ربيع الخريف… خريف الربيع/ سميح غنادري
|سميح غنادري| من الأجدى بجامعة الدول العربية أن تستبدل […]
ربيع الخريف… خريف الربيع/ سميح غنادري
|سميح غنادري|
من الأجدى بجامعة الدول العربية أن تستبدل اسمها بـِ “جامعة دول الخليج”… وبالأمريكية بدلاً من العربية. أقول هذا على خلفية قراراتها المتسارعة بخصوص سوريا. فجامعة “العجز العربي والموت السريري” التي اتخذت في أحيان نادرة، قرارات لا بأس بها تحت ضغط الشارع العربي ولم تلاحق تنفيذها، يعلو الأدرينالين فجأة في شرايينها المتكلسة وتستيقظ من سباتها لتقصف الأمة العربية بقرارات متتالية بخصوص سوريا، وتنفذها فوراًّ! لكنها لا تنفذ مبادرتها الأولى التي امتازت بالتوازن العقلاني حين نصّت على وقف العنف والصدامات المسلحة من قبل الجميع، وليس فقط على سحب جيش النظام ومعداته من المدن السورية.
ستربتيز الجامعة الخليجية
قبل أن تأخذ مبادرة الجامعة العربية وقتها المعقول، وقبل أن تتم زيارة وفدها لسوريا بهدف تقصي ومعاينة التجاوب معها، تجتمع اللجنة المخوّلة من قبلها بحضور مراقبيْن جديديْن غير عضوين في اللجنة- سعودي وتركي. ويسبق هذا (وكيف لا) اجتماع مع رئيس ما يسمى بـ “المجلس الوطني السوري” برئاسة برهان غليون. وتكون “الجزيرة”، السبّاقة والموجّهة والناطقة (باسم من؟)، قد أتحفتنا حال بث خبر المبادرة الأولى المتوازنة بفيض من أخبار، بل خطابات التوجيه والتحشيد والتحريض، على أن سوريا لن تنفذ المبادرة رغم موافقتها عليها، وبأن المعارضة ترفضها أيضاً وتطالب بتدخل فعال لوقف جريمة النظام، والمطلوب ليس الحوار معه وإنما اسقاطه ومحاكمة واعدام الرئيس. ويتزامن هذا الأمر مع هجوم عنيف (كلاماً وضرباً) من قبل أنصار “المجلس الوطني السوري” المعارض- الإسلاموي الاخونجي والعثماني بغالبية قيادته، على أنصار قوى أخرى من أطياف المعارضة السورية الوطنية أمام مقر الجامعة العربية في القاهرة.
وتتتابع القرارات غير المسبوقة للجامعة فتصبح المبادرة العربية للحوار ولحل الأزمة وتنفيذ الإصلاح المطلوب خطة لفرض العقوبات ولوقف عضوية سوريا في الجامعة، عبوراً بسحب السفراء والمقاطعة التجارية والمالية والحظر الجوي، وصولاً إلى استدعاء التدخل الدولي وعسكرة حراك المعارضة، والعمل على شل الفيتو الروسي- الصيني لفرض العقوبات على سوريا في الأمم المتحدة وتشريع التدخل العسكري في شؤونها.
هذه قرارات لرجعية عربية وامبريالية غربية تنسّقان في ما بينهما وتأتمر أولاهما بأمر الثانية. والقصد منها ليس الانتصار للربيع العربي السوري، وإنما الالتفاف والتآمر عليه. وإذا كان التآمر في مصر وتونس قد جرى وما زال لجعل ربيعهما خريفاً بعد أن انتصرا بإسقاط رئيسيهما، فالتآمر على سوريا قائم لمنع انتصار الربيع المنشود. وهي قرارات لا تقصد حقن دماء المواطنين وإنما تستدعي المزيد منها… وحتى الحرب الأهلية. ولا تهدف إلى إسقاط نظام بشار الأسد الذي يستحق السقوط ، وإنما إسقاط سوريا الوطن. وهي ليست حلاً عربياً للأزمة وإنما رفعا للغطاء العربي عن سوريا ومقدمة استدعاء وشرعنة للتدويل وللتدخل العسكري الغربي، بما فيه العثماني الإسلامي.
لم تشهد الجامعة العربية في تاريخها اتخاذ قرارات كهذه بحق أية دولة عربية عضوة فيها، حتى عندما كانت قيادة هذه الدولة خائنة على رؤوس الأشهاد بحق العروبة والوطن العربي انتماءً وثقافة وتاريخا وجغرافية، ومجرمة سفاحة بحق شعبها. كذلك لم تتخذ مثيله إزاء أي نظام حكم عمل على قتل ووأد الحراك الربيعي لشعبه- في تونس ومصر واليمن وليبيا. بل حرص ملوك وسلاطين وأمراء أنظمة الخليج على إرسال الدبابات والمعونات وحرصت فضائياتهم على التعتيم الإعلامي، لتسهيل وأد الحراك الربيعي في البحرين وعُمان وغيرهما. وأفتى شيوخ الوهابيين بأن التمرد على الحاكم هو فتنة وخروج عن الإسلام، خصوصا في السعودية وسائر دول الخليج وكذلك في الأردن والمغرب المدعوتين للانضمام لاتحاد دول الخليج! أما في اليمن فأمهلوا رئيسه ما يقارب السنة من قمع دموي وقتل لشعبه، وأخرجوه سالما غانما عبر اتفاق القصد منه وأد ثورة الشباب وضمان حكم وَرَثة النظام وأشباههم من أحزاب القبائل.
ولماذا نذهب بعيداً، فلقد خرست هذه الجامعة الثرثارة بحق سوريا، عندما قامت إسرائيل بتسوية احياء في بيروت لبنان بالأرض وهدم جنوبه في عدوان 2006، وهدم أحياء غزة وقتل أهلها واستمرار حصارها في حرب 2008. ولم يقاطعوا يومها، ولا الآن، لا ديبلوماسيا ولا تجارياً حتى إسرائيل. فماذا عدا مما بدا، وعلى شو هذه “المرجلة” ضد سوريا بالذات؟ أم أن الملك المتكلس المتعفّن في الرياض والأمير “الحضاري” المنقلب على حكم أبيه في الدوحة أصبحا “جيفارا” العرب والمسلمين؟ ويظهر أن في قرارهم غير المسبوق ذاك إصراراً على “دعم الثورة والديمقراطية”، بعد تلبيسها العباءة السلفية والإخوانية، في الشام السورية بالذات، وعلى متن الدبابة الأمريكية- الأوروبية- العثمانية (الناتو)، كما دعموها في بغداد الرشيد العراقية عام 2003!
وكانت بعض وسائل الإعلام العربية الحكومية والمستقلة قد نشرت تسريبات وصلتها عن نقاشات حادة جرت داخل غرف الاجتماعات للجامعة، بما فيها اجتماعات مع قيادة وممثلي النظام السوري في دمشق وفي القاهرة. في اجتماع دمشق يقول بشار الأسد لوفد الجامعة: “أرحب بكم كوفد لجامعة الدول العربية لا كمبعوثين من أمريكا”. وحين يتململ رئيس وزراء قطر من هذه الإهانة ويعترض على عنف الجيش إزاء المتظاهرين المحتجين، مشككا بادعاء الأسد بوجود عناصر إرهابية تقوم باعمال مسلحة باسم الإسلام وبهدف تقطيع أواصر الوطن السوري وإقامة دولة إسلامية، وتنسق حراكها مع الغرب وتركيا، يجيبه الرئيس السوري: بل توجد، وإزاء هذا أنا مضطر لاستخدام الجيش، و “أنا أحمي شعبي بالجيش. أما أنت فتدعي حماية شعبك بالقواعد الأمريكية الموجودة على أرضكم”. وحين يناشد السوداني الرئيس السوري “التفاوض مع الغرب لأن التفاوض هو الطريق الأسلم للخروج من الأزمة”، يجيبه: “هذا التفاوض أدى إلى اقتطاع جنوب السودان ورفع الاعلام الإسرائيلية على أرضه”. وكان المندوب السوري في الجامعة قد واجه اتهامات مندوب قطر قائلاً: “أنتم في قطر رأس المطية والتخريب، وليس في سوريا فقط بل في الدول العربية كافة. أنتم عملاء”.
رحم الله مظفر النواب. فقط شعره، ببذاءته، يليق بهكذا حكام عرب ومؤتمرات جامعتهم وقممهم الفاضحة لعوراتهم إلى حد “الستربتيز”- التعري العام. ينزف النواب دما- شعرا: “القدس عروس عروبتكم، فلماذا أدخلتم كل زناة الليل إلى غرفتها؟ ووقفتم وراء الباب تسترقون السمع لصرخات بكارتها… أولاد القحبة لا أستثني منكم أحدا”. و…”قمم قمم، معزا على غنم، جلالة كبش على سموّ نعجة، على حمار في القدم”.
ضد المؤامرة وضد النظام
أستدرك منبهاً بأني لا أقصد في ما أوردته أعلاه الدفاع عن نظام حكم بشار الأسد، ولا التخلي قيد أنمله عن التعاطف مع الحراك الربيعي للمعارضة السورية ومطالبها العادلة كما أوردَتها انتفاضتها منذ عشرة شهور. وكنت قبل شهرين تقريبا قد نشرت مقالاً بعنوان “ظمىء الشرق فيا شام اسكبي…”، لم أبُقِ فيه على موبقة بحق ذاك النظام إلا وذكرتها. وما زلتُ مصراً عليها، وها أنا أكررها، ملخصا إياها بنقاط أربع:
* أولاً، نظام الأسد الابن كنظام الأسد الأب، نظام ديكتاتوري قمعي ودموي. نظام حكم للعائلة الواحدة والحزب والطائفة الواحدة تقريباً ولشلة المقربين المستفيدين. نظام أحال الوطن ومقدراته وثرواته إلى ما أشبه بالملكية الخاصة وداس على حقوق المواطنة المتساوية. واستأثر واستفرد بالسلطة مانعاً تداولها والفصل بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية. وحكم وتحكم من خلال قانون طوارئ (؟!) أصبح عمره أربعين عاماً. وصادر حرية التعبير والإعلام والديمقراطية والتعددية عموما، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا.
صحيح أن النظام انتهج غالبا سياسة خارجية وطنية متبعا نهج الممانعة لا الدوران في فلك “محور الاعتدال” كما خطته السياسة الأمريكية- الأوروبية الغربية للمنطقة. لكن هذا لا يشفع له ولا يبرر سياسته اللاوطنية واللاديمقراطية إزاء الداخل، بل يحدث العكس. لأن مَنْ يصادر مواطنة المواطن وحقه بالعيش بكرامة وبحرية… يسيء للأمرين – لحياة المواطن الكريمة، ولدعمه لنظام بلاده داخلياً، ولفعالية ونجاعة مواقف النظام الوطنية على الصعيد الخارجي، ولثقة المواطنين بها ودعمهم لها.
* ثانياً، “الأمير” بشار ابن “الملك” حافظ ورث حكمه الملكي في…الجمهورية. ووعد هذا المثقف والمتعلم الشاب العصري والعلماني باصلاح جذري للنظام وبقطع دابر التسلط والفساد الاقتصادي والسياسي، وبضمان سيادة سلطة القانون وإطلاق الحريات. وعد دون أن ينفذ ذلك على مدى عشر سنوات من حكمه، بل ازداد الأمر سوءً في عدة مجالات. فتراكمت النقمة عليه واتسعت الهوة بين الحاكم والمحكوم.
* ثالثاً، من الطبيعي أن ينتفض الناس ضد هكذا نظام واصل قمعهم وخان وعوده لهم بالإصلاح. لم يطالب الحراك في البدء باسقاط النظام، وإنما بإصلاحه، وناشد رئيسه أن يقود الإصلاح. فقرر الرئيس أو الشلّة التي تحيط به (حسب اعتقاد الآملين به) اللجوء إلى الحسم الأمني. وكانت هذه خطيئة حياته المميته بعد سلسلة أخطائه على مدى سنوات عشر. وحين “استفاق”، والأصح اضظر، وأخذ يصدر وعود ومراسيم الإصلاح واحداً تلو الآخر، كان قد أصبح الوقت متأخراً. ثم لم ينفذها بحجة احتياجها للوقت…علماً أن بضع ساعات كانت كافية لتغيير الدستور بهدف إجازة توريثه.
* رابعاً، هكذا فقد النظام شرعيته لدى الناس، وأصبح مطلبهم اسقاطه ومحاكمة الرئيس الذي ناشدوه في أمس قريب بالقيام بالإصلاح. لم يكن هذا نتاج مؤامرة خارجية، فما من تآمر على الوطن أشد خطورة من تآمر النظام الوطني على حق المواطن في ملكية وطنه. والتاريخ ليس تاريخ سلسلة مؤامرات، وإن كنا لا ننفي وجود مؤامرات فيه، وحضور تآمر خارجي على سوريا. لكن ليس بالإمكان نجاح المؤامرة الخارجية إذا لم تجد تربة وطنية ودفيئة داخلية تنميّها وتسندها. وصانع هذه التربة – الدفيئة هو النظام الوطني نفسه، لأنه عادى وخان عقده الاجتماعي إزاء المواطنين وحقوقهم الشرعية. وحين تنام نواطير الوطن عن ثعالبها الداخلية وفسادها وقمعها، تلجأ إلى حجة المؤامرة الخارجية لتبرير سباتها وديكتاتوريتها وللطعن بوطنية حركة الإصلاح، بل ولتخوينها.
قد يظهر للبعض وجود تناقض بين تقييمنا أعلاه لنظام الأسد، وتقييمنا السابق لأعلاه بوجود تآمر من قبل “جامعة الخليج العربي…والعثماني…والأمريكي- الأوروبي الغربي”. هذا تناقض شكلي- ميكانيكي، لا ديالكتيكي- جدلي. فمقولته الأولى تدعم وتُكمّل الثانية، والثانية تدعم وتكمّل الأولى. وحل تناقض كهذا لا يكون عن طريق “إما …أو” ولا عن طريق صراع نفي وإلغاء طرف للآخر. لذا ما من تناقض في رفضنا للمؤامرة الخارجية، وفي رفضنا لنهج النظام السوري داخليا في الوقت نفسه.
كذلك مرفوضة بالنسبة للوطنيين الديمقراطيين والتقدميين حجة النظام بأنه يواجه مؤامرة أجنبية جندت لها عملاء داخليين، وهذا منعه من إجراء الإصلاح المطلوب وإلغاء حالة الطوارئ (على مدى عشر سنوات سابقة وعشرة أشهر انتفاضة!). وحتى لو قبل البعض هذه الحجة، يبقى التساؤل: أليس النظام هو الذي بأخطائه وخطاياه زجّ الوطن في هذا المأزق؟
وحين ننتقد ممارسات النظام تجاه شعبه، لا نقف ضد ممانعته ولا نتنكر لوجود مؤامرة خارجية تريد الإطاحة به بسبب سياسة الممانعة – لا لعدم ديمقراطيته. بل نقوم بهذا دفاعا عن حقوق الناس وممانعة النظام في الوقت نفسه، ولصالح نجاعة تصديه للمخطط التآمري. لأنّ النظام الذي “يستعمر” شعبه ويقمع حريته هو الذي يسيء لممانعته وللتصدي والصمود في مواجهة مخططات المؤامرة الخارجية وسعيها “لاستعمار” الوطن ومقدراته. والناس بثورتهم ضد موبقات النظام ينتفضون عمليا ضد “استعمارهم وطنيا”، لا تماهيا مع مخطط استعماري أجنبي.
نظام حكم الأسد آيل إلى السقوط، ولم يعد السؤال هل يسقط، وإنما متى يسقط؟ ولا أقصد بهذا سقوط الوطن السوري وزجّه في حرب أهلية ونجاح التآمر الغربي- العربي الإمبريالي والرجعي، في تمرير مخططه. مع أن هذا الاحتمال أصبح وارداً ومحتملا بعد قرارات جامعة الجليج العربي. وإنما أقصد أنه لم يعد بإمكان نظام الأسد- الأب والابن – أن يستمر بالحكم وفق النهج القديم اياه.
وبعكس الرأي شبه السائد، أعتقد أن انفضاح خطوط التآمر على سوريا الوطن إلى حد العري التام، وتسلط وبروز التيار الإسلاموي- الإخونجي الرجعي على رأس حركة الاحتجاج وانتفاضها، هو الذي أعطى جرعة إحياء جديدة للنظام. فهذه بلاد الشام، ولأهل الشام تاريخ وتراث ونهج قومي علماني ووطني وثقافي حضاري. وهم يرفضون أن يتسلطن عليهم مشايخ يغتصبون الإسلام بعد أن زورّوه ويأتمرون “بالفرنجة” بعد أن اعتمدوهم حليفا قائدا وموجّها… لا استعمارا دخيلاً.
الخصوصية السورية
ما من حراك ربيعي عربي اختلفت المواقف الوطنية العربية بشأنه وبعدالته وبضرورة إسقاطه للنظام الذي يثور ضده، مثلما اختلفت بشأن الحراك الاحتجاجي السوري. وكنت قد رفضت في مقالي السابق بعنوان “ظمئ الشرق…” اعتبار هذا الاختلاف عدائيا بين موقف تقدمي وطني وآخر رجعي مذدنب. ونبهت إلى أن هذا الاختلاف حاصل على الساحة والقاعدة الوطنية ذاتها وحتى الحزبية الواحدة، ماركسية شيوعية كانت أو قومية وطنية.
ومن الطبيعي أن تتعدد وتتمايز المواقف الوطنية إزاء الحراك الاحتجاجي في سوريا وإزاء مطالبه، وخصوصا مطلب إسقاط النظام، بين مؤيد ومتحفظ في تأييده وواقف ما بين البيْنيْن. اللا طبيعي هو جعل الاختلاف خلافا عدائيا، وإدعاء صاحب كل موقف بملكيته للحقيقة المطلقة ولجوئه حتى إلى تسفية وتخوين الموقف الآخر. علما بأن المواقف الثلاثة تعتمد المنطلق الوطني الواحد. فلسنا أمام ثلاثة خطوط مستقيمة ومتوازية لا تلتقي، وإنما أمام ثلاثة أضلاع للمثلث الواحد- القلق وطنيا على حاضر ومستقبل سوريا والمنطقة عموما. لكن على ضوء التطورات وقرارات جامعة الخليج العربي الأخيرة، والإعداد لتدخل عسكري خارجي، والخلاف العميق الحاصل داخل أطياف المعارضة وسيطرة جناح عليها يأتمر بأمر ملوك وسلاطين النفط الخليجي… توجد حاجة لإعادة النظر ولملاءمة الموقف للواقع الجديد، تكتيكيا واستراتيجيا.
لسوريا الوطن والنظام موقع جيو سياسي واستراتيجي خاص. هي ليست مجرد دولة عربية أخرى، وإنما قلب بلاد الشام ومهد العروبة والقومية والثقافة والنهضة والعلمانية، جغرافيا وتاريخا قديما ومعاصرا. فلسطين والأردن خاصرتها، ولبنان إحدى رئتيها، والعراق وتركيا جاراتها، وإيران ليست ببعيدة عنها وتربطها بها علاقات خاصة، وإسرائيل تحاذيها وجولانها محتل. وهي الوحيدة من دول الجوار والمواجهة التي رفضت حتى الآن توقيع اتفاق سلام مهين وغير عادل مع إسرائيل، بكل ما يجرّه هذا من تداعيات على قضايا الشرق الأوسط عموما والمسألة العربية والفلسطينية خصوصا.
ومهما انتقدنا بعض مواقف وممارسات النظام السوري إزاء قضايا الشرق الأوسط، تبقى الحقيقة بأنه صاحب رؤيا استراتيجية متجذرة في تاريخه. رؤيا ترفض الدوران في فلك المخطط الغربي الإمبريالي للمنطقة والتبعية لما يُسمى زوراً بمحْوَر الاعتدال (اقرأ/ي التفريط). هذا ما تكرس عبر عقود في الوطن السوري- نظاما وشعبا. فالسياسة السورية الرسمية ازاء قضايا المنطقة والعالم الخارجي عقبه أمام مخطط الغرب وتساوق الرجعية العربية معها ببناء “شرق أوسط جديد” مطياع يكرّس الهيمنة الأمريكية على المنطقة وأنظمة حكمها ونفطها ومقدراتها.
لذلك، يعني ضرب سوريا توجيه صفعة شبه قاضية للمنطقة ككل، وذلك بعد صعود قوة وتأثير دور الخليج العربي المنغمسة في المخطط الغربي، وبعد تكييل الهرم المصري وجعله قزما، وبعد تحطيم العراق وتمزيقها وجعلها شبه دويلة، عدا عن إخراس الجزائر واستنزاف ليبيا “الثورة”(؟!). سوريا هي البوابة التي إذا ما جرى اختراقها سيسهل عندها تركيع لبنان وتقسيم العراق وضرب إيران وخنق فلسطين أكثر مما هي مخنوقة، وتسعير الصراع السني- الشيعي في المنطقة، والنزاع الطائفي، بما فيه الإسلامي – المسيحي في بلاد الشام. وكل هذا سيتزامن عندها مع خنق المقاومة في لبنان والعراق وفلسطين. ولا تخفى علينا بعض أخطاء وحتى خطايا النظام السوري إزاء لبنان. لكن من يعتقد أنه كان بالإمكان نجاح المقاومة اللبنانية في هزيمة الإستراتيجية الإسرائيلية- الأمريكية بخصوص لبنان وجعله “دويلة” تابعة وتقسيمه طائفيا، دون وجود الظهر السوري ومدده… من الأجدى به أن يعاين الواقع بعيون مفتوحة، لا من خلال منظار العداء المسبق للنظام السوري.
لقد وصل الأمر ببعض المثقفين الوطنيين، الذين لا نتنكر لوطنيتهم، إلى حد إنكارهم لوجود امبريالية. فحسب “الحوار المتمدن” الذي يدعون له: الذي يقرر سياسة الدول اليوم هو مصالحها الاقتصادية، وانتهت الحرب الباردة، وكفى ثرثرة عن السياسة الإمبريالية الأمريكية… التي لم تعد قائمة.
لكن، يا زملاءنا المتمدنين، لا يجوز فصل المصالح الاقتصادية عن السياسة الإمبريالية، فهي التي أوجدتها وقادت إلى استعمار آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية. وصحيح أن وجه وأشكال وأدوات الاستعمار تبدلت بعد الحرب العالمية الأولى والثانية خصوصا. ونعم خرج الاستعمار من الباب، لكن ليعود من الشباك دون احتلال مباشر، وإنما من خلال تحكم صارم باقتصاد ومقدرات وتطلعات الشعوب. وصحيح أن سقوط “المعسكر الاشتراكي” أنهى الحرب الباردة، لكنه لم يقد إلى عالم أفضل وأكثر عدلا، وإنما إلى عالم يتحكم به القطب الواحد وإلى استفراد عقلية ومصالح “الإمبراطورية” الأمريكية به.
وهي إمبراطورية بتابعها- حليفها الأوروبي “الناتوي” (من الناتو)، وبسبب من فائض قوتها العسكرية وعدم وجود قوة لاجمة لها، وبسبب أزمتها الاقتصادية والمالية، أصابها السَعَر في رغبة السيطرة على مصادر الطاقة والمواد الخام والأسواق في العالم. لدرجة أنه عادت لها شهية حتى “الاستعمار المباشر” وشن الحروب والتدخل العسكري في أية بقعة من العالم – وأفغانستان والعراق ليستا مثاليْن يتيميْن، والأمثلة عديدة منذ عقدين ونصف وحتى اليوم.
فهل ستصبح سوريا الوطن مثالاً جديداً للتدخل العسكري الإمبريالي الحديث، أو مسرحاً لإمبريالية ما بعد الحداثة؟ الخطر قائم بعد أن شرعنته جامعة الخليج العربي وتحمست له “الخلافة العثمانية الحديثة”. وكذلك بعد أن نجح الأمر في ليبيا، وبعد أن أصبحت تستدعيه بعض فئات المعارضة السورية. ثم سوريا، كما أسلفنا، بوابة عبور لتمرير المخطط الاستعماري إزاء منطقة الشرق الأوسط الكبير…
هل ندافع بهذا عن النظام السوري؟ لا أبداً، فهو نظام استحق الإسقاط منذ زمان. لانه استعمر شعبه وطنيا، ولأنه لم يحسن شلّ المخطط الاستعماري الغربي ازاء وطنه. لكن نريد سقوطه وإسقاطه على أيدي المعارضة الوطنية الحقة، لا أطياف منها أصبحت تثير التساؤلات والشبهات لدينا إن كانت وطنية حقاً.
[ملاحظة: يتبع الجزء الثاني والأخير من هذا المقال، ومن المفضل قراءة هذا المقال بالارتباط بمقال سابق لي عن سوريا تحت عنوان “ظمئ الشرق فيا شام اسكبي…”]
3 ديسمبر 2011
يعني مين ماسك سوريا اليوم؟ بوتين روسيا (الملاك المتواضع الذي لا مصلحة له) وشاه ايران (المؤمن بالمساواة لكل الاديان وحقوق الانسان).
2 ديسمبر 2011
يا أخي دعك من طريقة التخوين لكل من يعارض النظام اليوم. الهدف الاسمى هو بناء اسس لديموقراطية تمثل الجميع، ولذا الحل هو اعطاء الفرصة للشعب السوري ليقرر، وليس تخوين هذا وذاك حتى يتم استثناء صوتهم من اللعبة السياسية لكل اطياف الشعب.
واذا قرر الشعب انتخاب مجموعة دينية لتحكمه بصورة قمعية اذلاليه كما يفعل النظام الاسدي اليوم، فسوف يثور عليه مجددا.
اعطي الثقة للشعب ولا تنظر اليه باستعلاء.