الثورة السورية ومحمود درويش/ نائل بلعاوي
|نائل بلعاوي| لا ينسجم العنوان اعلاه، واقعياَ، مع حقيقة […]
الثورة السورية ومحمود درويش/ نائل بلعاوي
|نائل بلعاوي|
لا ينسجم العنوان اعلاه، واقعياَ، مع حقيقة الرحيل الفاجع لدرويش قبل عدة سنوات، فقد دخل الشاعر الغياب قبل أن تدخل الشعوب العربية نشوة التغيير العظيمة المنشودة.. قبل فعل الريادة التونسي وتألق المصري ثم الليبي واليمني وصولا لهذا الألق الاستثنائي الذي كشف عنه الشعب السوري ودفع ويدفع إلى الآن حياته ثمناَ لأجله..
لا ينسجم العنوان -مرة أخرى- وهذه الحقائق، ولا يسعى كاتب هذه السطور لاسقاط موقف ما على الشاعر، كالقول مثلا: لو كان درويش حياَ لكان مع الثورة السورية بلا ادنى شك، مع أن الفرضية الاخيرة هذه ممكنة ومنتظرة تماماَ، ولا شيء يؤكدها اكثر من مجموع الارث الشعري الجميل الذي خلفه الشاعر؛ فهناك، حيث خرجت التجربة الشعرية برمتها من معطف الحرية العظيم ولم تكف يوما عن التغني بها والسعي خلفها، هناك، لا يمكن للمتلقي انتظار موقف، من صاحب التجربة، إلى جانب الجلاد وضد الضحية. اذ أن النقائض لا تلتقي على هذا النحو القبيح ولا يمكن ان تلتقي، فقد انشغلت قصيدة درويش، بالمجمل، بلا حدود الهم الإنسانيّ وعذابات البقاء على الأرض واحتفلت، على الدوام، بالحياة واشكال عيشها، وهي المعادل الفوري عنده للحرية المهددة، على الدوام، بالموت المعادل الفوري للطغاة وعسف حضورهم.
مناسبة هذا العنوان وهذه الكلمات هي: اللحظات المريرة التي توقفت عبرها مؤخرا امام عديد المحطات الفضائية الممناعة والمقاومة التي تحتفي بكل شيء لا يتفق وحرية السوري، ولا اعرف، إلى الآن، عما تدافع، وكيف تخلط حابل المقاومة التي شوّهتها الأنظمة بنابل القومية التي امتصت كل القيء الفاشي المعروف، وما علاقة كل هذا وذاك بخرافة الصمود واساطير الابد الموصودة ابوابه على شخص واحد… هو ليس اكثر من وريث بليد لاب بليد وقاتل. ولكن، تلك حكاية اخرى لا مكان لها الآن، فما وتر اعصابي قليلا وأدهشني في آن، هو الحضور المريب للقصائد المسجلة والمصورة لدرويش على تلك المحطات التي تعمدت احداها تكرار بعض المقاطع الشهيرة التي يندد فيها درويش، بعد الخروج من بيروت، بالعروبة واهلها. وكأنها تريد القول لجمهورها، إن وجد: لو كان درويش حيا لكان إلى جانب النظام السوريّ/ العروبيّ وضدّ المؤامرة الكونية أو، وبمعنى اكثر قبحا: نحن من يمثل هذا الشعر وهذا الشاعر وها نحن تقدمه لكم .
امام هذا الاستفزاز الوضيع، هو استفزاز لآدمية الآدميّ أولا، رحت استدعي، فجأة، تلك الدقائق الاخيرة من اللقاء الذي جمعني بدرويش في بيته الأنيق الصغير جنوب العاصمة الأردنية اواخر الخريف من العام الفين..
كانت الزيارة قد شارفت على الآنتهاء حين وقفت حينها، لأبادله السلام والقليل من الكلام الوداعي امام باب البيت، ولكن نسخة كبيرة وشديدة الأناقة من القرآن فوق مسند خشبي على الجهة اليسرى قرب الباب، أخذتني بسرعة اليها، فاقتربت لتأمل الخط اليدوي الفاتن وتقليب الصفحات المذهبة.. إن أذن صاحبها؟
موافقا اشار درويش إليّ وقال: ستصاب بالرعب حين تعرف مصدر هذه الهدية ؟…
كنت اعرف مسبقا بحقيقة الوضع المأساوي الذي مر به درويش على صعيد علاقاته الرسمية العربية، فهو، من ناحية، شاعر، اولا وقبل كل شيء، وصاحب موقف واضح من الظلم ومصادر الاضطهاد، وهو، من ناحية أخرى: الممثل، شبه الرسمي، للقضية الفلسطينية، فكان مرغماَ، وفقا لتلك الازدواجية التي فرضت عليه، ان يلتقي بهذا الديكتاتور العربي او ذاك، وان يتلقى بالتالي هدية ما من هنا او هناك.
أجبت: مصادر الرعب كثيرة في العالم العربي.
من حافظ الاسد شخصيا أجاب درويش… هل تشعر بالرعب الآن؟ ثم تابع دون ان ينتظر جوابا مني: يبدو النظام الامني متاثرا إلى حد بعيد في سوريا بشخصية الاسد.. مرعب هو وكذلك اجهزة الامن لديه..
هو مرعب فعلا كررت من خلفه، ثم غادرت، بعد دقائق قليلة وللمرة الاخيرة، بيته..
مر عقد كامل على كلمات درويش الصائبة تلك، عقد من الالم المضاف إلى عقود ثلاثة سابقة.. عقد من الرعب الذي ورثه الوريث الذي لا يقل دموية وبطشاَ عن ابيه ولا يقل قدرة على الفتك بكل ما يتناقض ومصالح العائلة الحاكمة، ولكنه العقد الوحيد، ايضا، الذي ستفتح نهاياته طاقة صغيرة للامل وتكشف ايامه، هذه التي نعيش الآن، عن رغبة سورية، لا مثيل لها، بالانعتاق النهائي من قبضة الاب المرعب والابن المرعب والاجهزة المرعبة، فاتحة، تلك الرغبة الجمعية الهائلة، باباَ لعالم جديد ومختلف لا مكان فيه لاسباب الرعب وتجلياتها القبيحة التي زرعها ذلك الاب ورعاها جيدا هذا الابن.
تدافع قصائد درويش، اخيراَ، عن نفسها بنفسها، هي الوحيدة القادرة على النطق الصريح بما تحمله او تود الاشارة اليه، قد نسقط، نحن القراء عليها، احياناَ بعضاَ منا وما نرغب بقوله، وقد ناخذها، وهي قادرة بالطبع على الذهاب، إلى كل ما هو انساني المعنى والجوهر، تلك بنيتها ومكممن شاعريتها، ولكننا لا نستطيع إسقاطها في وحل الدفاع عن الموت، لانها عكسه وعكس اسبابه… لانها، وكما يكون الشعر الجميل عادة: نقيضه الحتمي وليس مسرحاَ لتسويغه، فأمام تلك التركة الفاتنة لمحمود درويش يمكن حينها، وبلا تردد، القول: لو كان صاحب هذه التركة حياَ الآن لكان، بلا ادنى شك، ضد القتل.. ضد الموت، وضد هذا الرعب الذي كان يعرف جيدا أسبابه ومصادر بعثه.