مروان مخّول بعد مِشوار بيروتَ المَهول/ أسعد موسى عودة
مروان مخّول طاقة شعوريّة وشعريّة وشاعريّة وإنسانيّة لا يختلف فيها عدوّان، يسري عليها قانون حفظ الطّاقة، فهي لا تقبل الفناء، وإنّما – في أسوأ أحوالها – تتحوّل من بقاء إلى بقاء.
| أسعد موسى عودة |
منذ ديوانه الأخير ليس الآخِر، “أبيات نسيَتها القصائدُ معي”، الصّادر، أصلًا، عن دار راية الحيفاويّة عام ألفين وثلاثة عشر، وفي العام نفسه عن منشورات الجمل البغداديّة – البيروتيّة ومكتبة كلّ شيء الحيفاويّة – من حينها وحتّى الهُنَيْهة أو حتّى إشعار آخر، وأنا أساير ولا أساير مِشواره الشّعريّ المروان على ناصية اللّغة الأمان، موجِسًا – في كلّ لحظة – خطر أن ينزلق – في أيّ لحظة – إلى الشّارع العامّ فيصدمه خطأ لغويّ أو شعريّ عابر في الزّحام، فيصيبه في مقتل.
مروان مخّول طاقة شعوريّة وشعريّة وشاعريّة وإنسانيّة لا يختلف فيها عدوّان، يسري عليها قانون حفظ الطّاقة، فهي لا تقبل الفناء، وإنّما – في أسوأ أحوالها – تتحوّل من بقاء إلى بقاء. هذا وقد نمّت مقابلته في برنامَج “بيت القصيد” مع زاهي وهبي على شاشة الميادين – من جديد – عن كلّ – أو، تقريبًا، كلّ – ما يجب أن يتزيّا به من مَلَكات ويكنزه من مُمتلَكات – في المستوى الشّخصيّ، حيث سنأتي على الإشارة إلى ذلك في المستوى العامّ – نجاح مشروع شاعر: الموهبة الشّعريّة، الطّاقة الإبداعيّة، الثّقافة اللّغويّة والأدبيّة، المعرفة الإنسانيّة، الشّجاعة، والذّكاء. وما كان هذا كلّه على شاعرنا بجديد، وقد كان على معرفتي إيّاه بتليد، وإنّما قد يكون الشّيء الوحيد الّذي جدّده وحدّده لي مروان مخّول في تلك المقابلة المطوّلة، المثيرة والمثرية، في آنٍ معًا – إذا ما غضضنا الطّرف عن بعض زلّات اللّسان والإنسان – هو عمق ارتباطه العفويّ والإنسانيّ – ولربّما الإستراتيجيّ، أيضًا، في مرحلة متقدّمة، وليس في ذلك من حرج بل فيه من فرج – بنصفه الآخر، لبنان. وهو ما سيترتّب عنه وعليه، حتمًا، هذا الارتباط – في الأمدين القريب والبعيد – من كثير وجدير وخطير.
إنّه من نافل القول أن نتحدّث عمّا للمرء منّا، عمومًا، وعمّا لامرئٍ كمروان مخوّل، خصوصًا، أن يتحلّى به من شجاعة – تلك الشّجاعة المشار إليها، آنفًا – كيما يُقدِم على زيارة لبنان؛ لبنان المعرّف في جميع الأعراف الإسرائيليّة بلدًا عدوًّا محظورة زيارته على مواطني إسرائيل، أو بتعبير أدقّ: على حاملي بطاقة هُويّتها الزّرقاء وجواز سفرها الأزرق؛ فمفردة الوطن بمشتقّاتها الصّرفيّة اللّفظيّة والمعنويّة الدّلاليّة إشكاليّة في هذا السّياق والسّباق. إنّها الشّجاعة الّتي لا يمكن بدونها أن يكون الشّاعر شاعرًا حقيقيًّا، ولا أن يكون الفنّان – أيًّا كان – فنّانًا حقيقيًّا، ولا أن يكون المؤمن أيًّا كان دينه – وإن كان دينه الإلحاد – مؤمنًا حقيقيًّا، ولا أن يكون الإنسان، مطلقًا، إنسانًا كامل الإنسانيّة. فإنّما بها الشّجاعة – لا بغيرها – ضُرب المثل، مثلًا، بأمثال سقراط والسّموأل والحلّاج؛ الأوّل تجرّع السّمّ دون أن يتنازل قِيد أُنملة عن شيء أو بعض شيء من فكره وتعاليمه، وقد آثر التّالي أن يُقتل ولده على أن يفرّط في وفائه، والأخير مأساته معروفة للصّغير قبل الكبير، حتّى صاروا جميعًا في مصافّ الخوالد والأساطير. فما حبّ السّلامة – أيّها الأعزّة – إلّا ما قيل فيه: “حبّ السّلامة يَثني عزم صاحبه / عن المعالي ويُغري المرء بالكسل”. وتعبيرًا عن الفكرة عينها قال التّونسيّ أبو القاسم الشّابّيّ على لسان أمّنا الأرض: “أبارك في النّاس أهل الطّموح / ومن يستلذّ ركوب الخطر / وألعن من لا يماشي الزّمان / ويقنع بالعيش عيش الحجر”. وهو الحجر نفسه – يا إخوان – ولكنْ شتّان شتّان بين حجر أبي القاسم الشّابّيّ التّونسيّ وحجر السّوريّ ممدوح صبري عُدوان: “إنْ شئت أن تحيا كريمًا كالحجر / فكُن حجرْ / واقبض حجرْ / واضرب حجرْ”.
إنّما أسّس ويؤسّس مروان مخّول في هذه الزّيارة خصوصًا، وسابقاتها ولاحقاتها إلى عواصم عربيّة وأجنبيّة أخرى عمومًا، لجماهيريّة جديدة، عميقة وعريضة، حيث بها – هذه الجماهيريّة – إذا ما اجتمعت إلى العامل الشّخصيّ الخاصّ بالمَلَكات والمُمتلَكات المفصّل أعلاه، وإلى عامل توافر الرّعاية المؤسّساتيّة والإمكانيّة المادّيّة للانصراف إلى المعنويّة – أعني التّفرّغ لكتابة الشّعر – تكتمل عناصر المعادلة الثّلاثة الكفيلة بنجاح مشروع شاعر. هذا ومن نافل القول، أيضًا، إنّ عشمنا في مروان مخّول ألّا تصرفه هذه الجماهيريّة الّتي هو لها أهل بلا أدنى ريب – ألّا تصرفه عن الالتفات، أبدًا، إلى تطوير صنعته الشّعريّة، كيفًا وكمًّا.
أرى ما جاء أعلاه – أيّها الأعزّة، لاتّساع الفكرة وضيق العبارة – نواة لحديث أوفى – عمّا قريب – يتناول صيرورة هذا الشّاعر وسيرورته، ضاربًا بقبس من شعره عُرض التّأمّل والنّقد والتّشريح والتّحليل. وحتّى ذلك الحين وبعده كلّنا منتدَبون لحماية ورعاية هذه الظّاهرة الشّعريّة والأدبيّة المروانيّة، الفتيّة البِكْر، اللّافتة والفريدة؛ فشاعر هذه بداياته ما له من نهايات.
عزيز حيفانا العزيزة
لفتني – في ما لفتني – وأنا أرقب أبي، الأستاذ موسى أسعد عودة، وهو يلمّ بعض سنًا من فيض نور عطائه، إذ وسمته العزيزة حيفا عزيزًا على قلبها، قريبًا إلى قدّها العالي فنارًا الرّحب زُنّارًا؛ لما أعطى كلاهما كليهما من فيض جودهما – لفتني ما جاء في كلمة رئيسة اللّجنة لاختيار عزيز حيفا، نائبة والقائمة بأعمال رئيس البلديّة، “عميد/بريـﭽـادير الاحتياط” – يا لَلمفارقة يا رفاق! كم من مفارقة نعيش! – حِدْﭬـا ألْموﭺ (“بهجة مرجان”) إلى عوائل المكرَّمين، ما ترجمَته بتصرّف: “حتّى اليوم، أنتم، فقط، ومن حظي بعطائهم – كنتم على علم بمبارك نشاطهم. أمّا اليوم فنرى جميع أعمالهم الحسنة يراها الجميع”.
لفتني هذا الكلام لقوّة منطقه على الصّعيد العامّ وعمق حقيقته على الصّعيد الخاصّ، حيث كنت ولا أزال، صبيًّا وفتًى وشابًّا وكهلًا، إحدى أرجله – لا رجليه – أبي، إلى مواطن العطاء تلك، إذ أعطى ما أعطى وغرس ما غرس وحفر ما حفر بحروفه لا بألوفه ما هو غير مألوف في قلوب وعقول الألوف من طلّابه ومُريديه، فألّف بما ألّف – ولا يزال ولن يزال – معلّمًا ومربّيًا ومبدعًا ومترجمًا وناشطًا جماهيريًّا – ميدانيًّا.
كما لفتني – كم لفتني – الشّعار الّذي رفعته لجنة الوسام، مقولة لألكسندر ﭼـراهَم بِل، ما ترجمَته بتصرّف: “الإنسان قليل ممّا يولد معه، وكثير ممّا يصنعه من نفسه” أو “الإنسان صغير بما يولد معه، وكبير بما يصنعه من نفسه”. فطوبى لك – أيْ أبي – إذ جمعت بين ذَيْنِك؛ صُنت قليلًا/صغيرًا وُلدت معه وحفظت كثيرًا/كبيرًا صنعته من نفسك، رغم أنْ حُمّلت في شيخوختك ما لا تُطيق ولا نُطيق. هذا وما كان ذاك القليل عندك بقليل أو ما كان ذاك الصّغير لديك بصغير . دربك – إن شاء الله – برْد وسلام، ومشروعك الأبقى إتمام ما لم تحبّره بعدُ يدُ إنسان من ترجمة لمعاني القرآن، صدر منها – حتّى السّاعة – أنموذجان رشيقان، إلى لسان خِراف بني إسرائيل/بيت إسرائيل. وهذا و”إنّ الأبرار لفي نعيم، وإنّ الفجّار لفي جحيم” ولو بعد حين.