أنا وأنت وSacrifice
آمنت بتفسيرك وقتها واقتنعت بأنّ حبي لك مرض. علمت نفسي أن أكتفي بصداقتك وأنسى حبي الجارف لك
أنا وأنت وSacrifice
|وليد العمراوي|
مند أن فتحت عينيّ على الوجود نزعت الما-ورائيات من وجداني. لم أؤمن بها أبدا مند وقت بعيد جدا. لكن اليوم أجدني مرغما على تصديقها ولو للحظات وساعات لأني اليوم رأيتك بعدما فقدت كل أمل في رؤيتك أو سماع أخبارك. أنت أول من دخل قلبي واستوطنه للأبد. أنت حبي الأول وحبي الأكبر. كنت أسير وأتأمل الشارع وفجأة جلست في ذلك المقهى من دون نية مسبقة. كنت هادئا غير سعيد وغير حزين. كنت بين السرور والحزن أرتشف وحدتي. تقدم مني النادل بابتسامة لطيفة… قهوة خفيفة من فضلك… قلتها وأنا أنظر إلى الشارع أستكشف وجوه المارة علني أجد من يقاسمني تأملي.
وأنا غارق في أفكاري جاء النادل بالقهوة… تفضل… شكرًا… طلبت منه تغيير الموسيقى الشعبية بشيء أفضل. لا أدري لمادا فعلت ذلك- لكنني فعلت. بعد ثوانٍ بدأت موسيقى جديدة هادئة رومانسية تخترق أذني الباردتين… Sacrifice… أغنية جميلة لإلتون جون… رحلت بي فورًا إلى ساحة السويسي. في تلك الليلة من ليالي ماي الخالدة، حيث وقفنا بعشرات الآلاف غير مصدقين بعد أنّ إلتون جون يغني أمامنا… تأففت وحاولت إبعاد كل شيء له علاقة بالمثلية وعالمها عني الآن. أريد فقط أن أتأمل في “لا شيء”؛ أن أتأمل من دون تفكير… أرتشف القهوة وأتلذذ بمذاقها من دون أن أحول نظراتي عن الشارع… تواصلت أغنية Sacrifice… تخلصت من السويسي لأجدني في حضرة ذكرياتك… كأنّ هذه الأغنية الجميلة تصرّ على الرحيل بي إلى الذكريات والتفكير… وبالفعل تأتى لها ما أرادت.
زفرت بتحسر وأنا أشاهد شريط ذكرياتنا في تلك الأمسية المشهودة. كانت حفلة نهاية الدورة الأولى… كانت هذه الأغنية تصدح في سماء المعهد قبل الحفل… حضر جميع من بالمعهد من المدير إلى البواب. وكهاوٍ للفن ولكل ما له علاقة بالفن، كنت ضمن طاقم تأليف أنشطة الحفلة. وكان علي أيضا إلقاء كلمة الافتتاح باسم لجنة الطلبة. ما زلت أتذكر عندما صعدت إلى المنصة. حاولت أن أكون في مستوى الحدث. كنت ألقي الكلمة في الميكروفون وعيناي مصوبتان نحوك وحدك. كنت أحاول إرضاءك أنت فقط لا غير. أما الحضور فلم يكن من أولوياتي تلك اللحظة… عندما انتهيت ركضت إليك وسألتك كعادتي: هل كنت في المستوى؟ ربتّ على كتفي. حدقت فيّ باعتزاز وأجبتني. . لقد كنت رائعا… أحسست بسعادة لا حدود لها. أحسست برغبة في الرقص والبوح والانقضاض على شفتيك الناعمتين. لكنني لم أستطع لأني حينها أدركت أنّ حبنا مستحيل. فأنت كما اعترفت لي حبي لك لا وجود له. إنه مرض وانحراف ومعصية الله. آمنت بتفسيرك وقتها واقتنعت بأنّ حبي لك مرض. علمت نفسي أن أكتفي بصداقتك وأنسى حبي الجارف لك. لا أدري ما الذي أصابك تلك اللحظة. ضممتني بيدك اليمنى ونحن جالسان نتابع فعاليات الحفلة. كان علي أن أعود بسرعة إلى الكواليس لأساعد زملائي في التنسيق. لكنني بقيت جالسا معك ملتحمين في كرسي واحد بسبب الازدحام، وما زالت يدك اليمنى تحيطني بقوة كأنك تخاف أن أهرب منك إلى مكان بعيد.
“أنظر إلى أستاذ الانجليزية”، همست بهده الجملة في أذني. نظرت نحوه قبل أن أهمس بدوري في أذنك: “لماذا ينظر إلينا هكذا”؟ أجبتني بضحكتك الطفولية… لا أعرف… وضمتني يدك اليمنى بقوة أكبر. لم أهتم بتصرفك حينها. كنت صغيرا لا أفهم في الأمور الحميمية. لكنني الآن وأنا أتذكر كل ذلك بفضل هده الأغنية الجميلة. فهمت تصرفك…
“أرجوك أعد الأغنية الأخيرة من جديد”… أوصلت طلبي الغريب هذا للنادل بلطف بالغ وتوسّل كبير. لا أريد الرحيل عن تلك الذكرى بسرعة. طلبت عصير الليمون بعدما انتهيت من القهوة. أعاد النادل مقطع Sacrifice تلبية لطلبي باستياء كبير… ابتسمت في داخلي في صمت… لو تدرك ماذا تعني لي هده الذكرى لما تأففت من طلبي عزيزي النادل. رجعت من جديد إلى ذكراك في خيالي. تلك اللحظة التي ضممتني فيها بقوة وأستاذ الانجليزية ينظر إلينا. الآن فهمت تصرفك حبيبي. كنت تكذب علي عندما طلبت مني أن أنسى حبي لك. كنت تكذب علي وأنت تستشهد بآياتك وأحاديثك وعرش الرحمان. كنت تكذب علي عندما قلت لي إنّ الحب بين رجلين مستحيل. كنت تكذب عندما أفهمتني أنك لم تحبني ولن تحبني أبدًا لأني رجل ولست فتاة. لأنّ تصرفك تلك اللحظة كان بسبب حبك لي. ضممتني بقوة بشكل عفوي وغريزي عندما لاحظت أن الأستاذ ينظر إلينا كأنه يستنكر أن تضمني بتلك الحميمة… فكان ردك أن ضممتني بقوة وحميمية أعمق. الآن وأنا أتذكر كل ذلك تحسرت وتأسفت على حبنا. لو فهمت حينها أنك تحبني أيضًا لما ترددت لحظة في إرغامك على الاستمتاع بحبنا، لكن اعتقدت أنك لا تحب الرجال مثلي واكتفيت بصداقتك. زفرت من جديد تحسرًا على حبنا الضائع.
هممت بإشعال سيجارة تخفف عني نيران الذكرى. في هده اللحظة رأيتك أمامي… مستحيل! قلتها دون وعي. لم أصدق عينيّ. حدقت فيك من جديد. نعم انه أنت بلحمك ودمك. لكنك لم تكن وحدك. استغربت كيف لم أرَ تلك المرأة التي ترافقك. وذلك الطفل الصغير الّذي تحمله في ذراعك وتبتسم له. تجاوزتم مرمى رؤيتي وما زلت في مكاني مشلولا بالصدمة. لم أقوَ على أية حركة. كنت مشدودًا بالمفاجأة و لم أعد إلى واقعي إلا بعد ثوانٍ. أخرجت عشرين درهما وضعتها فوق الطاولة وغادرت المقهى بسرعة من دون أن ألتفت إلى كلام النادل. هرعت في أثرك أنظر اليك من الخلف أنت وتلك المرأة وذلك الطفل. تبعتكم بجسدي والدموع تكاد تفضح ضعفي. كان قلبي يضرب بعنف وكياني يرتعد. توقفت عن المشي عندما توقفتم أمام محل لبيع الملابس. اقتربت من المحل بحذر أتلصّص عليكم. سمعت صوتك الحنون لأول مرة مند سنين. تستفسر البائع عن ثمن شيء ما… أريد هذه لابني… صُعقت بسماع هذه الكلمة. تلقيتها صفعة موجعة أيقظتني من دهشتي وعادت بي إلى الواقع. كان الأمر واضحًا من البداية المرأة هي زوجتك والطفل طفلك. لقد أصبحت أبا وزوجا يا حبيبي وأنا ما زلت غارقا في ذكرى حبك. هنيئًا. لم تتغير كثيرا باستثناء الشارب الذي أضفى عليك وقارا ومنحك عمرا أكبر من عمرك الحقيقي. أردت أن أدخل محل الملابس لأسلم عليك وأفاجئك. أردت تحقيق أمنيتي بالسلام عليك وملامستك بعد كل تلك السنين.
خطوت حتى وصلت إلى مدخل المحل. بقيت واقفا أحدق فيك من ورائك. ابتسمت لطفلك الجميل. نظرت إليّ زوجتك باستغراب كأنها تستفسر لمادا أحدق بكما. أما أنت فكنت منهمكا تتحدث مع البائع. في تلك اللحظة التي استدرت فيها نحوي استدرت أنا بسرعة البرق هاربا من عينيك. ابتعدت عن المحل بخطوات متسارعة هاربا منك. لا أعرف لما فعلت ذلك. لا أعرف هل رأيتني أم لا؟ لا أعرف هل تبعتني. كل ما أعرفه أنني هرولت مبتعدا عنك بسرعة وتوتر. استقليت أول تاكسي صغير وابتعدت عن ذلك المكان هاربا من رؤيتك وملامستك. سألني سائق التاكسي… إلى أين… إلى أبعد نقطة عن هدا المكان… هكذا أجبته وتركته في حيرة… أما أنا فرحلت بخيالي من جديد إلى ما حدث قبل لحظات: لمادا جلست في ذلك المقهى؟… هل هي صدفة أن أستمع لتلك الأغنية لتذكرني بك؟… وكيف ظهرت أمامي بعد كل هذه السنين وأنا أفكر فيك في ذلك المقهى الذي جمعنا أنا وأنت وSacrifice كذكرى ثم ظهرت حقيقة أمام عينيّ؟ أريد الآن فقط أن أومن بأنّ جلوسي في ذلك المقهى لم يكن صدفة. أنّ استماعي لتلك الأغنية لم يكن صدفة. أن ظهورك وأنا أستمع إليها وأعيش ذكراك لم يكن صدفة… أريد أن أصدق بقوة أنّ كل ما حدث اليوم كان مقدّرًا، مصدره قوة ما ورائية مقدسة اسمها الحبّ.
(كاتب وناشط مغربي)