أبي/ فرحات فرحات
هكذا نحن بني البشر، عندما يتواجد الشخص، لا نجد عمّا نتحدث وعندما نجد عمّا نتحدث لا يتواجد الشخص ■ قلت لك مازحًا: يبدو أن سرا ً ما في ثقافة الصف الرابع، أنظر إلى طه حسين. علت وجهك ابتسامة خجولة وكأنك أدركت محاولتي الإطراء لك
أبي/ فرحات فرحات
|فرحات فرحات|
ها قد مضت على فراقنا ستة أعوام. يوم رحلت لم أكتب لك قصيدة رثاء كما يفعل الشعراء عادة؛ وقفتُ يومها بين جمهور المشيّعين وقلت فيك كلامًا بسيطًا كبساطة فعل الولادة والموت، كبساطة موتك تلك الليلة. كنت ُ حزينًا، شاردًا، رأيت في عينيك ذاك اليوم إشارة الفراق، شيء ما همس لي بأن أبقى معك لكني لم أسمع صدى الصوت. انصرفت إلى أعمالي وتركتك تحدث من حولك عن قانون الميزانية الذي لم يستطع أعضاء الكنيست إقراره. قلت لك وأنا خارج: مالنا ومالهم يضربوا، وكأنني أردت القول، خلينا في اللي فينا، ألا ترى كيف تدهورت صحتك يا أبي؟
لم أكتب لك قصيدة رثاء. ولو فعلت على عجالة وكتبت لاستفقتَ من سباتك الأبدي لتزجرني: هذا ليس شعرًا! كم حاولتُ إقناعك بأنّ الشجر يبكي وبأنّ السماء تضحك وبأنّ القمر يكتئب وأنت على إصرارك بأنّ هذا هراء وأنّ الشعر الحديث بكل أشكاله إنما زيف وضعف ومؤامرة على المتنبي وامرئ القيس. كنتَ تسعد عندما أتلو على مسامعك قصيدة عامودية حتى ولو خلت من التشبيهات والجماليات. يكفيك أنها موزونة ومُقفاة. هكذا رأيتَ الشعر يا أبي وهكذا أردتَ أن يكون. ها أنا أجول بين أوراقك المبعثرة أحاول أن ألملم شمل قصائدك التي اصفرت أحرفها على مدى الأعوام، تنتظر منا أن ننقلها إلى مسكن جديد من ورق صقيل لامع يليق بهذا الميراث الذي أبقيته لنا وهو كنزنا الأبديّ:
إني وجدتُ معالمي ومكاني / بين الرفاق وقد بلوتُ زماني
وخرجتُ من تلك المعالم ساخرا / متأففًا بمطامــعِ الإنسان
وذهبتُ في حب الإخاء مفاخرًا / أهوى السلام لسائرِ الإخوان
فبعدتُ عن كل المطامع تاركًا / حقد النفوسِ ودارة الإضغان
اختر لنفسك منهجًا تسمو به / عن عالم الأحقاد والأدران
إحفظ لسانك بالحديث فإن في / حفظ اللسان معزة وتفاني
وإذا رمتك النائبات ببلوة / أصبر فإن الله رب حاني
أتجول بين أوراقك بهدوء وسكينة، أقلب صفحات الماضي في محاولة لاكتشافك من جديد. هل كنت أعرفك حقا ً يا أبي؟ يبدو لي أحيانا ً أن حديثا ً ما كان يجب أن يدور بيننا ولم نفعله. أتحسر على هذا الحديث المنقوص رغم أني لا أدري كنهه ولا المكان الذي كان سيُوصلنا إليه. أشعر بالحزن وخيبة الأمل إزاء هذا النقص الذي لا أستطيع كما قلت لك تحديد ملامحه. ربما لم تكن لدي الشجاعة الكافية لاختراق ذاك الحاجز الوهمي الهلامي أو ربما خشيت أن لا ألاقي من القبول قدرا ً كافيا ً. هكذا نحن بني البشر، عندما يتواجد الشخص، لا نجد عمّا نتحدث وعندما نجد عمّا نتحدث لا يتواجد الشخص. أعلم أني أظلم علاقتنا حين أصورها بهذا الشكل، فلم يكن يمضي يومان أو ثلاثة من دون أن نتجاذب أطراف الحديث، حيث كان يبدأ خجولا ً في محاولة مني لاستدراجك إلى ملعبي حيث تكون الغلبة لي. ورغم انك كنت تدرك رغبتي هذه في الخروج منتصرا ً في أي سجال بيننا، إلا أنك لم تكن يوما ً على استعداد لرفع الراية البيضاء، ولطالما كان ينتهي النقاش بيننا بتدخل من أهل البيت: ” يلا فضوها سيرة عاد”. كنت أدري مسبقا ً انك منافس قوي في الأدب الجاهلي وفي أمور الدين ومسألة الإيمان. كان هذا ملعبك بامتياز ولطالما اخترقتَ شـِباكي بأهداف رائعة تركتني مذهولا ً أمام أفكاري المهشمة عند القائم الأيمن أو الأيسر.
لطالما سألت نفسي من أين لك كل هذه المعلومات وأنت لم تكمل سوى الصف الرابع؟ كنت ستجيبني طبعًا: المطالعة. إنها ليست المطالعة وحدها، فلم تترك لنا مكتبة يشار إليها بالبنان. أفتش في مكتبتي علني أشتم رائحتك في أحد الكتب فلا أقتفي أثرا ً لها. أعلم أنك كنت مولعا ً بالأدب العربي الجاهلي وقد حرصت على اقتناء كتب أبي العلاء المعري وبعض الكتب الدينية والفلسفية. جئتك يا أبي مرة بكتاب أنيس منصور “في صالون العقاد كانت لنا أيام”. كان الكتاب ثقيلا ً ولا يمكن قراءته محمولا ً لضخامته، قدمته لك بكثير من الإعجاب بعباس محمود العقاد، الشاعر، الأديب والفيلسوف الذي شكل ندا ً قويا ً للدكتور طه حسين رغم أنه لم تبلغ ثقافته حد الصف الرابع. قلت لك مازحا ً، يبدو أن سرا ً ما في ثقافة الصف الرابع، أنظر إلى هذا الشخص. علت وجهك ابتسامة خجولة وكأنك أدركت محاولتي الإطراء لك.
يعلم الله يا أبي مدى شوقي إليك في هذه الأيام. احتجتك كثيرا ً في السنوات الأخيرة. كم من مرة أردت أن أختبئ في عينيك العسليتين هاربا ً مما ألمّ بي أو لأقول لك: أترى يا أبي؟ وأخيرا ً تعادلنا. حتى في المصائب تعادلنا. حين رافقتك بعد ان بُح صوتك قال لك الطبيب إنك تعاني سرطانًا في الحنجرة. طأطأتُ رأسي محاولا ً الهرب من نظراتك. أمسكتَ يدي بقوة وقلت بصوت فيه من الحدة والرقة معًا: شد حيلك مالك ارتخيت؟ بعد سنوات قليلة أردتك أن تكون بجانبي لأمسك بيدك حين رمقتني الطبيبة بنظرة مجرّدة وزفت إلي خبر مرضي ثم مضت لمريض آخر “ولبشرى” أخرى. تعلمت منك أن أتقبل الأمر بأعصاب هادئة. مضينا إلى البيت بهدوء لا عاصفة وراءه. هدوء من لا يدخل حربا يعرف أنه لن ينتصر فيها، هدوء من يعرف أن يطأطئ رأسه أمام المحن حتى تمرّ من فوقه بسلام. وقد مرّت عليك وعلينا بسلام ونسينا.
أحاول الآن أن أمرر شريط حياتك أمامي من جديد. أحيانًا، تخفى عن حياتنا حقائق سهوا ً أو لأننا لم نعرها الانتباه اللازم، ثم كما يحصل عند مشاهدة فيلم سينمائي للمرة الثانية، تتكشف تفاصيل ذات مدلولات وأهمية غابت عن وعينا بادئ الأمر. هكذا أرى هروبك من بيت جدي مرتين والتحاقك في الجيش الإنجليزي وهكذا أرى تمردك ومحاولة تحقيق ذاتك خارج تلك الأطر التقليدية في مجتمع قروي بسيط. عندما كان أولاد جيلك يتزوجون وهم في السادسة عشرة، فعلتها في الثلاثين. عندما كان معظمهم “لا يفكون الحرف” كنت تكتب الشعر وتتحدث اللغة الإنجليزية بطلاقة شبه تامة. كم كنت فخورا ً بك يا أبي يوم وقفت في باحة المجلس المحلي وأنت في زيك الديني ولحيتك البيضاء، تخطب أمام الناس باللغة الإنجليزية بعفوية الأطفال على شرف حفيد السير أوليفنت الذي طلب مقابلتك خصيصا ً كحفيد لحفيد إذ كان جدك “أبو ذياب” مساعد وسكرتير جده يوم أقام هذا الأخير بين سكان البلدة آنذاك معززا مكرماً. كنتَ قليل الكلام يا أبي، تصمت إلى حد الخنوع أمام من يحدثك، وكم كان هذا الوضع يستفزني فأصرخ في داخلي مرارا، يا إلهي، لماذا يصمت أبي وهو أفهم الحاضرين وأكثرهم فطنةً! كفى تواضعًا، لا أطيق هذا التواضع. وأنت كما أنت، تحترم الكبير والصغير، تتنازل عن حقك وتبقى على صمتك. أصرخ في داخلي، أود أن أصرخ في وجهك ثم يلفني الصمت أنا الآخر وكأنها عدوى عائلية.
أعلم أن حياتك لم تخلُ في مرحلة معينة من الهزار والدعابة. لم تكن تعترف أمامي بمعظمها وعندما كنت أمازحك كان جوابك أن فلانًا “يُبهّر” تلك الحكايات عمدا ً أو يلصقها بك حتى يبعدها عن نفسه. سمعت عن طيارتك التي صنعتها وحاولت كالأخوين رايت التحليق بها فلم تنجح . قال يومها في هذه الحكاية الشيخ أبو صقر جابر:
يا رجا سكّر محل نجارتك / وكسّر المنشار واحبس فارتك
حنطورتي من شهر إلها ضايعة / عمتشتغل في البحث عن طيارتك
فأجبتـَه:
الطيارة العم بتطير / فوق الغيم وفوق الريح
قايدها فارس نحرير / لا بيخاف ولا بيزيح
مش مثلك عالحناطير / قاعد من خوفك بتصيح
يا عالم شو هالتعتير / مش قادر إدعس فرام
لكنك سرعان ما تعود إلى رصانتك لتخاطب حواء بهذه الأبيات المقتطفة:
سيري على درب الكمال إلى العلا / وتزودي بالعلم ثم ترفقي
هذا التبرج لا يليق بغادة / كبرت على حب الثناء الشيق
الغرب ليس بقدوة في زيه / كي تقتديه مع اللباس الضيق
تلك الملابس لا تليق بحرة / تأبى لباس الضائعات الفسّق
يبدو لي يا أبي أنّ حديثنا المنقوص سيظل حبيس غرف قلبي، فأنا الشخص وأنت الشخص غريبان في حدود هذا الزمان والمكان، ننظر إلى أنفسنا وإلى من حولنا فلا نرى إلا صدأ هذا العمر وفرص حياة تبخرت بين أيدينا، من دون أن نعرف أنها كانت بقبضتنا يومًا.
13 يونيو 2011
جميل هذا البحث فيما هو حميم وحقيقي
جميل ردّ الجميل لجيل أنتج بتواضع وبقي على هدوئه
فكانت الثقافة حياته لا ضجيجه
وبصماته لا نرجسيته
لم تكن لوالدك طيب الله ثره لوحة مفاتيجه
ولا لبتوبه ولا فيسبوكه
ومع هذا لم يعدم الرغبة في الطيران الحقيقي على متن ما تصنعه يداه من موجود مجسم لا فضاء افتراضي
إنه الإنسان على حقيقته لا الانسان الافتراضي
إنه الحالم وصانع الحلم
العالم وصانع العلم
وطوبى للذين رحلوا بعد أن أثروا وأثرونا