مرايتي يا مرايتي: مين أحلى مديناتي؟
يُثبّت ألبوم “أحلى من برلين” الجديد قدرة فرج سليمان على التطوّر والتميّز وتثبيت نفسه كأحد أفضل المبدعين الموسيقيّين اليوم وبجدارة، فيما خَطّ مجد كيّال نصوصًا متينة وعذبة في معظمها، غير مُتكلّفة وحقيقيّة (أوثنتِك في زمن يعزّ فيه الأوثنتِك) • أغانٍ ممتازة تتعايش مع أغانٍ أقلّ متانة، ومع ذلك يظلّ الألبوم عملًا متفرّدًا وحقيقيًّا وأصيلاً يشهد على مشروع موسيقيّ دائم التطوّر، وعلى نهج باحثٍ في كتابة الأغاني الفلسطينيّة (والعربيّة)
>
|علاء حليحل|
>
أنا لا أحبّ التعصّب المَكانيّ: فليُحبّ مُحبّو حيفا حيفا، وليُحبّ مُحبّو برلين برلين. لا أعتقد أنّ على المرء (والفلسطينيّ) أن يُحبّ طبيعة بلاده لأنّه وُلد فيها؛ وعشق باريس لا يعني خيانة ليافا؛ ويجب علينا أن نقول براحة ومن دون شعور بالخيانة: رغم حبّنا له، إلّا أنّ رائحة سوق عكّا كريهة في معظم أوقات السنة. من جهة أخرى، لا يُمكن لحُبّ مدينة أو مكان ما أن يكون نقطة أفضليّة على الآخرين، لا حيفا ولا القدس ولا برلين. حُبّ سخنين وباقة ورهط لا يقلّ صدقًا عن حبّ حيفا والقدس، ولا فضل لحُبٍّ على حُبٍّ إلّا بالصِّدق.
لكنّ ألبوم فرج سليمان ومجد كيّال، “أحلى من برلين”، والذي يتمحور بمعظمه في حيفا وحُبّها، هو أغنية عشق طويلة للمدينة، أغنية جميلة ورقراقة، حنونة وقاسية، فرِحة وحزينة. العشق الذي في الألبوم لحيفا صادق ونقيّ، لا ادّعاءات فيه ولا طَعجات، لا مُعلَّقات ولا مُعلَّبات.
عنوان الألبوم يقوم على نصّ تحتيّ (مُضمَّن) يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالهجرة إلى برلين كمدينة كوزموبوليتيك، “فقيرة ولكن سكسيّة”- كما قالت رئيسة بلديتها؛ هجرة تعدّدت أسبابها: هجرة الشباب الإسرائيليّين هربًا من غلاء المعيشة والأوضاع السياسيّة؛ هجرة الشباب من عرب 48، بعضهم تقليدًا لهجرة الإسرائيليّين، وبعضهم لأسباب لأخرى أهمّها البحث عن الذات، وهو أكثر الأسباب شرعيّة قاطبةً؛ وهجرات حروب وويلات ملأت برلين بمخيّمات اللاجئين. لكن، وبغضّ النّظر عن الأسباب، باتت الهجرة إلى برلين (أو الحجّ إليها مرّة كلّ شهور) علامةً فارقة على الكُولِيّة والأݒ-تو-ديت. وقد يكون الأمر صحيحًا بطبيعة الحال؛ فمن حقّ الشباب أن يبحثوا/نَ عن المتعة والمستقبل والتميّز وبناء الذات، وليست كلّ الهجرات سيّئة. لكنّ توترًا بدأ يرتبط بهذه الهجرات وبالانعجاق المُنهرق أحيانًا بالمكوث في برلين كهدف يُرتَجى بحدّ ذاته.
خَطّ كيّال نصوصًا مدينيّة وحَضريّة في جوهرها، ترتبط وتتقاطع مع واقعنا المجتمعيّ- الريفيّ (الاشتياق إلى أم صبري)، وتتصل بقوّة مع تداخل المدينة والريف (الوافدين من القرى) في حيفا وغيرها، وصعوبة فصلهما المبضعيّ. هذه نصوص متينة وعذبة في معظمها، غير مُتكلّفة وأصيلة (أوثنتِك في زمن يعزّ فيه الأوثنتِك)، ترتبط جذريًّا بأحياء حيفا العربيّة، بشخوصها ومساحاتها، بتفاصيلها اليوميّة الغنيّة، وعلى رأسها نصّ “في أسئلة براسي”، الذي امتزج بأفضل ألحان الألبوم لتكون بلا منازع أفضل أغنية فيه، وشهرتها عن دون غيرها تبدو طبيعيّة للغاية. أغنية تنتقد تغيّرات المركز والهامش، أحياء قديمة مقابل شوارع مقاهٍ ݒوست-ݒوستيّة، حبّ قديم مقابل حبّ جديد: “كبرت الحارة سمعتْ/ جابوا مَلان أثيوبيّة/ وانتِ نقلتي مع صديقِك/ سكنتوا بالألمانيّة”.
يتحوّل صوت المدينة في هذا الألبوم إلى نوع من ضمير الفرد المتكلّم. حالة تراكميّة من النصوص والألحان تُبعثر مفاهيمَ فوريّة حول الانتماء والحبّ وفقدان المدينة (ومحاولة استرجاعها)، ولكن ما يفعله اللحن مع الكلمة في هذا العمل هو الاستمرار في مسارات موسيقيّة معاصرة لدى فرق/ فنانات/ فنانين فلسطينيّين وعرب آخرين تفحص حدود الممكن في الكلمة واللحن، والقدرة على ريادة ذائقة جديدة أو تعزيزها أو الذهاب في أعقابها: “هاي قصص عن كلمات وقعت/ بالمدينة من جيب الشعر/ عن سروة انكسرت بالقصيدة…/ ووقعت بالنهر.” (أغنية “صلاة”). كلمات كيّال تراوح بين الشِّعرِيّ (Lyric) واليوميّ الترابيّ؛ بين ضرورة الصّياغة السّلسة الطيّعة للتلحين وبين القدرة على صوغ أفكار فلسفيّة- وجوديّة تصلح لمقالاتٍ وستاتوسات مُسهَبة. البعض سيُحبّ هذه المحاولة والبعض سيكرهها- ولا بأس، فهذه طبيعة كلّ عمل جديد يحاول أن يطرح سؤالًا جديدًا حول الشكل والمضمون، وهذا يميّز غالبيّة المحاولات المُستمرّة لدى كلّ روافد الإبداع الفلسطينيّ بالبحث دائمًا عن لغة جديدة ومعاصرة للحديث عن… نعم، النكبة.
ويُثبّت الألبوم أمريْن متناقضيْن بخصوص الموسيقى والألحان: قدرة فرج سليمان على التطوّر والتميّز وتثبيت نفسه كأحد أفضل المبدعين الموسيقيّين اليوم وبجدارة، وذلك عبر سعيه للتحرّر من نمطيّات وقوالب تلحينيّة ينجح فيها مرارًا، في مقابل ضرورة أن يجد مُغنيًّا/ة لأغانيه بوسعه/ها أن يتجاوز/ تتجاوز محدوديات صوته الغنائيّ. برأيي أنّ هذه الخطوة ستنقل أعماله إلى مستوى جديد من الأداء والناتج النهائيّ، رغم الألم في قول ذلك ورغم أدائه الجميل جدًّا في “في أسئلة براسي”.
وكأيّ عمل إبداعيّ تتفاوت الأغاني في مستوياتها، نصًّا وألحانًا. أغانٍ مثل “مرثية لشهيد واحد” (كلمات قوتها في اختزالها و”بُخلها”، صور واستعارات وتشبيهات امتزجت بلحن ذكيّ ومتين. لولا “في أسئلة براسي” لكان المرء سيقول إنّ هذه أفضل أغنية في الألبوم) و”لمّا ينزل التلج” الممتازتيْن، تتعايشان مع أغانٍ أقلّ متانةً مثل “شارع يافا” (حيث النصّ أقوى من اللحن) و”قلبي في آخر الليل” (وهي أضعف أغاني الألبوم؛ نصّ عموميّ يُمكن أن يُكتب في أيّ مكان ومن أيّ أحد لأيّ أحد، إذ أنّ عُموميّة النصّ تُفقد الأغنية تميّزًا ما في ظلّ ما جاء في سائر الألبوم)، وأغنية “صلاة” التي تحتاج برأيي إلى لحن أكثر بطئًا وتأمّلًا كالكلمات.
ولكن يظلّ هذا الألبوم عملًا متفرّدًا وحقيقيًّا وأصيلاً يشهد على مشروع موسيقيّ دائم التطوّر، وعلى نهج باحثٍ وساعٍ في كتابة الأغاني الفلسطينيّة (والعربيّة).
____________
أحلى من برلين | كلمات: مجد كيّال | موسيقى: فرج سليمان | موسيقيون: فرج سليمان (بيانو)، كوم أﭼيار (جيتارة باص)، باتيست دي شابانيكس (درامز) | تسجيل صوت: مارون البيم | ميكس: مايكل سيميناتور | ماستيرينغ: مروان دانون | ترجمة: نهى قعوار | صورة الغلاف: ورد كيّال | تصميم الغلاف: وائل واكيم
___________
للتواصل مع الكاتب:
hlehel@gmail.com
الموقع الشخصيّ: hlehel.me
twitter.com/alahlehel
facebook.com/ala.hlehel
Instagram: hlehelala