البطل يموت ويتعذّب لكنّ قضيّته تنتصر. وأعتقد أنّ البلبلة التي أثارها شريط البرغوثي وهو يسترق لقمًا في زنزانته العزليّة تنبع من هنا: إذا كان بطلًا حقًا فلماذا يسترق بعض اللقم كي يظلّ على قيد الحياة؟ هذا لأنّنا (كَبَشر) نعتقد أنّ البطولة في الموت فقط، في دفع الثمن الأكبر (الحياة نفسها) من أجل القضيّة. ولكن، هل يمكن تسجيل المواقف البطوليّة من دون موت حتميّ؟ وهل يحقّ للأبطال أن يراوغوا ويناوروا و”يضحكوا على ذقون القتلة”؟
الشجاعة صفة حتميّة ولازمة في كلّ نماذج البطولة التي سجّلتها الشعوب والأفراد. الشجاعة ترتبط بالتغلّب على الخوف والألم والخطر والتهديد، وأساسًا مواجهة الضبابيّة والمجهول. المجهول أكثر ما يخيفنا، والإضراب المفتوح عن الطعام يضعك في مواجهة أكبر المخاوف: هل ستصمد كليتاي؟ وكبدي؟ نظري سيبقى كما هو؟ وماذا مع الدوخان والغثيان والضعف والانكسار؟ هل جسدي بطل؟ هل هو قادر على كلّ هذا الحرمان؟ متى سأقع ضحية الهلوسات والأخيلة والغياب عن الوعي؟ هل سأحسّ بموتي عندما أموت؟ الشجاعة تكمن (عمومًا) في مواجهة النفس أولًا. الإضراب عن الطعام هو بطولة ذاتيّة، داخليّة، ينفذها الأسرى من أجل قضيّة عامّة. الإضراب عن الطعام عذابٌ فرديّ وخاصّ؛ لكلّ جسد ردّات فعله على الجوع ولكلّ نفْسٍ طاقاتها. إنها معركة فرديّة، خاصّة، رغم أنّها جماعيّة.تمامًا مثل الموت الجماعيّ الذي يظلّ موتًا فرديًّا ووحيدًا، مهما كان عدد الموتى بجانبك.
الموت كتارزيس يَجلي الأخطاء ويغفرها: ياسر عرفات مثلًا. من شخصيّة غير مرغوب فيها بعد “أوسلو” وانهيار مشروع التحرّر الوطنيّ، إلى بطل رمز بعد حصاره وحمله الرشاش على ضوء الشمعة. البطل لا يموت بسبب مرض عابر؛ البطل يُقتل. يُسمّ أو يُطعن أو يتلقى رصاصات الغدر (أبو جهاد، غسان كنفاني). الإضراب عن الطعام سير نحو البطولة، يجب أن يُغمّس بالموت البطيء. وإلّا فنحن في مشكلة. نحن الفلسطينيّين بالأساس.
البطولة رحلة من محولات التغلب على المعوّقات: البطل ينجح في تذليل العقبات والوصول إلى الحلم المشتهى: التحرّر أو الشهادة. لا مكان للبيْن بيْن. البطل السائر إلى حتفه ينام على تهاليل الوطن الباكية، ومن يُضبط في لحظة إنسانيّة يثير حنق القبيلة ويثير شماتة العدو. من يمسّ بكمال الأغنيات يمسّ بصورتنا عن أنفسنا كما نراها في أبطالنا.
لقمتان من الجلوكوز لا تعنيان شيئًا إلّا أنّ البرغوثي إنسان طال جوعه. إذا كانت هاتان اللقمتان كفيلتيْن بدعمه لمواصلة الإضراب فليكن.أسرانا بشر مثلنا ولا نريد لهم الموت أو العمى أو الإعاقة. تمامًا مثلنا. لكنّهما يضربون عن الطعام ونحن لا. لذلك يظلون استثنائيّين وجديرين بالحياة الحتميّة، لا الموت الحتميّ.