التصورات الإليزابيثية وفهم شيكسبير/ صلاح نيازي
|صلاح نيازي| يقول الناقد الإنكليزي أدوارد لويس سمث: […]
التصورات الإليزابيثية وفهم شيكسبير/ صلاح نيازي
|صلاح نيازي|
يقول الناقد الإنكليزي أدوارد لويس سمث: “إنّ الإليزابيثيين اعتقدوا بأنّ الفنّ والصنعة لا يختلفان كثيراً.. ولكنّهم قبل كل شيء آمنوا بتفوّق الكلمة بكل تنوّعاتها واختلافاتها. أمّا الشعر فكان بالنسبة لهم المثل الأعلى للكلمة، وقد أظهروا حماسة عجيبة للترجمة. ونظر الإليزابيثيون إلى التحف الأدبية الأجنبية نظرة تمنٍّ وتشهٍّ وتملّك، وطمحوا إلى جعلها جزءًا دائمًا من التراث الإنكليزيّ”. ألا تذكّر الجملة الأخيرة بتملك العباسيين لكتاب “كليلة ودمنة”؟
إذا أضفنا إلى ذلك حرص الإليزابيثيين على مزج الدينيّ بالدُنيويّ واليوميّ العابر، بالحادث الجلل الجسيم، فسنكون أكثر قرباً من لغة شيكسبير التي كانت وسيلته الأكثر حيويّة للتعبير عن تصوّراته وانطباعاته من خلال شخصيّاته المسرحية. بيد أنّ هذه اللغة كانت هي نفسها محدَّدة بالجمهور المعاصر له. يقول جي. بي. هارسون: “الشاعر أو الروائي قد ينتظر سنوات للاعتراف به، بيد أنّ الكاتب المسرحيّ -خاصة إذا كانت لهم أسهم مالية (كشيكسبير) في الشركة التي تنتج مسرحياته- لا يصمد أمام الفشل. يجب أن يرضيَ جمهوره، وإلاّ مآله الإفلاس. إنه لا يكتب للأجيال القادمة ولكن للجمهور الذي يحضر العرض المسرحيّ ذلك المساء، لذا يجب أن تكون مسرحياته مناسبة للمسرح، مناسبة للشركة التي تتعهّد بإنتاجها، مناسبة للجمهورالذي يشتري التذاكر لمشاهدة العروض”.
الشيء بالشيء يُذكر؛ كانت العروض المسرحية تقام نهارًا، والجمهور وُقوف لعدم وجود كراسٍ، بالإضافة فإنّ المشروبات كانت تباع أثناء العرض، وكثيرًا ما يتنافس أحد النظارة مع الممثلين وهم يؤدون أدوارهم.
لكن، ما العالم الذي خبره شيكسبير خاصة، وأناس عصر النهضة عامة؟ ما اختلافاتهم عنا؟ يقول الناقد موزلي: “حقاً لقد عاش الإليزابيثيون في كوكب آخر، يختلف عن كوكبنا، ويدور حول شمسٍ مختلفة”. كيف؟
إحتذى أناس عصر النهضة نفس النموذج الكونيّ الذي رسمه بطليموس في القرن الثاني الميلادي. هذا النموذج يختلف عمّا اعتقده الإغريق (أي الكون وتتوسطه الشمس أو الكون المتراكز). يذكر موزلي: “إنّ القدامى لم يعرفوا التلسكوبات، ولم يعرفوا الأرقام العربية، بما في ذلك وجود الصفر… ولم يكنْ لديهم الجبر، وهذا اختراع عربيّ آخر”.
إفترض بطليموس سلسلة من الأفلاك متراكزة تدور حول عالم فلكيّ يتألف من تراب وماء وهواء ونار، وهي العناصر التي تكوّن المادة كما يعتقد أرسطو. وكلّ هذه العناصر مغلفة بفلك من نار تحت قمر متغيّر يُرى بالعين المجرّدة. أما المنطقة الواقعة تحت القمر فهي معرّضة للتغيّر والفساد.
الفرد في العصر الإليزابثي يتطلّع إلى السماء ويتصوّر أنها نهائية. وهذا مفتاح آخر لفهم كثير من المجازات في مسرحيات شيكسبير
الرياضيات مفتاح هام لفهم الكون، وكانت وما تزال ذات علاقة وثيقة بالموسيقى. هذه العلاقة الحسابية بين الأفلاك المتحرّكة، تُعبِّر عن نفسها بالموسيقى، وكأنْ بأنغام موسيقية، إلاّ أننا لا نسمعها على الأرض لأنها تعبر عن الكمال، وكل ما تحت القمر ناقص ومعرّض للتغيّر… وعلى هذا فالفرد في العصر الإليزابثي يتطلّع إلى السماء ويتصوّر أنها نهائية. وهذا مفتاح آخر لفهم كثير من المجازات في مسرحيات شيكسبير.
يعتقد أفلاطون أنّ حركات الكواكب في السماء لها نظير في الروح الخالدة للإنسان، وأنّ أرواحنا كانت ستردّد الصوت طبقاً لموسيقى الأفلاك، لولا طبيعة الجسم الدنيوية والتالفة. يعيد شيكسبير هذا التصوّر في مسرحية “مكبث” ومسرحية “الملك لير”.
بعد ذلك، هيمن سانت أوغسطين على الفكر الغربي خاصّة بفكرته المسماة Ordo، أي النظام، وهي تعني أيضاً المرتبة والمنزلة وسلّم التدرج. فيعتقد سانت أوغسطين أنّ كل شيء، جماداً أكان أمْ نباتاً أم حيواناً، له علاقة بكل شيء آخر، وله غرض معيّن، وله رتبة أو منزلة في نظام السلم. يعتقد كذلك أنّ للملائكة مكاناً معيناً في السلّم، فإذا لم تبقَ في أماكنها لترقص للموسيقى المعقدة العظيمة تعمّ الفوضى.
لكنْ على الرغم من أنّ هذا الاعتقاد قد بطل الاعتقاد به في القرن السادس عشر، إلاّ أنه بقيَ تصوّراً مجازياً ووصفاً فيزيائياً للكون في كثير من المآثر الأدبية.
إنّ فهم هذا التصوّر المجازي باب مفيد للدخول إلى عالم شيكسبير. وما دام لكل شيء مرتبة ومنزلة ونظام، ولكل شيء سلّم، بما في ذلك الأحجار، فمن اليسير إلى حدّ ما تفسير بعض مرامي شيكسبير. فنحن الآن حينما نقرن المرأة بالجوهر، فإنما نعني أنها نفيسة وجميلة معاً. أما بالنسبة إلى الإليزابيثي فتعني أنها تقف على رأس سلّم الأحجار. وإذا شبّهنا فرداً ما بالأسد فنعني شجاعته، أما الإليزابيثي فيعني أنه على رأس سلّم الحيوانات. وإذا قال النابغة:
كأنك شمس والملوك كواكب / إذا طلعتْ لم يبدُ منهنّ كوكبُ
فلا يخطر على البال سوى أن الممدوح يفضل غيره (الشمس أيضاً رمز للفضيلة والذكاء في النقد القديم) أما للإليزابيثي فكانت تعني أنها في قمة سلّم الكواكب.
تنشأ عن هذه التقسيمات تقسيمات فرعية. فعناصر الطبيعة الأربعة: التراب، الهواء، النار، الماء، تشكل فيما بينها سلّما تقف النار في أعلاه، وهي الأنقى والاخفّ في القمة الفيزيائية والمجازية، ومن هنا يمكن تعليل استعمال شيكسبير للنار بإفراط.
(شاعر عراقي- لندن؛ النص جزء من بحث مطوّل؛ عن “كيكا”)