جنى المستقبل/ جواد بولس
|جواد بولس| لم يطرأ تغييرٌ لافت على حرم جامعة حيفا. بعد […]
جنى المستقبل/ جواد بولس
|جواد بولس|
لم يطرأ تغييرٌ لافت على حرم جامعة حيفا. بعد أكثر من ثلاثة عقود عدتُ إليها أبًا يصاحب “جناه” في يوم تخرِّجها وحصولها على شهادة البكالوريوس.
بجانبي مَشَت، وعلى الرغم من أنها اعتادت على إخفاء سعادتها بوجود أفراد عائلتها وبعض من صديقاتها المقرّبات، إلّا أنني لمستُ فرحتها المكبوتة في كل بسمة أطلقتها وعيونها التي كانت جميلة بشكل مميَّز في هذا المساء.
كانت كالنحلة: كثيرة الحركة، لا من قلق بل من طبع غالب “وعجقة” ترافق النهايات وأكثر عندما تكون تلك هي البدايات.
كلما خطوتُ خطوة فُتح شباك من ذاكرة تلك الأيام، التي كنا نتردّد فيها على جامعة حيفا كنشطاء في الحركة الطلابية. ما أعجبه من دماغ، لا يمحو شيئًا بل يغلّف الذكرى بأكياس الضباب وهذه تنفكّ وتنقشع إذا لامسها مِبضع الصدفة الحاضرة ورائحة المكان.
لا شيء تغيّر هناك على قمّة الكرمل. مساكن الطلبة تروي وتحفل بقصص الفَراش وبالليالي تضيؤها أقمار لفت على نجومها. وحيفا تروي خليجها حكايات الأمل المفقود، حكايات عرائس ما زالت تنتظر فوارسها بعدما رحلت الجياد!
مبانٍ من الاسمنت تراصّت كمحطة قطار لا تنتهي. أدراج تأخذك إلى أعلى وأعلى وتتركك بلا حول وبلا نفس. وتصرّ أن تذكرك بأنّ لا شيء هناك تغيّر وأنت أنت الذي مضت بك السنون، وبعضها، في زوايا المكان لاصق، يشهد عليك ويسخر: ما عدت ذاك الظبي يرقص كالبرق فالجأ إلى حكمة السلحفاة ودع الظباء تحيا وتكمل الطريق إلى أعلى.
مئات من العائلات رافقت أبناءها. كلهم فرحون، يمشون بوجوه تشعّ غبطة واعتزازًا، فلا وقت لهمٍّ ولا فسحة لسؤال. إنّه الحاضر يتلألأ جنًى لماضٍ مؤرّق ومكلف، فلا بأس لو أرجئ التفكير في غمّ المستقبل إلى حين يزول دفء اللحظة والمشهد.
أحاول أن أشغلهم ببعضٍ ممّا تهافت من ذكرى وذكريات تخثّرت في رأسي ودبَّت فيها حياة. يصغون من باب أدب لا تأديب فأعود إلى ما قالته “جنى” مرارًا: أنتم يا أبي بعيدون عنّا، إنكم موهومون ولا تتواصلون مع ما نعيشه ونخبره، في الجامعات وفي معمعان الحياة. هكذا واجهتني وصُحبها في أكثر من حادثة ومناسبة. هكذا اتهمتني وجيلي. سهمها طُيّر صوب كل من يعمل في “السياسة” و”الشؤون العامة” وما شابهها.
حاولت مرارًا، وما زلت، أن أتحاور “معهم” وفي كلّ جولة أرمى بتحدٍ وبقضية. وبعدها أعي عمق ما تحفره الأيام من هوات تستدعينا لأكثر من أن نمارس أبوة يتيحها فائض “همومنا” الضاغطة أو تشاوف مسكر بأننا نحيط بكلّ علم وشاردة وواردة، خاصة فيما يتعلق بأولادنا وشؤونهم.
أبعد عن ذهني ما كاد ينغِّص بهجة رقص الفراشات حولي وطراوة النسيم الكرمليّ المنعش. مع الحشود جلسنا وسمعنا ما تيسّر من خطابات محاضري الجامعة أتوا فيها على تعداد الانجازات وما بقي من أحلامٍ للمستقبل.
أخمّن أنّ الخريجين أهملوا الإصغاء إليها وهكذا فعلت العائلات التي انتظرت سماع أسماء أبنائها يعتلون المنصّات واستلام شهادة “العرق” المسفوك.
كان المساء جميلًا في حيفا، ولولا رطوبة الجوّ لكان مثاليًا. تحلقنا طاولة لنختم النهاية. وكمن خبر أنّ “مرآة العواقب في يد ذي التجارب” استقدمتُ همّ الصباح وبين كل قهقهة وبسمة بدأت أفكر في البداية وفي غد “جنى” وجيلها. تمنيتُ أن تسألني عن نصيحة أو اثنتين تليقان بالمناسبة وبدور الأب المرشد العام(!)، ولكنها كالنحلة كانت فرحة برحيق النهاية وعطر الكرمل الفوَّاح.
رافقتها بنظري وهو كالسّيف دائمًا، ووددتُ لو تعرف أنني أخشى عليها وأنني “بصير بأعقاب الأمور إذا التوت/ كأنّ لي في اليوم عين على غد”.
إنّها البداية يا “جنى” وأعرف أنه مهما تمنى جيلُنا الوداعة منكم وأن تسكني وجيلك الريح، ستمضون جيلًا يرفع راية المستقبل وهذه لن يرفعها إلّا من قَلِقَ وسَكَنَ على الريح!
(كفرياسيف)