الرؤيا أم الرؤية؟
|جواد بولس| في أكثر من مقال كتبتُه، أشرتُ مُلَمِّحًا إل […]
الرؤيا أم الرؤية؟
|جواد بولس|
في أكثر من مقال كتبتُه، أشرتُ مُلَمِّحًا إلى انعدام الأفق الحقيقي لتحقيق ما تؤمن به حركتان سياسيتان لهما حضورهما ووزنهما على ساحة النشاط السياسي والثقافي والاجتماعي بين الجماهير العربية في إسرائيل، وهما الحركة الإسلامية الشمالية ويتلوها حزب “التجمع”.
يحق لي، ولكثيرين يؤمنون مثلي، أن ندَّعي أن ما جرى في تونس ومصر، ويجري في أوطان عرب أخرى، يستهدف بناء الدولة العلمانية الحديثة، وهي تلك التي تضمن لجميع مواطنيها الحريات الأساسية والعدالة الاجتماعية. دولة تقوم على مبدأ فصل السلطة الدينية عن السلطة السياسية وتُضبط فيها علاقات المواطنين مع الدولة، من جهة، وبينهم وبين بعضهم، من جهة ثانية، على أساس تشريعات وضعية ودساتير تؤسس وتكفل مصالح المجتمع وحريات الأفراد الأساسية ومن ضمنها، طبعًا، حرية العبادة والدين.
إنها دولة ديمقراطية، نسغها الأهم حرية الإنسان وكرامته، ومحركها العقل، الفيصل الأول والأخير في جميع الأمور والمسائل، تسود فيها سلطة القانون وتُصان السلطة من خلال عملية تداول سياسية حرّة.
بهذا المعنى، هي دولة مغايرة/نقيض للدولة الدينية (المبنية على أيّ دين: إسلامية، مسيحية أو يهودية. في حالتنا ولأننا نتكلم عن الدول العربية فسيكون الحديث عن الدولة الإسلامية)، دولة تسود فيها أحكام الشريعة والحكم الإسلامي وتطبق فيها الحدود، وهذا يتم بعد الفوز بالأرض/البلاد واعتلاء سدة السلطة والحكم. وإن كانت هذه مخاضات حاضرة في جميع الأوطان العربية وخاصة الثائرة منها، حيث جهاتها مفتوحة على جميع الاحتمالات، إلّا أنها ذات صلة وقربى وثيقة في حالتنا الفلسطينية الشاملة وكذلك في حالة الجماهير العربية في إسرائيل.
العراك السياسي، وإن اختلفت تجلّياته ووتائره، ينضح بهذه السجالات وأكثر. في مصر وتونس موقف الحركات الإسلامية بات جليًا فهم يعلنونها عالية وصريحة. هدفهم إقامة الدولة الدينية لا الدولة العلمانية المدنية. فهكذا صرَّح نائب المرشد العام للإخوان المسلمين في مصر، الدكتور محمود عزت. أما في فلسطين المحتلة عام ٦٧ فالصراع واقع معاش وإفراز ما زالت شحناته تتفرقع عاصفة مجلجلة تاركة آثارًا وندبًا على مسيرة وكفاح الشعب الفلسطيني.
آمّا عندنا، داخل مجتمعنا العربي في إسرائيل، فقد انحصرت أبعاد ذلك التباين الاستراتيجي والمبدئي في الفضاءات الثقافية والاجتماعية مع انعكاسات سياسية مباشرة في بعض الممارسات والمواقف، كما سأبين لاحقًا.
ففي غياب صراع مباشر على الحكم، وواقع الدولة الإسرائيلية حيث تدين أكثرية سكانها باليهودية، ساد انطباع بأنّ مسألة نظام الحكم فيها ليست ذات صلة وأهمية. الواقع كان مغايرًا واليوم يبان كم كان الواقع مغايرًا، فعندما نقرأ تصريحًا واردًا على لسان الشيخ رائد صلاح يفيدنا بأنّ “المؤسسة الإسرائيلية لن تكون قائمة بعد العام ٢٠٢٠”، لا مفرَّ من عودةٍ إلى مفاصل أساسية تبنى عليها مواقف وبرامج عمل نضالية، وإن بدت هذه الخلافات نظرية وبعيدة إلّا أنها تقف وراء تحديد مواقف الحركة إزاء العديد من القضايا الخاصة بالجماهير العربية في البلاد وأهمها أساليب الكفاح والنضال، عناوينها، شعاراتها وأهدافها القريبة والمؤجلة.
بدايةً أؤكد أنّ للشيخ رائد صلاح ولحركته كامل الحقّ بأن يؤمنوا بما يشاءون وأن يكافحوا من أجل ما يؤمنون به. كفالة هذا الحق تستدعي كفالة حق من يؤمن برأي مغاير، على أن يكون النقاش بين أصحاب المواقف المختلفة والمتباينة موضوعيًا، واضحًا ومحترمًا، لا يرافقه تجريح ولا مزايدة. مثل هذا النقاش مغيّب إلى حدّ بعيد، والغائب الحقيقي هو الصوت الآخر، صوت من يرى ما هو أبعد من تكهن يفضي بزوال إسرائيل بعد أقلّ من عقد، فكما قلنا لهذه الرؤية تداعيات وإسقاطات على الفعل السياسي الحاضر ومعانٍ على مفهوم الدولة التي سنعيش فيها في المستقبل.
للحقيقة، قرأت ما كتب المحامي أيمن عودة، سكرتير الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، يوم 29/4/2011 في موقع الجبهة. نقاش الأخ أيمن جاء بشكل حضاريّ موضوعيّ وواضح. لم يخلُ من رقة ولم يفتقر لحزم، وهو قد أوفى الشيخ رائد ما يستحقه من تقدير على طريقه الكفاحي ومكانته ومدى تأثيره في أوساط واسعة.
وإنّي إذ أوافق على ما قاله أيمن عودة أودّ أن أسجّل بعض الملاحظات وأبغي من وراء ذلك توسيع رقعة النقاش، محاولًا أن ينفذ إلى العمق والجوهر وألّا نحصره فيما نسميه بالمخاسر التكتيكية، وفي طليعتها احتمالات توظيف تصريح الشيخ رائد في مصلحة السياسة الإسرائيلية واستعماله من قبل أبواقها حرابًا تُسلُ وتطلق في وجوهنا.
لن يتوقع أحد أن يسمع من الشيخ رائد حججًا وبراهين تثبت مصادر تكهّنه المذكور ومدى صحتها. وراء ذلك، هكذا أرجّج، ما نشره في الماضي القريب والبعيد مجموعة من الشيوخ الأفاضل معتمدين تفسيرات يؤمنون بها عن علاقة الأعداد بآيات القرآن الكريم. بعضهم أصدر ونشر أنّ هنالك دلائل شبه مؤكدة تؤدي إلى تكهن بزوال دولة إسرائيل في العام ٢٠٢٢. باعتقادي أن الشيخ رائد مطّلع على هذه النظريات وعلى علاقة ومعرفة بأصحابها.
لكنَّ السؤال الأهم يبقى في أيّ دولة سنعيش؟ والقضية أننا سننتظر عقدًا من الزمن لنتبيَّن إن خابت الرؤيا أو تحققت، وإلى حينه ستكون تصريحات الشيخ رائد ومثيلاتها زيوتًا على نار قادة إسرائيل المشتعلة حولنا وتحت أقدامنا
واقعية التكهن بزوال إسرائيل لن تغيِّر ولن تبدِّل، فسواءٌ هو الأمر، إن كانت من باب أمنية أو إيمان أو علم. القضية أنها تملي على حاملها مواقف لها تأثيرها المباشر والهام على واقعنا وعلى مستقبلنا كذلك. فهي بمثابة منظومة متماسكة من المبادئ والمفاهيم تحدد مواقف الحركة في رزمة من القضايا الجوهرية، مثل الاشتراك في انتخابات الكنيست أو عدمه. والشعار السياسي وسقفه ووجوب أو عدم وجوب العمل مع وبين الأكثرية اليهودية. والموقف إزاء من يؤمن بسلطة القانون وتعريف علاقة الفرد بالدولة وبالعكس وغيرها. ذلك لأن من لا يرى واقع الدولة المدنية الحديثة ملزِمًا، ويطمئن إلى أن الدولة الدينية قادمة لا محالة، يؤسِّس فكرَه وممارسته وفقًا لذلك.
واقعية التكهن بزوال إسرائيل قد تغيِّر وتبدِّل، لأنّ حاملها شريك أساسيّ في جميع المؤسسات الهامة لقيادة نضالات ومشاريع جماهيرنا العربية في البلاد. ونتيجة للاختلافات الجوهرية بالمواقف المؤسسة يحاول الجميع التوصل لقواسم مشتركة، طالما جاءت بصيغ توفيقية وغير مجدية، فدوافع ومبادئ الفرقاء قدَّت من معادن غير متجانسة، لا بل متناقضة في أساسياتها، خلطها في أحايين كثيرة، وكما دللت التجربة، لا يؤدي بالضرورة إلى بناءٍ مندمج قويم وثابت.
فكلّ التحية للشيخ رائد لأنه يؤمن بما يؤمن به، ويعمل لما يؤمن به ويدفع لأجله بحريّته أحيانًا وبكثير من الجهد والتضحيات أحايين. وتبقى المسألة عند من يؤمن بغير ذلك ولا يدلي بدلوه.
المخاطر التكتيكية التي أشار إليها الأخ أيمن هامة جدًا، لكنَّ السؤال الأهم يبقى في أيّ دولة سنعيش؟ والقضية أننا سننتظر عقدًا من الزمن لنتبيَّن إن خابت الرؤيا أو تحققت، وإلى حينه ستكون تصريحات الشيخ رائد ومثيلاتها زيوتًا على نار قادة إسرائيل المشتعلة حولنا وتحت أقدامنا.
البعض سيوافقني الرأي وآخرون، ومن ضمنهم “ليبراليون” كثر، لن يوافقوا، ويبقى السؤال من هو الرابح ومن هو الخاسر في الوضع الراهن؟.
حرية التعبير والرأي مكفولة، أمّا حرية البقاء هنا في أرضنا وبلادنا فهي خيارنا ومصيرنا، ففيها سنبقى وللبقاء شروط ومتطلبات أولها الحكمة السياسية والمسؤولية، والعقل هو الفيصل والحكم .