الضفة المغيبة لنهر الأردن (2)
ليس خطه وحده الذي سيبقى: سيبقى أثر عضّاته وشمًا على جسدي
الضفة المغيبة لنهر الأردن (2)
|بقلم: أمجد|
حيفا هناك، حيفا هنا…
أبوعلندا، عمان الشرقية، قريتي التي انتميت إلى ذاكرة أرضها بانتمائي لقدسية جسده المنحوت بين أزقة حاراتها…
بينما كنا نحاول الهرب -حيث أصبح الهرب مشهدًا لا نستطيع تغييبه من صفحات أجندتنا- من عيني حارس مسجد أهل الكهف، لنختبئ خلف صخرة تحجب عينيه وواقعنا، لنختلس قبلة من محرمات المكان….
- أتعلم أن حيفا هنا؟
صمت لدقائق، وأطلق العنان لعينيه لتعرياني ولتبحثا عن تفسير بين أساطير الصخور.
- وكيف أتت حيفا الى هنا؟
رحت أستحضر رد محمد حمد الحنيطي على سؤال جلوب باشا: “أنت أردني يا محمد بيك، مالك وللفلسطينيين؟” فأجابه محمد بيك: “يا باشا، أنتم من رسمتم حدود هذه البلاد، قبلكم ما كانت فلسطين ولا الأردن ولا لبنان ولا سوريا. قبلكم كنا نشتري من أسواق دمشق، ونشتي على ساحل المتوسط. يا باشا، دفاعي عن حيفا هو دفاعي عن قريتي أبوعلندا. هاك رتبك، فرتب الثوار أعلى”.
- يا حبيبي، دماء محمد بيك التي روت تراب حيفا، هي ذاتها من تنعش تاريخ المكان.
ثقب في جدار الخزانة…
في غرفتي التي لا أنتمي إلا لجدرانها داخل شقتنا، جلسنا على نفس الكرسي الذي لا يتسع إلا لأحدنا، رحنا نقلب الصور، ويفتح كل منا صفحة من صفحات ماضيه لتنير عتمة مستقبل الآخر.
- حبيبي بدون بوس، لأنو صوتنا مسموع؛ محمد راح يسمعنا.
- ملعون محمد ويوم محمد، وما يسمعنا؟؟
أعادني جوابه لصباح اليوم المنصرم، حين كنا جالسين أنا ومحمد نشرب قهوة “صباح الخير”:
- محمد بدي أسألك سؤال، إذا اكتشفت إنو شب من صحابنا هومو، إيش بتكون ردة فعلك؟
أجاب من دون تردد، كأن لسؤالي جوابًا واحدًا لا غير:
- أول شي ببعد عنو، بعدين بفضحو!
وما يسمعنا؟ صح وما يسمعنا، إتبعني حياتي.
نتوجه لغرفة محمد الموشحة بالمربعات الخضراء حيث تتوسط كلمة بيضاء كل مربع “الله أكبر”، لتعلن أسلمة المكان، ومحاربة كل ما لا ينطق باسم هذا الخطاب.
- محمد بدي أحكيلك إشي…
أقف ساكنا متردّدًا عاجزا لدقائق، لتعزّز صمتي غريزة محمد الفضولية.
- حبيبي أدخل.
أشدّه بقوة نحوي فور تعديه مجال رؤية محمد، ليلتحم جسدانا، أضع يدي على فخديه وأقوم بتقبيله بعنف.
- محمد إذا ما فهمت… أنا هومو!!
سيبقى عصيًا على النسيان
بعد ليلة مارسنا فيها الجنس، بعدد يفوق ما مارسته خلال عام، نهض عن السرير بعد أن قبّلني، وتوجّه نحو المكتب، كتب هذه الجملة قبل مغادرته: “إذا غاب جسمي في الرمال، فهذا خطي لا يزال!”
لا ليس خطه وحده الذي سيبقى:
سيبقى أثر عضّاته وشمًا على جسدي؛
ستبقى رائحة عطره تفوح لتضيف عبقا خاصا لذاكرة الجدران؛
ستبقى بصماته تطهر ظلمة زوايا الغرفة؛
ستبقى آثار بقع العسل، الذي طلينا به أجسادنا، وقام كل منا بلعق جسد الآخر؛
ستبقى شعيراته المتساقطة تصارع رتابة الوجود؛
سيبقى الفنجان الذي شرب به القهوة فور إستيقاظه؛
سيبقى، ويبقى، ويبقى…
لن يبقى شيء؛ لا شيء سواه، وذكراه، وسائله المنويّ على سريري.
نهر الأردن، المشهد الأبرز
في الحافلة ذات اللوحة البيضاء وجوه متعبة، لكنها فرحة لاقترابها من مسقط رأسها. راح أحدهم يردد:
- آآآخ ما أحلى البلاد، اسا معنا أربع أشهر إجازة، يلعن الأردن مش راح اشتاقلها.
جلست في المقاعد الخلفية بينما كان الضابط الاردني الشاب يدقق في جوازات المسافرين. تسمّرت عيناي في ذلك الشيء المتدفق أسفل الجسر الخشبي.
- بديش أطلع ع بريطانيا أكمل لقب ثاني، بديش إشي، بدي اياك انت وبس، ما تروح خليك بالاردن.
ردّد هذه الكلمات في لقائنا الأخير. كانت عيناه تدمعان. احتضنني بقوة حتى شارفت على الإختناق.
- مش بريطانيا العقبة يا حبيبي، النهر اللي فصل الضفتين وسيفصل قلبينا، وسيحول حبنا إلى فتات كما حول شعبينا هو العقبة.
نعم هو النهر….
ذلك النهر الذي يحتجزني أمام مكتب ضابط المخابرات الأردنية كلما قررت أن أتخطاه.
ذلك النهر الذي جعل أستاذي في الجامعة يفصلني من مادة التربية الوطنية لأنني فلسطيني.
ذلك نفسه صاحب مقولة: “ملوخياتكو وعَ الجسر”.
وهو ذاته الذي حفز الدرك والبلطجية على سفك دماء شباب 24 آذار، “لأنهم فلسطينيون”.
ذلك النهر الذي خلف شهيدين في ساحة الكرامة في الذكرى الثالثة والستين للنكبة، لأنهم يرفضون الوطن البديل، الذي من المفترض أنه بذاته يرفضه.
وهو من أبرز نعراتنا الإقليمية، وأوقف ممارستنا الجنسية ذات مرة، لنبحث هل المنسف أردني أم فلسطيني؟
هو نفس النهر الذي جعلك جسمًا غير مرغوب فيه بين أصدقائي لأنك أردنيّ الأصل.
هو النهر الذي أكره، الذي حوّلني لشخص مدجّن، بمشي الحيط الحيط وبقول يا رب السترة، خوفا من أعين كلاب المخابرات.
نعم هو يا حبيبي، هو وليس غيره…
بينما كان الضابط الشاب يستعد للنزول من الدرج الخلفي، فتحت نافذة الحافلة، نظرت نظرة أخيرة على عدوي أثناء جريانه، وبصقت!