عن المثلية : هل من عودة للامفكّر فيه ؟
فإذا كان” ما بعد الحداثة ” قد أقام شرخا بين المفاهيم وتناسقها وزعزع الثنائيات المتقابلة فإنه سعى أيضا إلى تقويض الميتافيزيقا، وهدم كلّ بديهيّ وخرق النظام والكوسموس ليعيد الاعتبار للـ”كاووس”chaos أي إعادة الاعتبار للمهمّش والمقصيّ ومنه: الجنون والجسد؛ الجسد كطاقة مشحونة وقابلة لأن تكون مصدرا للإبداع، لا يقلّ أهمية وميزة عن العقل .
عن المثلية : هل من عودة للامفكّر فيه ؟
l أسماء البورقادي l
قضيّة المثليّة من القضايا التي أرست حمولة معانيها المكبوتة في بلادنا السعيدة.
هذا المفهوم/ القضية التي يكاد الكلّ يتساءل عن معناها وعن الماهية التي تتحكم في خيوطها وتنسج أغوارها فتفرض كينونتها، رغم ما يسمّى بالقيم المثالية التي تتحكم كآيدلوجيا في البنية الفوقية لمجتمعاتنا؛ هذه الحقيقة أصبحت واقعا ماثلا مثله مثل بقية المفاهيم والموجودات سواء الوهمية أو الواقعية .
ذلك أنّ ما هو واقعيّ عندي ربما كان وهما عند الآخرين. وما نسمّيه واقعا ما هو أحيانا إلا وهم؛ تبنيناه نحن والآخرون فأصبح بقوّة الأمر الواقع طبيعة رمزية اتخذت طابعها المشرعن.
فالمثلية إذن مفهوم مثل المفاهيم الأخرى: الخير والشر والكذب والخيانة وزد عليها كل المتناقضات. وإذا ما حاولنا شرح المفهوم هنا يجب مراعاة الحياد، لا التحكم واتخاذ مواقف معينة تعود لأفكار وخلفيات آيديلوجية ما، فالمعنى الشكليّ للمفهوم سيفيد: اجتماع الشبيهين أو نسختين مشتركتين في نفس الأشياء.
المثلية إذن رديفة للشبيه أو النسخة لكنها تطلق على نفس الجنس وهي غالبا ما تشرح في تجارب الميل الجنسيّ النسويّ بكلمة “السّحاق”.
والسؤال المطروح هو: ما مدى مشروعيتها في بلداننا ؟ هل هي مرض أم عقدة نفسية ناتجة عن الكبت؟ أم هي صفة غير سويّة، إذا ما استعرنا التحليل النفسيّ الفرويديّ؟ وهنا سيجمع الكل ضدّ وجودها ومقتها كظاهرة أو كحقيقة مرفوضة بتعلّة مخالفتها للشريعة أو التقليد أو العرف العامّ.
من البديهي أن نسلّم بحريّة عامّة وبأفعال مسئوولة، فما دام الإنسان مخيّرا فهو يتحمّل كامل مسؤوليته في اتخاذ قراره واختيار مجرى حياته والتحكم فيها، وبالتالي سنسمح هنا لأمور مختلفة وسيفتح الباب على مصراعيه لكلّ التناقضات وكلّ الطابوهات كي تظهر.
ورغم أنّنا في زمن تحكمه قيم الحداثة ـ فإنّ هناك من سيعارض هذه الظاهرة المثلية بدعوى أنّ الحداثة عندنا ليست سوى قشور ـ لكنّ هذا لا يمنع أنّ الحداثة فرضت نفسها وأظهرت فوائدها وهوامشها التي تتّصل بالسلوك الجنسيّ استنادا إلى حريّة الإنسان في التصرّف الحرّ بجسده .
إنّ الخوض في تشعّبات المفهوم وحقيقة معناه، وكيف ظهر قد يغرقنا في ميتافيزيقا لغوية تستحوذ عادة على العقل البشريّ وتبعد كلّ أنواع التعبيرات الأخرى لكن من المهمّ الإشارة إلى دور الجسد في بناء المعرفة .
فإذا كان” ما بعد الحداثة ” قد أقام شرخا بين المفاهيم وتناسقها وزعزع الثنائيات المتقابلة فإنه سعى أيضا إلى تقويض الميتافيزيقا، وهدم كلّ بديهيّ وخرق النظام والكوسموس ليعيد الاعتبار للـ”كاووس”chaos أي إعادة الاعتبار للمهمّش والمقصيّ ومنه: الجنون والجسد؛ الجسد كطاقة مشحونة وقابلة لأن تكون مصدرا للإبداع، لا يقلّ أهمية وميزة عن العقل .
لكن هل يعني هذا فسح الطريق أمام المثلية لتعود أو بالأحرى لتظهر بعدما كانت متستّرة خفيّة.
ثمّة حقيقة في هذا الصدد ليست بالغريبة ولا البعيدة عن التفكير، وهي: أنّ الحنين والرغبة في اكتشاف أغوار وأسرار الأشياء الفريدة والخفية قد يدفع للوقوع في تجربة مثلية، وبهذا قد لا يكون سببها مرضا نفسيا ولا عقدة نفسية ترسّبت بفعل عوامل التنشئة الاجتماعية؛ حقيقة قد تعود لأسباب ربّما كان أصلها صدمات عاطفية مع الجنس الآخر. وبهذا الاعتبار فإنّ بعض أسباب الوقوع في المثلية قد يكون وقوعا غير متعمّد في أغوارها من اجل الاكتشاف الذي ينزاح عن الحياد وعن الدراسة العلمية التي تشترط توفّر معايير محددة.
هكذا فانّ مجرّد الرغبة في الغوص من اجل القبض على الحقيقة قد يكون فخّا للسقوط دون شعور في تجارب مثلية، وبالتالي يصعب إدراك الحالة التي تؤول لها الشخصية، وهذا راجع إلى كون الاكتشاف ولمس الاختلاف ما يخلق فجوة تملأها صدمات ذلك العالم المجهول الذي يجذب المكتشف دون أن يدري.
إذن الاختلاف الواضح وليس الانسجام المثليّ، قد يكون سببا للوقوع في المثلية والتمادي فيها، مما يزيد الأمر حدّة أحيانا، وبذلك يخلق هوّة بين الحقيقة وبين بديل الحقيقة الذي يصبح محلّ الأصل، وبالتالي ربما خلق شرخا في الشخصية يهزّ كيانها وقناعاتها، وقد يتمادى بها الإدمان فتضرب بالقيم والمكتسبات والواقع المعيش عرض الحائط غير مبالية بما يحيط بها من مسئوليات الحياة، متناسية لإرادتها الأولى، ناسية هدفها الذي كانت تبتغيه، لتجد نفسها في خانة ضيقة آلت إليها بدافع غريب مجهول قذف بها في وجود مناقض لما كانت تعرفه.
قد تلتقي كلّ هذه الأسباب وهذه الحقائق في بعض الخيارات الحياتية لبعض الفلاسفة الذين سمحوا لتعبيرات الجسد أن تضع بصمتها في الحياة عبر حيوات جنسية مثلية تأكيدا لحرية الجسد بما يؤكد الكينونة ويحققها.
ومع أنّ منهم من قال بأسبقية الجسد على العقل، واضعين حدا للتقسيمات الوهمية والثنائيات المثالية أرض/سماء، خير/شرّ، سويّ/غير سويّ.
هل يبدو الاختلاف والتناقض دائما صائبين ويحققان سعادة الحياة ؟ هل اختلاف الجسد ومكوناته سبب للإئتلاف بين جسدين ؟ وإذا كانت الأنثى تجد في مثيلتها إشباعا ما، فهل هذا مرفوض؟ وإذا كان كذلك فهل نتبناه بدعوى خرق النظام والعادة والانحراف عن طابور الحياة؟ وبما أنّ الحياة سعي للسعادة ونسيان للشقاء ورغبة في التمتع فهل بالضرورة يجب الخضوع لطابوهات معينة سواء كانت دينية أو اجتماعية أو سياسية؟ … الجسد طاقة حيوية منتجة للمتعة والإبداع وشحنة تعبر عن الحسّ المادّيّ للحياة مما يجعل الهدف منه هو السعي نحو هذه السعادة بلا شروط ولا تحذير من محظور عالم الطابوهات الذي مايزال يقاوم الحداثة ووجودها في بلادنا .
يقول نيتشه “اكتب بدمك تعرف أنّ الدم روح”
فأهمية الجسد — بغضّ النظر عن نوع النصف الثاني ذكرا كان أم أنثى — المثلية ربما كانت إذن إعلانا عن موت العقل وتأبينا له، وإعادة اعتبار لما همّش من الجسد كيفما كان.
“عن الأوان”