أنضوني: كل شيء محتلّ، لكن لن أسمح لهم باحتلال خيالي!
رائد أنضوني الفلسطيني ينجز سينما فلسطينية خارج الشعار: كيف يمكن كتابة فلسطين سينمائيًا من دون “بالروح بالدم”؟ هل هذه مهمة ممكنة وهل هي مجدية أم صحيحة في زمن الكليشيهات الجاهزة؟… حوار ممتاز مع سينمائي يفكر خارج الحلم العام
أنضوني: كل شيء محتلّ، لكن لن أسمح لهم باحتلال خيالي!
|هوفيك حبشيان|
حين علم رائد أنضوني في لقائنا معه أن مايكل مور ادرج فيلمه “صداع” في قائمة أفلامه العشرة المفضلة لعام 2009، طار فرحاً لثوانٍ. عندما سألناه اذا كان يحبّ طريقة “المناضل” الأميركي في التعامل مع الملفات الساخنة، كان ردّه: “يسعدني ما يفعله، لكن لا استطيع أن أمشي على خطاه. ليست هذه سينماي المفضلة”. بالفعل، عندما ينزل المرء، وبتأنٍّ شديد، في أعماق هذا العمل الذي أنجزه (وثائقي، 98 د.) يستوقفه سلوك فني هو نقيض عمل مور: الشكّ بدل اليقين، السؤال محل الجواب. هكذا، على طول الخط: سلسلة من المشاكسات لواقع نعتقد اننا نعلم عنه كل شيء. يا للمفاجأة! سرعان ما يستعين أنضوني ببيت لمحمود درويش لتسجيل موقف احتجاج ضد مسألة اليقين: “من أنا لأقول لكم ما أقول لكم؟”. في بيئة فلسطينية يقول عنها انها تترجح بين منطقي الصحّ والخطأ، يشقّ هذا المخرج طريقه الى فيلم يبحث فيه عن علاج لصداع يحاصر عقله، أي أغلى ما يملكه، قبل ان يجد في الفيلم الذي يصوّره العلاج المنتظر. استعارة بديعة “بيغر زان لايف”، كما يقال في الانكليزية. يحاول المخرج انتشال فلسطين من كونها مادة أبدية لدراما المشاعر والقبضات المرفوعة والنضال، على وزن “بالروح بالدمّ”، وتحويلها مكاناً ذا صلة بفردية الأشخاص خارج انتماءاتهم الى الجماعات، حيث من خلال الكادر داخل الكادر، يسعنا استراق نظر الى يوميات، فيها سعي دؤوب الى اعادة امتلاك شيء ما سحقته القضية مثلما سحقه أيضاً البقاء الدائم في حال تأهب امام العدو. في أحد المشاهد الأساسية يطالب أنضوني، رداً على صديقه الذي يمدح العزم والقوة، بالحقّ في أن نكون ضعفاء. غنيّ عن التوكيد أن هذا واحد من أصدق التصريحات، يأتينا من سينمائي فلسطيني يعيد تجميع أشيائه الموزعة على أكثر من جبهة: جبهة التثبيت المستمر بأنه صاحب قوة، وجبهة العائلة التي يصطدم بها، لأنها ترى في صداعه ترفاً وربما غنجاً.
شيء متعب حقاً ان تكون فلسطينياً! البعض منهم جعله “مهنة”، أنضوني يريده تحصيلاً حاصلاً. وعندما يأتيه مراسل من “سي أن أن”، مزنر بأسئلته الجاهزة، فلا يسعه الا ان يصفعه بلائحة من الكليشيهات لاكتها الألسنة (“لست جسر تواصل بين الثقافات”) وهي في وسعها أن تكون “مانيفستو” لسينما فلسطينية جديدة، آن الآوان أن تولد!
- في معظم الأفلام التي تجري على أرض فلسطين المحتلة، نجد ان فلسطين ليست أكثر من كونها موضوعاً، أو مادة. أهمية فيلمك انه ينتزعها من كونها مجرد مادة للتجاذبات الأبدية ويعيد ترتيبها في سياقها الانساني الطبيعي.
مجموع أحلامنا الشخصية، أليس هو الذي يصنع الحلم العام؟ ألن يساعدنا الحلم العام المتمثل في تأسيس الوطن والدولة، في أحلامنا الشخصية؟
أنضوني: “تماماً. أريد أن أقول بداية إنني سعيد كوننا لم نناقش فلسطين في معظم المهرجانات التي ذهبنا اليها. قبل تناول فلسطين، كان هناك نقاش سينمائي، بسيكولوجي وانساني، وأيضاً نقاش للمكان الذي تجري فيه الحكاية. لم يأت الحكي عن فلسطين الا في الأخير. هذا شيء مهم جداً بالنسبة اليَّ، واتاح لي الخروج من اطار البقاء محاصراً في فلسطينيتي والانتقال الى انسانيتي. أتفق مئة في المئة مع ما تقوله: فلسطين هي مكان، كما هي الحال مع أي قصة من القصص. فلسطين مكان لقصتي. فلسطين بالنسبة اليَّ ليست لوغو أو شعاراً، انها حياتي وجزء من مرجعيات تفكيري. لست محتاجاً الى أن أضع فلسطين في المقدمة، بل أحتاج الى أن أعيش انسانيتي، لأن فلسطين راسخة في إنسانيتي. تمسكي بالهوية الانسانية لا يلغي فلسطينيتي. لكثرة ما باتت الهوية الفلسطينية براقة، أصبحت تطغى على الهويات الأخرى. لذا، على الأقل في السينما، لا نحتاج الى ان نحملها علماً وشعاراً…”
- في أي تاريخ بدأت تكتشف فيك هذا الميل؟ هل هناك شيء في حياتك قبل هذا الوعي وبعده؟
أنضوني: “إنه نوع من اجراء. في الثامنة عشرة كنت سجيناً سياسياً وأمشي خلف الشعارات السياسية. هي مراحل يعيشها المرء. لذلك، قلت إنني أؤمن بالشك لا باليقين، وبالأسئلة لا بالأجوبة. طوال حياتي، لم أكفّ عن طرح الأسئلة على نفسي، سواء عندما كنت في المعتقل أو في التنظيم او خلال الحياة السياسية. الى اليوم لم أترك السياسة، على رغم أنني صرت أعمل في السينما، لكن السياسة تتقاطع مع مهنتي. هذه عملية طويلة ومضنية. من الصعب ان يكون للإنسان الشجاعة الكافية ليهز اقتناعاته ويواجهها بأسئلة جديدة، متحدياً ذاته. وهذا ما أحاول أن أفعله في أفلامي. انه لشيء جد صعب ومؤلم. هناك منظومة من الاقتناعات والمفاهيم والقيم تبنيها لنفسك، هي التي تجعلك تحافظ على توازنك: انها أسوار دفاعية تستخدمها خلال سنوات صراع طويلة. ومن الخطورة هزّ هذه الأسوار. لكن أنا أحبّ أن أهزّها.”
- الفيلم متشعب بالكثير من المواضيع، لكن أهمها مسألة الفردية: القضية تسحق الانسان، فيغدو جزءاً منها. هل فهمت جيداً؟
أنضوني: “غنيّ عن القول إن القضية سحقت الفرد الذي في داخلنا. هذا السؤال يؤرقني لكني في الفيلم لم أقدم إجابة عنه. بسام الذي كان معي في المعتقل قال لي في معرض حديثنا عن الأحلام: عن أي أحلام شخصية تتكلم؟ اذا ذهب الحلم الكبير، فستذهب معه أحلامنا كلها. هذا كلام مقنع. باسم انسان ذكي ولامع يعمل سائق تاكسي. كانت له أحلام كبيرة ذهبت أدراج الرياح. لكنه مقتنع في حاله. يؤلمني عندما أراه في كاراج سيارات الأجرة. بيد ان هناك سؤالاً فلسفياً مهمّاً: مجموع أحلامنا الشخصية، أليس هو الذي يصنع الحلم العام؟ ألن يساعدنا الحلم العام المتمثل في تأسيس الوطن والدولة، في أحلامنا الشخصية؟ هذه الجدلية غير المحلولة تؤرقني كثيراً. كسينمائي، لم استطع الذهاب الى منطقة السينما الا بعدما عززت حلمي الشخصي، بما لا يتعارض مع الحلم العام، لكن مع فرق أنني لم أعد متمسكاً بشعارات الحلم العام.”
- هل هذا نضج؟
أنضوني: “ثمة خيط رفيع يفصل بين الأشياء. عندي مشكلة مع التجمعات العائلية، لكني أحب أهلي. أحاول البحث عن فرديتي، لكن في الوقت نفسه لا أريد إلغاء الآخرين. لا أريد أن أقول “أنا صح، وهم خطأ”.
التراكم مهم. هذا تاريخ نحتاج اليه ايضاً. لا نستطيع أن نلغيه وننطلق من جديد. لكن، يجب ألاّ يكون هذا “علاّقتنا” التي نعلق عليها السينما الفلسطينية برمتها
- موضوع الصداع هل كان نقطة انطلاق أم جاء لاحقاً؟
أنضوني: “كان الموضوع يؤرقني. كنت فعلاً مصاباً بصداع، لكني حاولت أن أضعف حضوره في الفيلم. منذ بدء التصوير، كنت أسأل نفسي: الى أي مدى ينبغي لي أن أكون صادقاً مع نفسي في موضوع تسجيل جلسات العلاج؟ هل كنت فعلاً في حاجة الى علاج أم كنت أكذب لأبرر الفيلم؟ كان مهماً أن أجد إجابة صحيحة. في الأخير، أنا سينمائي، والسينمائي ليس وظيفة. أعيش كسينمائي وأحلم كسينمائي. لذا، قررت انه ما من فصل ممكن بين حياتي ومهنتي. حتى مسألة احتياجي الى انجاز فيلم، هي جزء من حياتي. وجدت نفسي في وضع معين من دون أن تكون عندي إجابات واضحة، قبل أن أقرر انني لن أكون صاحب قرار في غرفة العلاج النفسي. تركتُ السيطرة لشخص آخر، وهذا أخطر ما يمكن أن يواجهه سينمائي يعمل وفق خطة. بيد أنني خضت تجربة 20 اسبوعاً في العلاج، لم أكن اعرف ماذا يحصل خلالها. المعالج تقبّل فكرة أن أصوّر العلاج شرط الا ألقي نظرة على المادة المصورة ما دمت تحت العلاج. فوافقت. تركت السيطرة الكاملة للطبيب. من جهة كانت مجازفة، ومن أخرى كانت تعرّيني. الفيلم كله صوّر خلال الاسابيع العشرين. المرة الأولى التقيت فيها الدكتور كانت قبالة الكاميرا. كل الفيلم مصوَر من خلف الزجاج. لم تكن الكاميرا حاضرة. كان الفريق من الأجانب ولم أكن أراهم. التقني الذي كان يلتقط الصوت لم يكن يفهم العربية. المصور أيضاً. هذه الظروف جعلت الفيلم ما هو عليه. لم يكن في امكاني مثلاً التحدث براحة لو علمت ان أحدهم يتسمع اليّ. اهتممنا بهذه التفاصيل كلها كي تكون الجلسات حقيقية ونحافظ على احساسها.”
- ما المساحة المعطاة الـ Mise en scène في الفيلم؟
أنضوني: “لجأت الى هذا خلال المونتاج. العلاج النفسي الحقيقي كان أثناء التوليف وليس خلال التصوير. التوليف كان اعادة كتابة. صار عندي مسافة كافية من المادة المصورة، وانتقلت الشخصية من كونها “أنا” الى كونها “هو”. بدأت أفهم رائد. على كل حال، صرت مجبراً على ذلك. صرت أتابع لغته الجديدة وألحظ عندما يكذب.”
- هناك مشهد لفتني في الفيلم، عندما يحاورك مراسل الـ”سي أن أن” طارحاً عليك أسئلة مستهلكة، فتصيح في وجهه انك لست كذا وكذا وكذا. لا بد أن نرى في “لائحة الأشياء التي لا تريد أن تجسدها” نوعاُ من مانيفستو لسينما فلسطينية جديدة بعيدة من التعليب…
أنضوني: “بدأ تصوير الفيلم مع أول يوم خضعت فيه للعلاج وانتهى مع انتهائه. لم أصور ساعة اضافية. اتصل بي المراسل وطلب إجراء مقابلة معي، فطلبت منهم أن أصوّر حواره معي لأضعه في الفيلم. تزامنت هذه المقابلة مع الفترة التي كنت أخضع فيها للعلاج، حيث كان الحديث بيني وبين الدكتور عن الهوية الشخصية. فكنت أحاول أن أبعد خلال الحوار عن مسألة فلسطين أما هو فكان يعيدني اليها، الأمر الذي أغضبني. في النهاية قلت له: أنا لا أريد ان أنجز سينما من أجل فلسطين بل أريد انجازها من أجلي. كانت المقابلة مصادفة وغير مرتبة.”
- ذكّرني الفيلم بـ”دفتر يوميات حميمة” لناني موريتي…
أنضوني: “شاهدت الفيلم. هو روائي أكثر منه وثائقياً الا عند مرحلة الاصابة بالسرطان، اذ يأخذ منحى وثائقياً. شبّهوني كثيراً بوودي آلن وناني موريتي لأن الفيلم تضمّن بعض الكوميديا السوداء. من جهتي، أحبّ الاثنين. كل البلدان التي تعاني أزمات كبرى تصبح فيها الكوميديا المتمثلة بالتمرد المجنون على الوضع، كنوع من انواع العلاج. ما يميز فيلمي أن أساسه واقعي. كان التحدي بيني وبين نفسي ولم يكن مع شخص آخر. أرى من السهل الامساك بموضوع كبير، لكن أن تدخل هذه المنطقة [يشير الى قلبه]، فهذا شيء صعب. ما تنجزه السينما الفلسطينية هو أيضاً شيء مهم. يجب أخذه في سياقه التاريخي. حتى أفلام منظمة التحرير [الفلسطينية] من نوع “بالروح بالدم” لديها اهمية ما. سينما شعارات؟ “معليش!”. التراكم مهم. هذا تاريخ نحتاج اليه ايضاً. لا نستطيع ان نلغيه وننطلق من جديد. لكن، يجب ألاّ يكون هذا “علاّقتنا” التي نعلق عليها السينما الفلسطينية برمتها، ونقول: “هذه هي السينما الفلسطينية”. أنتم في لبنان عشتم ظروفاً مشابهة: في الانتفاضة الثانية مثلاً، حُبست في بيتي والدبابة امام الباب تمنعني من الخروج كي أشتري ما آكله، ففي ظروف مماثلة لا اعود أفكر في انسانيتي وأبدأ بالتفكير في ردود أفعالي. يصبح الانسان تالياً في حاجة الى أن يحكي قصته، وهذه حاجة انسانية. لا استطيع ان انفي صفة الانسانية عن هذه الحاجة المتمثلة في ردّ الفعل، لكني لا اريد أن يتحكم ردّ الفعل هذا بعقلي ومشاعري وخيالي. كل شيء محتلّ، نعم، لكني لن أسمح لهم بأن يحتلوا خيالي. لن أسمح لهم بأن يحتلوا الحلم والطريقة التي أحلم فيها. في النهاية ردود الأفعال انسانية. حتى العنف انساني. انا لا أحتاج الى اثبات فلسطينيتي (…).”
- فلسطين في السينما الأجنبية، هذا أيضاً موضوع على الموضة، منذ سنوات طويلة…
أنضوني: “أحببت القليل جداً من الأفلام الأجنبية عن فلسطين. تتعبني. فلسطين موضوع “سكسي” للمشاهدين الأجانب. بالنسبة اليهم، هذا موضوع سياسي، وخصوصاً انهم يتأثرون بما يسمعونه في الأخبار. لا بأس أن يأتي الأجانب لصنع أفلام عن فلسطين، لكن، في المقابل، علينا ان نصنع صورتنا بأنفسنا (…).”
(عن “النهار” اللبنانية)
3 أكتوبر 2010
مقال رائع، تباً للشعارات التافهة التي يرفعها تجار فلسطين
25 سبتمبر 2010
ارحمونا من هذا الحب القاسي
هذا ما قاله محمود درويش مرة ، وهو يصلح هنا للتعليق على الفيلم وصاحبه في هذه المقابلة
ولا اعلم ان كان يصلح ان يصنف كفلم اصلا، وهو يغرق في الاخطاء السينمائية والبنية والفكرة ، حيث يبدو استعراض لنرجسية مرضية يصاحبها نقص شديد في المعلومات والمعرفة عند صاحبه وعدم معرفة بالسينما او الواقع ، فاية رواية يقدم هذا الفلم عن فلسطين واية مقولة نحتاجها في هذا الوقت العصيب ، فيلم يثير الصداع والحزن عند المشاهد ويثير الحسرة على حالة الفن وسهولة ادعائها ، والحوار تبجح وتكرار لا يستحق التعليق
نرجو ان تعفينا جريدة النهار وكذلك موقعكم من هذا التخريف
23 سبتمبر 2010
افلام انضوني من الدرجة العشرين وحتى كل كلامه هنا كليشيهات وادعاء