الاغتيال إهمالاً
أعلى المغني أن يموت ليُسمع اسمه في بوق الناعي؟
الاغتيال إهمالاً
|أسامة ملحم|
زائف موت الحقيقيين، ووحدهم الزائفون موتهم حقيقي، وإن افتُرِضَ غير ذاك، كيف؟
“كمداً تموت الحبارى”؛ يكسو سائر الطير بعد حسر ويحلّق، أمّا الحبارى فترى وتموت لعجزها، كمداً.
وكم من حبارى دجّنتِ المؤسسة، أيًّا كانت، أو الأحزاب التي تنتشر كالصحراء على مدى خريطة هذه الأمّة، والتي تدّعي الطلائعية والتقدمية وتهتزّ لمجرد نوس فكرة لم تنطلق من خندقها أو لا تتماشى مع نظرياتها المقدسة أو التي تختلف عن أهداف آرائها أو لأنها أكثر طلائعية أو واقعية أو عقلانية أو إنسانية. والأحزاب من المفترض أن تكون وسائلَ لرفع الإنسان والقيام بالعمل الوطني لا أن تكون أهدافاً بحدّ ذاتها. ولأنها غدت هي الهدف فقد انحرفت عمّا وضعت لتكونه، بل وأخذت على عاتقها مهمة إقامة المحاكم الثورية بحق كل من لا يخضع لقوانينها ولا يلتزم بمبادئها أو مجرد لا ينطوي تحت ألوية منظريها، وصارت تمارس الخصي الفكري والإقصاء الوجودي، فتتبنّى من يقاربها فكراً، أو يدّعي، وتحارب، بأساليب أصولية (لا نقاش بالنظرية) من لم يوافق على كل مواقفها.
هنا تبرز الصبغة الوصائية التي اتّسمت بها هذه “الطلائع”؛ فهي وحدها تقرر حسب دساتير “أكلها الحمار” من هو الوطنيّ والتقدميّ ومن هو المتخاذل والعميل، وتقرر من هو الأديب أو اللا أديب؛ تخلق أدباء وتخنق آخرين، تصنع أشباه كتّاب وتتيح لهم الساحات والمنابر والصفحات والصحف ليملؤوا الدنيا زعيقاً بشعارات تمجّد الأحزاب أو أمراءها، وتنظّر اغترافاً من بحر مواقف تلك الأحزاب. فلا عجب أن ترى اليوم عدو الأمس، وقد مالت به الريح، أو أعفاه تقاعده من التزام تجاه سلطان كان للأمس القريب يطعمه، فتبدّلت الخنادق عليه، أو هو أصابه فيروس الوعي فجأة ولجّت عليه حمّى الوطنية فملأ الدنيا أنيناً وطنياً و”جضّاً” تقدمياً.
وترى صديق الأمس وقد نُصبت مشنقة إقصائه وتجاهله وإهماله، كونه فكّر أنّ بمقدوره أن يفكر منفرداً خارج القطيع، وقد يتّهم بمراودته وعيا غريباً عن “عشبه” فيكون قد أتى خيانة عظمى بحق “عظم الحزب الأزرق” أو “الأحمر” أو حتى “البرتقالي”، فوجب أن يرى عيناً حمراء َ تكون درساً له ولسواه.
وفي الأحزاب تدور رحى المصالح الصغرى، الفردية، وتتشكل الفرق والميليشيات والاستقطابات الفئوية من أجل ضمان المكان العالي المتنفذ والمسيطر على مقدرات الحزب ورقاب رفاقه ومؤسساته ومنجزاته وصحافته وأدبياته، وينفضّ من ينفضّ، نفوراً من معمعةٍ لا عير له فيها ولا نفير، وجعجعةٍ تنظيرية لا طائل منها تخلو من النظرية أصلاً ومن الثوابت الوطنية حتى والإنسانية، وباسمها تمجد سلطان الحزب، الانقلابي أو التوافقي الآتي، ويغدو الهمّ الأكبر “الحفاظ على وحدة الحزب” ولو كان ذلك على حساب وحدة الجماهير التي يدّعي الحزب انتماءه وخدمته لها. ومن منطلقات استرضاء من “زعل” بعد “الثورة” أو إبّانها، يتمّ توزيع المناصب والنياشين والأوسمة وغنائم الحزب في معاركه الداخلية على الأقرب، أو المرجوّ تقريبه أو الحفاظ عليه من منطلق “ينبح معك ولا ينبح عليك” بضرب المصلحة العامة للحزب وجماهيره بعرض وطول حائط بلادة أمرائه وصلافة مواقفهم، فتأخذ هذه الفلول، المسترضاة، استرضاءً لأسيادها، مهمة شطب، أو إعلاء شأن مَن مِن شأنهم أن يهتفوا معها، تلميع وإبداع أسماء جديدة تُضمّ إلى جوقة المصفقين أو المردّدين “سمعاً وطاعةً” ما يراد منهم أن يُسمعوه.
وأمّا الإلغاء فهو البدعة التي يجيدونها، بتهمة وإدانة جاهزتين (هذا مش معنا)، فتوصد صفحات الجرائد دونه ويُغَيّب اسمه من حبرها وربما عاداه رفاقه السابقون حتى في الأمور الشخصية ويكون حاله كحال مرتد عن دين انتسب إليه على عجالة وأراد أن يفهم أمور دينه الجديد فأ ُمر وعليه أن يأتمر وزُجر وعليه أن يزدجر، ولا نقاش في قرارات الهيئات أو هذيانات الرفيق القائد الصائبة دوماً (أو الأصح التي لا يمكن أن تخطئ أبدًا).
الماغوط مثلاً، وهو من أعظم شعراء هذه الأمة، وأخطر رواد شعرها الحديث المعاصر، ذلك الذي لم يضع يده أو أصبعه إلّا على جرح نازٍّ من جراحها، ويحُكّ بمحاريث ثوريته الإنسانية بيوت َ جَرَبها، والذي لم يطمح يوماً بجائزة ٍ أو منصة ٍ، فهو أصلاً لم يتوقع سوى منصة إعدامه، إهمالاً، أو بتبوء منصب والتشمس على الشرفات العالية، راضياً بغرفته المعتمة المنزوية يكتب بحبر روحه عن كلّ ما طالت أجنحة وعيه التي لكم كسروها في أقبية التجاهل والإقصاء، تلك الأقبية التي اختلقتها السلطة والأحزاب المعارضة وشبه المعارضة، على حد سواء، لأنّ انتماءه لم يكن لأيّها، إنما للشعب مباشرة، وبدون واسطة، رافعة تُلَمِعُ الأوسمة الوهمية التي كان من الممكن أن تعلقها، إحداها، على أكتافه، وتظل “تُشّقل” فيه حتى تُمَطّ ُ هامته كالآخرين.
الماغوط، الذي لم يغمط حق قملة في برشٍ مجهول، تؤنس سجيناً منسيّاً هو ذاته كاد يتعرض لإغماط حقه وللنسيان كونه من “ضواحي” الأحزاب، لا من قاطني قصباتها؛ تلك التي تدعي الثورية. ولم يحمل شاعر ثوري مثل ما حمل، اللهم سوى بعض قليل. الماغوط الشاعر الذي تمرّد على الشكل والمضمون والصيغ الجاهزة للاحتجاج، لا على السلطة فحسب والظلم المجتمعي، كان جديراً بهذه الحرب التي مورست ضده، وعلى كل الجبهات، حرب إهماله وإغفال أعماله كونها لم تخرج من القواميس المعدة سلفاً في أقبية التنظير. قصائد الماغوط لا تُغّنى، لا تخضع للحن، لكنها تمسّ شغاف غريزة البقاء بتحديها اللحوح وتحضّ على الكبرياء الإنساني وعلى الوقوف بالصراخ في أذن الحاكم الجائر بل وعلى عَضّها، إذا اقتضت الضرورة.
ومثال الماغوط، لا ريب هناك آلاف الثوار على مدى رمل صحراء الأدب العربي المعاصر، أبوا أن يأكلوا، كالنسور، من جيفها وأن يحلقوا في سماواتها الزائفة، ورفضوا الزحف كفئرانها إلى الجحور اتّقاءً لبساطير جنود السلاطين، بل ظلّوا يلتمعون كالجمرات في رماد المرحلة. هم يعطون الدفء إزاء الجليد الزاحف، وبذرة النار في هشيم السكون المُذلّ. نحن أمّة تغتال روادها بالإهمال.