أنوات العساكر/ هشام نفاع
الآن ينكشف قادة هذا الجيش لمجتمعهم بصورة طبق الأصل عن قادة السياسة. مصالحهم النفعية الفردية وشهوة السيطرة وغرائز القوة تجعلهم يحيكون مؤامرات تحتاج الى خيال جامح جدًا يفوق قدرات السياسيين
أنوات العساكر/ هشام نفاع
…
|هشام نفاع|
وصل حديثي، الذي بدأ مع سائق التاكسي عن رفع أسعار استهلاك الكهرباء، الى ما يحدث في الجيش الاسرائيلي. قال: حتى الجيش.. أنظر كم من الأوغاد فيه، من كان يتخيّل؟! بعد دقائق انضمّت الينا سيدة وابنتها، وشاركت في نقاشنا، من خلال كيل أوصاف سلبية جدًا لرئيس الأركان القادم. كانت خلاصة النقاش أن هؤلاء الجنرالات لا يختلفون عن السياسيين.
قبل سنتين نُشرت نتائج “المؤشر عديد السنوات الثامن لعمل القطاع الجماهيري”، وهو بحث يتناول ثقة الجمهور بأجهزة السلطة في إسرائيل. وبرز فيه أن المؤسسة التي تحظى بأعلى درجات الثقة هي الجيش الإسرائيليّ. لم تقتصر تلك الثقة على الجيش كمؤسسة بل اشتملت أيضًا على الأفراد القياديين فيه، أي كبار ضباطه المعروفين للجمهور الواسع.
حاليًا، يجدر بمعدّي البحث المسارعة الى فحص الوضع في ضوء تفاقم القضية المعروفة بإسم “وثيقة غالانت” والتي صار بعض الاعلاميين الخبثاء يسمونها “وثيقة أشكنازي”.
ملخّص القضية هو الكشف عن وثيقة أعدّها مكتب إعلان وتسويق لصالح الجنرال يوآف غالانت تفصّل الاستراتيجية الإعلامية المطلوبة لإيصاله الى رئاسة أركان جيش الإحتلال التي يشغلها الآن الجنرال غابي أشكنازي من خلال تشويه صورة الأخير. الهدف غير المعلن: إبقاء أشكنازي في منصبه لسنة اخرى. مع تشعّب المسائل راحت الشبهات تتراكم. منها أن الوثيقة غير حقيقية بل زيّفها ضباط كبار بغية تشويه سمعة غالانت ومن خلفه وزير “الأمن” ايهود براك الذي تربطه عداوة لدودة بأشكنازي. كذلك، ثارت شبهة جديدة في أن أشكنازي يعرف بهذه الوثيقة بل يحمل نسخة عنها منذ أشهر لكنه شارك في التكتّم عليها. في النهاية جرى حل القضية من خلال تبرئة كبار الضباط (بعد تحقيق سريع) والعثور على ضابط سيتم تحميله المسؤولية. وعلى الفور اعلن براك عن تعيين غالانت رئيسًا لأركان الجيش.
صحيفة “هآرتس” اعتبرت القضية فضيحة من الدرجة الأولى وقالت، على لسان احد كبار معلقيها، إنها بمثابة تمرّد داخل الجيش يقوم على عمليات تزييف واختلاق وتصفية.
يجب القول إن الصورة البشعة لهذا الجيش لا تتكشف من خلال هذه الفضيحة التي يتعاطى الرأي العام الإسرائيلي معها باهتمام في أعلى أولوياته. فالصورة البشعة لهذا الجيش والسياسة التي تحرّكه تتبيّن كل يوم عبر ممارسات الاحتلال والحرب والقمع لشعب بأكمله.
وفقًا لتقديرات عدة، ما حدث في قضية غالانت-أشكنازي أكبر من مجرّد فضيحة أخرى، بل إنها قضيّة شائكة
لكن السؤال من جهة المجتمع الاسرائيلي الخاشع لبقر الأمن، مختلف. فهذا المجتمع، وفقًا لاستطلاعات وأبحاث منشورة عديدة، فاقد الثقة الى حدّ كبير بسياسيّيه. من أسباب ذلك، تحطّم أساطير عديدة كان السياسيون يرتسمون وفقًا لها بنظر المجتمع كقادة كبار مخلصين لمشروع وسياسة وفكر. لكن حبل الكذب كعادته قصير، وإن امتدّ طوله على سنين.. ففي العقدين الأخيرين، خصوصًا، صارت كلمة سياسي في إسرائيل مرتبطة بالنفعيّة والأنانية البعيدة كلّ البعد عن الإخلاص للجمهور وقضاياه. فهذا الأخير يشاهد الألاعيب والممارسات التي مهما تعقّدت تظل تدور حول مركز واحد قوامه أنا هذا أو أنا ذاك من سياسيّي المؤسسة.
بالمقابل، ظلّت صورة الجيش بنظر الاسرائيليين أكثر نظافة، خصوصًا تحت وطأة صناعة الخوف الدائم وإنتاج الفزّاعات والغيلان المنهجي بغية الحفاظ على صمغٍ يحفظ تلاحم المجتمع الاسرائيلي الذي لا يوجد ما يوحّده عمليًا سوى شعوره الدائم بالخوف الحقيقي أو الوهميّ، وهنا لعب الجيش دور المخلّص.
الآن ينكشف قادة هذا الجيش لمجتمعهم بصورة طبق الأصل عن قادة السياسة. مصالحهم النفعية الفردية وشهوة السيطرة وغرائز القوة تجعلهم يحيكون مؤامرات تحتاج الى خيال جامح جدًا يفوق قدرات السياسيين. الى هذا تُضاف حروب جنرالات عديدة وواطئة لم يعد بالإمكان سترها خلف جدران الرقابة أو “المسؤولية” لأن الإعلام التجاريّ المتنافس يريد دمًا يملأ الشاشات به الى جانب سيول الاعلانات التي تدرّ مالا على جيوب أناسٍ وطنهم الأوّل هو رأسمالهم. وفقًا لتقديرات عدة، ما حدث في قضية غالانت-أشكنازي أكبر من مجرّد فضيحة أخرى، بل إنها قضيّة شائكة تقدّم للمجتمع الاسرائيلي على طبق من فولاذ حقيقة مرّة لما أراد دومًا الإيمان بعكسه تمامًا. هناك قطعة كبيرة تهشّمت في متحف الأوهام الإسرائيلية، أمام عيون المشاهدين.