أنوماليا
|جواد بولس| لم يتملكني شعور مغاير في ذلك اليوم. كما في […]
أنوماليا
|جواد بولس|
لم يتملكني شعور مغاير في ذلك اليوم. كما في كلِّ مرةٍ أقصد فيها محكمة العدل العليا الإسرائيلية، كنت متحفِّزًا، مليئًا بغضب لم تقوَ عليه العادة ولم يشفِهِ التكرار. غضب يلامس المرارة، ينبعث، بعد كلِّ “خسارة”، إرادةَ واعظٍ أهمله الجمع، فبكى عليهم مسترحمًا ولجأ لحقِّه- ذخيرتِه التي لا تنفد.
أقصدها منذ ثلاثة عقود، عندما كانت في المبنى القديم، مجاورة لسجن “المسكوبية” ولقيادة شرطة “أورشليم”. بناية، هكذا تحدِّث القصة، امتلكتها روسيا القيصرية، أعطيت، وما أحاطها من منشآت، لحكومة إسرائيل في صفقة “تجارية” قايضت فيها حكومة الاتحاد السوفياتي -وريثة القيصر- حكومة إسرائيل الفتية، وريثة التاريخ، حجارة مقابل برتقال، جنى فلسطين التي كانت!
أقصدها بعدما انتقلت وتحولت إلى قصر منيف. من حجارة جبال القدس والخليل، أصرّ بانوها أن تُشيَّد. تجاور مبنى الكنيست ورئاسة الحكومة وبنك إسرائيل ومتحفها القومي وغيرها من عقارات أقيمت على أراض موقوفة منذ قرون للكنيسة الأرثوذكسية، أعطيت هي كذلك في صفقة “تأجير” توجع القلوب وتبقي صوت كل صارخ “كبنات الجبال”، على حافة اليأس والدهشة.
هنيئا لك يا إسرائيل، طواحين عدلك أسِّسَت على شذا برتقال يافا، تطحن ولا تعرف حكمة الأجداد عندنا، فهم رحلوا وأكّدوا “مال وقف لا تقرب”! هي الحكمة الباقية لا من استخف بها وهزئ.
عامدًا أثابر على تقديم التماساتي لهذه المحكمة. لا أملاً بجديد يفاجئ تكهني بما سيقضي به ثلاثة من قضاتها، ولا ملتمسًا عدلاً زيّن الاسم وغاب عن قراراتها. ربما يزعجهم إصراري على التوجه إليهم وربما يتركهم هذا في حالة ضيق وتململ. أخاطبهم من علياء لا أخفيها، صوت الضحية غير الذليلة. صوت الضمير والحق الذي يقضّ مضاجع من باسم الضمير والعدل ارتسم قاضيًا.
يحيّرني هذا العناد. ربما يحّيرهم أكثر وربما لبعضهم كان أفضل لو لم تعطَ هذه الصلاحيات لسيدة المحاكم وهي التي كانت ستقضي في مظالم سكان إسرائيل ومؤسسات الدولة. لم يثبتوا المعادلة على الطبيعي والمفروض ففي عام 1967 نصحهم من كان مدّعيًا عسكريًا عامًّا أنه وفي حالة احتلال الدولة لأرض عربية جديدة يتوجب فتح أبواب محكمة العدل العليا لسكان تلك المناطق وعلى الدولة ألّا تعترض بحجة عدم الولاية والصلاحية.
كان هذا مئير شمجار الذي ترأس المحكمة العليا لردح من الزمن ومارس ما تفتق به عقله وخططت له يداه. برَّر شمجار نصيحته تلك بضرورة “تثليم” غضب من سيُحتل من رعايا وزجّه في مسارات تصبّ في باحات وأروقة قصر العدل الإسرائيلي حيث المطافئ مستعدة والغضب الوافد سيكون فرديّا أو فئويا وحيث السّقف سيبقى سقف “القانون النيّر” الإسرائيلي. هذا علاوة على ما ستسجله إسرائيل عند مجموع “الأمم النيرة” في سجّل حسناتها، إذ تتيح لأعدائها أن يتظلموا وينصفوا بما ستدرّه باحة الديمقراطية وسيدة حقوق الإنسان في المنطقة!
هكذا قضيَ وهكذا وقع الفلسطيني في شَرَكٍ لم يحظ منذ يوم الاحتلال الأول ولغايته بدراسة معمَّقة مبدئية، فكان أن انساب المواطن وغاب الحق ونسي الجميع كيف كانت البدايات وما آلت إليه من مخاسر وافرة وربحٍ نادر.
في كل مرة أقصد هذه المحكمة أتذكر هذه المسألة وأصمم أن أدخلها- متحفّزًا غاضبًا، كما قلت. فعلى الأقل وبغياب موقفٍ مبدئي جامع علينا أن نسمع القضاة ما يجب أن يسمعوه، عنوانه واحد: كل قيمة إنسانية أغفلتموها بحق فلسطيني محتل مصيركم أن تغفلوها هنا في إسرائيل. كل قمع وخرق وإجحاف سوّغتموه بذريعة الأمن ومشتقاته، مصيركم تسويغه هنا في مطارحكم وبلداتكم. كل حق لفلسطيني سلب ولم تعيدوه، مصيره آن يسلب من مواطني هذه الدولة. العدل لا يقر ولا يعترف بخط أخضر أو أزرق. العدل قوامه الإنسان، حياته، حريته وكرامته.
إنٌها الحقيقة وإنها التجربة الإنسانية، إنه الواقع الذي ربما يراه بعضهم، فكأني بهم يحسّون بأن ما فعلته بهم سنوات الاحتلال وما فعلوه هم خدمة لهذا الاحتلال، يشرُقُهم كما يشرُق الثقب الأسود كل عابثٍ أو مقترب لفوهته.
هكذا دائمًا وهكذا قبل أيام. بطل الحكاية هذه المرة خليليّ أصيل، في خمسينياته. قوامٌ رشيق، لا من كثرِ دلالٍ وحيطةٍ صحيّة، بل نتاج سنوات قضاها في سجون الاحتلال تركت آثارها على ما نحُل من جسم وأسارير وجهٍ لم يتخلّ عن ابتسامة آسرة. كان القضاة الثلاثة منهمكين في قضية لم أكترث لتفاصيلها فلقد كنت متحفّزًا لمعركتي، معركة الخليلي الباسم اللبق. قمت من مقعدي إلى حيث أجلَسَه حرّاسُه. مد يده وسلّم بحرارةِ حُر. وجهه ضاحك كعاشق على موعد. صوته شجيّ كناي. ساعات بعد الظهر تكون بالعادة رمادية. ثلاثة قضاة متخمون ممّا سمعوا ومرهقون. مرة أخرى أنتصب أمامهم. أحسهم يشعرون بما سأقوله وأكثر بدمائي تندفع كلاما قاسيًا. إنه محمد جمال النتشة، أبو همام، طليق منذ خمسة شهور فقط . قبلها قضى ثمانية أعوام ونصف العام بعد إدانته في محكمة عسكرية بتهم “أمنية” وكونه أحد قادة “حماس” في الضفة المحتلة. ثلاثة أعوام كاملة قضاها في عزل مطبق، منعته إدارة السجن من مقابلة رفاقه في السجن أو غيرهم. بين جدران زنزانته سافر مع أحلامه واستحضر صور أعزائه. لم يقهره ذلُّ الوحدة ولا جنون الحالة. أنهى مدة عقوبته وعاد إلى خليله وأخلائه وأحبابه. استكثروا عليه دمعة فرح وحرية. لم ينهِ دورة الأقارب الوافدين للتهنئة والاطمئنان. اعتقلوه مجددًا وأصدروا أمرًا إداريًا بسجنه لستة شهور جديدة- لا تهمة ولا تحقيق. هي شبهات تكفي لتبرر العسف واللامنطق والظلم. “نشيط كبير في حماس”، هكذا جاءت المقولة والذريعة. قضاة عسكريون قبلوا الذريعة وصادقوا على العبث. لذا نحن هنا أمامكم أيّها العالون فهل من إنصاف وهل من عدل؟
يسمعون الحكاية ووجوههم ترشح ببعضٍ من تعب وكثيرٍ من حيرة وضيق. لا يجيبونني ولا يقاطعوني. يسمعون ويسمعون إلى أن يقاطعني كبيرهم وببسمة تعذر ناقطة من فمه يقول: “سيّد بولس، ما في وسع قاض أن يكتب ويشرح فالموضوع برمته هو بمثابة “أنوماليا” واحدة كبيرة، نحن نفهمك ولكن….” سمعت، أكملت، غضبت، توقعت، فلقد قال وقضى. بعدها غادرت أنا إلى بيتي حيث زوجتي والأولاد وأبو همام مع حرّاسه إلى قسمه في السجن. لم يغادر قبل أن خاطبني وبسمة عريضة تملأ وجهه: “لا عليك أخي فأنا هناك مرتاح، سأعود إلى قسمي ومعي رفاقي، فهذه المرة أنا لست في العزل. حياة أخرى يا رجل، لا تهتم صدّقني شدة وستزول”، قالها واختفى وراء باب القاعة يحرسه من يسهرون على أمن وسلامة الجمهور والمجتمع!
لم أنجح بشرح ما قاله القاضي لأبي همام. “أنوماليا” تعني الشذوذ. تعني الخلل البنيوي في منظومة لها قواعدها. فهي يا عزيزي الباسم الهادئ حالتنا جميعًا. إنه الشذوذ عن الطبيعي والإنساني. إنهم يعرفون أن من يحتل شعبًا آخر لن يعيش إلّا حالة من “الأنوماليا” القاتلة.
(كفرياسيف)