المثلية الجنسية: طقوس التدنيس والتقديس
الموجة الجديدة حملت محاولات لإعادة ممارسات وشعائر سبق أن أقصيت
المثلية الجنسية: طقوس التدنيس والتقديس
|روزا ياسين|
قد تكون الفكرة القائلة بانتقال العالم (ما بعد الحداثي) بقفزة خلفية إلى العصور الوثنية فكرة مثيرة، بل ومحفزة أكثر، قفزة تتجاوز كل عصور السلطات الأحادية المطلقة باتجاه التعدد الذي اكتنفته الوثنية؛ قفزة تجعل من إمكانية تفعيل الطاقات الإنسانية وإعادتها إلى مكانها ضمن قوى الطبيعة المقدسة أمرًا ممكنًا.
هذه الموجة الجديدة حملت معها محاولات متنوّعة لإعادة ممارسات وشعائر وقناعات سبق أن مرت آلاف السنين على إقصائها، بل ومحوها من ذاكرة البشرية، حين اعتبرت الوثنية التمظهر الأكثر حرية والتصاقاً بالطبيعة الأم وصدقاً في الذات الإنسانية.
أحد تلك الميول الإنسانية الكثيرة المقصية كانت المثلية، التي سبق وارتفعت الأصوات الغربية لإعادة النظر في الحكم عليها. ويُعتقد أنّ كلمة أو مصطلح المثلية، “Homsexualite” لم تظهر إلا في العام 1869، فيما ظهرت كلمة “Heterosexualite” (اشتهاء الجنس المغاير) في العام 1890.
يبدو واضحاً أنّ الأمر مقتصر هنا على اللفظة اللغوية، ذلك أن الفكرة التي تعبر عنها قديمة قدم وجود الإنسان، وعبّر عنها بطرق ومصطلحات مختلفة ومغايرة. فلطالما اعتبر الصائبة، مثلاً، الكائن البشريّ بمثابة مسخ للروح، وبما أنّ الروح بدون جنس، حسب اعتقادهم، فبالتالي يصير الكائن ذكراً أو أنثى حسب ملاءَمات التجسيد، أو ربما بحسب الصدفة. ولهذا سيكون مفهوماً للغاية أن يستطيع رجل اشتهاء رجل أو تشتهي امرأةٌ امرأةً أخرى. وكان الأمر يتجلى بشكل أكثر تفسيراً في أثناء وضع من الأوضاع المقدسة، كوضع الكسوف مثلاً الذي كان بالنسبة إليهم شكلاً من أشكال الزواج.
اليوم وفي الولايات المتحدة الأميركية تتمثل الوثنية بشكل خاص في مذهبين كوّنا نفسيهما مجدداً، وذلك بإلقاء الضوء على أسرار الجنس الوثنية، هما: الصابئية والفيرافيريا.
فكرة المثلية ليست فكرة طارئة البتة اجتماعياً، الأمر معروف بناء على قصص قوم لوط وغيرهم تلك التي أتت بها الأديان، مستهجنة معنفة، لتعلّم العبر. لكن الكثير من الاكتشافات الأنثروبولوجية والأركيولوجية، طرحت وجود ما يشبه طقوساً مثلية كانت تقام قبل آلاف السنين في شعائر تنسيب النساء وكذلك في شعائر تنسيب الرجال. ففي العام 1934 كتبت مارغريت موراي، وهي باحثة إنكليزية عملت على نبش شخصية باوبو الميثولوجية/ التاريخية: “من الواضح جداً أنّ اللجوء إلى أشكال باوبو وشيلا كان لجوءًا إلى الجانب الجنسي لطبيعة المرأة. وفي ليجندة باوبو يتحدّد الموقف بوضوح في المتعة والفرح. فالرابط الديني قويّ، سواءً أكان في الوثنية أم في المسيحية، مما يدلّ أنّ شكلاً من أشكال الجنسية المثلية كانت تمارسه النساء كشعيرة دينية”.
الكثير من الاكتشافات الأنثروبولوجية والأركيولوجية، طرحت وجود ما يشبه طقوساً مثلية كانت تقام قبل آلاف السنين في شعائر تنسيب النساء وكذلك في شعائر تنسيب الرجال
يبدو كلام موراي ملتبساً نوعاً ما، لكن ذلك الرأي ربما تثبت أكثر حين نطلع على اكتشاف هام عثر عليه في لوبلاكارد في فرنسا، وهو قطعة طولها 15 سم محفورة في قرن وعل، يعود تاريخها إلى 15000- 13000 ق.م، وهي تجمع بين شكل طولي، على هيئة قضيب، وقاعدة له على شكل فرج. وقد فسر بعض الأنتروبولوجيين، من أمثال روسون ومارشاك، أن رؤوس تلك الأشكال كانت تدخل فعلاً في فروج النساء أو الفتيات في دورة المتنسبات حين البلوغ، وذلك حتى يشاركن صورة الأم المخصبة/ غير العذراء، كما كانت هناك أفعال عشائرية مشابهة عرفت بين الأقاليم الكثيرة لسكان إفريقيا وسكان الهند الأصليين.
لكن على الرغم من أنّ اليونان والرومان لم يعرفوا بالتأكيد لفظة المثلية أُرّخ للواطة الصبيان الإغريقية التي كانت بمثابة طقس تنسيب اجتماعيّ. فعندما يلوط البالغُ الصبيَّ، كما تقتضي الطقوس المقدسة، ينقل إليه الرجولة بالمني، ذلك أنّ الفعل اليوناني الذي يعني “لاط” يُترجم باللاتينية حرفياً بكلمة “ألهَمَ”، حيث يسلّم المحبوب نفسه إلى الملهم/ الرجل الأكبر سناً فيتلقى عنه الصيد والثقافة. بيد أنّ تبادل الأدوار الذي من الممكن أن يفيد معنى العلاقة المثلية الجنسية، حيث يتبادل الشريكان المتعة، لم يكن موجوداً في ذلك النوع من الثنائيات اليونانية المكونة من رجل وصبيّ، فالبغاء الذكوريّ في أثينا، أي المثلية خارج طقوس التنسيب آنفة الذكر، يؤدي إلى فقدان الحقوق المدنية. وإذا بوغت رجل مثلي سلبي وهو يتعاطى السياسة عوقب بالموت لأنه يعد أكثر جلباً للعار من المرأة الزانية التي لا يمكن أن تعاقب بالموت. بمعنى آخر كان لطقس اللواطة معنى وظيفي، كما كان للبغاء المقدس معنى وظيفي كذلك، وهو جعل الطفل يغادر مؤسّسة النساء بتحريره من السلبية الجنسية النسائية، وتحويله بذلك إلى منتج (أب) ومواطن راشد إيجابي محارب وصياد. وكان نمو الشعر هو الحد الفاصل بين السلوكين الجنسيين: المشعرون الفاعلون في قسم الرجال، وكل ما هو أجرد وسلبي في قسم النساء! هذا يعني أن طقس اللواطة في اليونان نشأ بشكل من الأشكال من فكرة التناقض بين المؤسّسة النسائية والمؤسّسة الذكورية، لكن الرومان لم يعرفوا هذا التناقض باعتبارهم لم يعرفوا المؤسّسة النسائية عموماً، بالتالي كانت ممارسات اللواطة المقدسة قد انحسرت حين صار يناط بالذكر قيمة دينية، ولم يعد معنى القضيب مقتصراً على الجنسية بل أضحى رمزاً للرجولة العليا وتجسيداً لفضيلة الرجل.
يخبرنا الكتاب العبراني إنه كان في هيكل يَهوَه المقدس بغايا وبغاة مكرّسون للطقوس الدينية ولخدمة يهوه: الذكور يُسمّون بالعبرانية “قادش” والإناث “قادشاه”، حيث تجلب المتع الجنسية التي يوفرونها للقادمين دخلا للقيام بواجبات الهيكل. وقودشيم أو قادوش قد تعني أيضاً لواطيين كانوا يقومون بالعمل ذاته. وفي طيبة كان هناك فيلق من المحاربين يُسمى “الفيلق المقدس” لأنه يتكون من مجموعة من الأحباب والمحبين، وكان فيلقاً لا يغلب. وقد شرح أفلاطون ذلك بقوله: “الرجل المُحبّ يجد أن ترك الصفوف أو رمي السلاح على مرأى من حبيبه أمر لا يُطاق”. من المفسّر اليوم أن يتم ذمّ الموضوع في الكتاب العبراني وفي الكتب الدينية مجملاً لكن من المفيد معرفة أنّ كلمة “قادش” العبرانية كانت تعني: المقدّس.
في فكرة مشابهة، وعلى سبيل المثال لا الحصر، وجد في كاتدرائية مودينا في إيطاليا تمثال عرف باسم “لا بوتا دي مودينا”، يعود إلى ما قبل القرن الثاني عشر، وهو يصوّر امرأة عارية جالسة متجهّمة الوجه بركبتين منفرجتين عريضاً وثلاثة أشياء تشبه الجيب متدلية منها، أو ربما يتدلى مكان الفرج أعضاء ذكورية. ويعود التمثال، مثله كمثل الصور الثنائية الجنس، إلى عصور أقدم تسبق بكثير ذلك التاريخ، ذلك أنّ مصير الخنثى صار في العصور المسيحية المتأخرة النفي إلى الجحيم حيث تتكاثر وتلد أنواع الشياطين بسمات مذكرة ومؤنثة معاً، حيث أضحى مفهوم الخنثى، مثله مثل أي أمر غير تقليدي، مترابطاً مع مفهوم المثلية المستهجنة المستوجبة للعقاب الإلهي. تمثال لا بوتا دي مودينا كما هو مفهوم الشيلات (وهن الإناث العاريات اللواتي يصورن في الوضعية الأمامية بأيد تشير إلى الأعضاء الجنسية)، اللواتي وجدن في المنحوتات الكنسية في العصور الوسطى، اعتبرهم فئة من الباحثين، بالأخص الذكور منهم، أشكالاً لعرض العورات الأنثوية باعتبارها صوراً غير أخلاقية تحذّر من خطر الإغواء الجنسي الذي يقود إلى الجحيم. لكن مارغريت موراي تكتب عن قطعة فلكلورية أخذتها من تمثال خاص لشيلا موجود في كنيسة وتقول: “كل العرائس كن يلقين نظرة على شكل شيلا وهن في طريقهن إلى الكنيسة للزفاف”. وتبني موراي فرضية، تبناها غيرها من الأنثروبولوجيين، على أن هذه الأشكال ربما تكون استخدمت لتحريض الرغبات الجنسية للعروسين. تنظر إليها العروس فتثار. مما يعني أن هذا الاشتهاء المثلي كان مبرراً في سبيل تفعيل الطاقة الجنسية النسائية التي تعني الخصب وديمومة الحياة.
وكان نمو الشعر هو الحد الفاصل بين السلوكين الجنسيين: المشعرون الفاعلون في قسم الرجال، وكل ما هو أجرد وسلبي في قسم النساء! هذا يعني أن طقس اللواطة في اليونان نشأ بشكل من الأشكال من فكرة التناقض بين المؤسّسة النسائية والمؤسّسة الذكورية
في إنكلترا القرون الوسطى، كما في معظم البلاد الأوروبية آنذاك، كان من الممكن أن يعاقب مرتكب أو مرتكبة المثلية، كما يعاقب مضاجع الحيوانات، كمرتكب جريمة الخيانة العظمى أي بالشنق، وكذلك كان من الممكن أن يعاقب بالحرق أو بالأشغال الشاقة أو بالتغريق. أما اليوم فتتجه الكثير من البلدان الأوروبية للاعتراف بحق المثليين ليس فقط في المتعة والحب والعيش الكريم دون ضغوط اجتماعية بل في الزواج وتبني الأطفال باعتبارهم أفراداً نديين في المجتمع وليسوا “شواذاً” عن “القاعدة”.
تبدو محاولة الإحاطة بتطور النظرة إلى المثلية مجتزأة وغير كافية في مقال كهذا، وليس الأمر في معرض الدفاع عن المثلية لكن في تأكيد على فكرة أن “ما بعد الحداثة” عملت على الانقلاب الخلفي إلى العصور الوثنية، الأمر الذي يبدو بالنسبة للعقليات المتمترسة مبرراً، أو مقبولاً على مضض، على الصعيد اللغوي أو الإبداعي أو حتى السياسي، لكن على الصعيد الاجتماعي، أي عودة الممارسات والشعائر والقناعات الجنسية الوثنية، فهو أمر مرفوض قطعاً ويجابه على الفور بأسلحة غير وثنية بل أحادية مطلقة. وما زالت العقلية العربية تتعامل مع المثلية باعتبارها شذوذاً، وأخصّ هنا المثلية الذكورية، وهو أمر مستهجن مستقبح بالمعنى الاجتماعي، قد يصل حدّ التكفير الديني، وقد يفسر الأمر، إضافة إلى كونه نوعًا من السيطرة والتدخل في كل خصوصيات ومتع الأفراد المسيرين، بأنه شكل من أشكال الاستهجان لجعل الذكر منفعلاً لا فاعلاً.
أما في بعض المجتمعات الغربية الحديثة فتبدو فكرة “تقديس المثلية” قد عادت بشكل مغاير؛ فبعد انحسار السيطرة البطريركية نوعاً ما صارت المثلية لا تمسّ فحولة الذكور، كما هي لدى الشعوب الذكورية، بل تبدو أشبه بغواية تمتصّ المبدعين والمتمرّدين على السلطات الاجتماعية والدينية التقليدية، كما تجذبهم أية فكرة غير تقليدية وغريبة تكسر الخضوع بكافة أشكاله. كبار المبدعين تفاخروا بمثليتهم، كرامبو وجان جينيه وأراغون وغيرهم الكثير، وأعتقد أنّ الكثيرين يعرفون ما الذي فعله مبدع كأراغون بعد وفاة إلسا تريولي، أسطورته الشعرية ورفيقة دربه لمدة أربعين سنة، حين اعترف إلى وسائل الإعلام المختلفة بمثليته الجنسية. حتى أنّ العديد من المفكرين استنتجوا إثر ذلك استنتاجاً مرعباً بأنّ قصائد الحب الرائعة لم يوجهها أراغون إلى إلسا إلا تمويهاً.
إستعنت في هذه المقالة بعدة مقالات وكتب منها:
- الجنس والفزع، باسكال كينيار، ت: روز مخلوف، دار ورد، دمشق 2008
- تحولات باوبو، وينيفريد ميليوس لوبل، ت: حنا عبود، وزارة الثقافة السورية 2008
- العشق الجنسي والمقدس، فيليب كامبي، ت: عبد الهادي عباس، دار الحصاد، دمشق 1992
(عن “الأوان”)
19 أكتوبر 2010
الوثنية لم تكن رحيمة وجميلة، كما يحاول البعض تصويرها. إن معاناتنا من الأديان والتسلط الذكوري، لا يجب أبداً أن ينفينا إلى الجهل والتخلف، إلى حيث كانت تقدم القرابين البشرية في مذابح المعابد لإرضاء الإلهة الأم.