فجر أم عاصفة؟/ جواد بولس
|جواد بولس| يجب أو لا يجب الذهاب إلى الأمم المتحدة؟ هو […]
فجر أم عاصفة؟/ جواد بولس
|جواد بولس|
يجب أو لا يجب الذهاب إلى الأمم المتحدة؟ هو السؤال وهي القضية.
كل فرد، من ذكر وأنثى، يتعاطى مع هذا الأرق ويفتي بأقطع من قول جهيزة!
لا فرق بين خبير أو متخصص، وبين هاوٍ أو بين عالم أو جهول، فالكل أمسى صاحب بيان ويقين وقادرًا على النطق بالحكم.
مؤيدون ومعارضون على السواء، حججهم بيمينهم واعتدادهم بصحة موقفهم يهزأ عمليًا بما يخبئه الغيب وأكثر بما طوي من ماض وخبئ في أخاديد الذاكرة وسال حسراتٍ ودماءً في جداول الخسارة والمجازفات غير المحسوبة.
لا أبالغ إن قلت إنّها الأنّة ذاتها وإنها ذات الحشرجة، منذ أن تعرى النهار وبانت عورة الواقع، عندما بدأ بيضٌ يخططون لاقتلاع هنود هذه الأرض بالسيف والخديعة والكتاب وما يسّره لهم جهل وجشع وخيانة.
منذ ذلك الزمن الأصفر ونحن بين “زغلول” و”زين”. راجعوا كتب التاريخ وأيامه فستصدمون. كأننا ما زلنا هناك وكأنما القطار ما زال في المحطة الأولى والأماني ورودًا ووعودًا وغيمًا.
من قبل انتداب وخلاله، وقبل كل وفد دولي همّ بزيارة أراضينا أو مجيء لجنة تقص أعلنت أنّها في طريقها إلينا لتعاين وتفحص وتمحّص وتفتي، وقبل كل مؤتمر دعينا إليه في لندن، مرابط خيل أجدادنا وأعمامنا وأخوالنا، أو في باريس أو الشام وغيرها، قبل وخلال وبعد كل تلك اختلفنا كالديكة في حلبات النخاسين والأمراء فأسلنا دماءنا وخنّا وخونّا وأضعنا الفرصة والأرض والدم.
قبل قرار التقسيم وخلاله وبعده لم نصغ إلّا لصوت الحق الأجرد وقعقعة الحماقة فأغفلنا أن نتنازل عن بعض حق لنحظى بالرحمة، فهذه كما يبدو أجمل صفات الله.
متعِبٌ تاريخنا ومحبِط. لا عبرة لنا في ماضٍ شاخص ولا اعتبار من غيب، لن نطأ عتباته إلا بعمل ومقارعة وإصرار. ولأنني أومن بمن يعمل وأنفر من كثير الكلام والشرح، ولأنني مقتنع بأن كل يوم يمضي ولا نقبض فيه على غيمة إن لم نقبض عليها ستمطر على أرض غيرنا، لن أفاجِئ القراء إذ أعلن أنني لن أشارك في هذه “الزفة” ولن أكتب مقالة علمية أقوم بها بتدبيج الكلام كرجل قانون، ولا بتنقيح طعوني ولا بصفّ شروحاتي كي أصل في النهاية إلى موقفي المنمق والمبرر والمسنود إزاء سؤال الأسئلة وقضية القضايا. فأنا أبارك للذاهبين ذهابهم إلى الأمم المتحدة، ولتكن كرّتهم هذه مباركة وناجحة وكاسبة ولتأتِ بفائدة لفلسطين الأرض والإنسان والهوية والمستقبل والدولة.
كُتِب الكثير في هذا الشأن ولا جديد يمكن أن يضاف أو يستحدَث. كثيرون عبّروا عن مخاوفهم من فشل المحاولة، وبعضهم تمادى وعبر عن تشكيكه بنوايا من قرّر وخطّط لها، وفئة صاخبة ضاجة ألمحت لعدم ثقتها بالرئيس أبي مازن “ورجاله” وما إلى ذلك من نوتات أسمعتها أوركسترا فلسطين التاريخية طيلة سني الصراع.
لا جديد ولا مخاوف عندي، فأنا أعتقد أن المحاولة بما ستجيء به من نتائج ستراكم شحنات ووزنًا على إنجازات قضية فلسطين وحقوق شعب فلسطين وأرض فلسطين. وإنني أعتقد أنّ هذه الخطوة هي مدماك آخر يزيد من عزلة إسرائيل ويحاصرها دوليًا وأكثر. كذلك إنّني على قناعة بأنّ الرئيس محمود عبّاس يمثّل مصالح فلسطين وشعب فلسطين بأعلى درجات المسؤولية الوطنية وأنّ كل من حاول ويحاول، بالتلميح أو بالتصريح، التشكيك بوطنيّته لن يتعدى كونه مزايدًا أو مغرضًا أو جاهلًا أو مدفوعًا بسوء.
دفعني لأن أقول ما قلته بهذه الحدة بعض العوامل والأسباب. فأنا لا أعرف الرئيس أبا مازن عن قرب ولم تربطني به علاقات عمل أو غيرها كما كان الوضع زمن الراحل أبي عمّار. لكنني افترضت أنه لو جاءني أبو مازن في ذات صبحٍ وخوّلني جميع صلاحيّاته وأنابني عنه رئيسًا لفلسطين وطلب منّي أن أدير دفة البلاد فما عساني كنت أفعل؟ ما عساني أفعل من أجل أن يعيش شعبي ليس بالحلم والخبز وحدهما! وما عساني أفعل وأنا أعرف ما يخطط لي الأعداء وما يحلم به المدّعون الأصدقاء وما يستطيع فعًلا تقديمه الحلفاء! ما عساني أفعل وأنا أعيش كل لحظة ما يمارسه الاحتلال من اعتداءات وتنكيل وزحف وقضم لأراضي فلسطين وخاصة في القدس العربية المحتلة؟ هذه القدس التي استبيحت وذبحت وشوّهت بالكاد سيتعرّف عليها من يحبّها من بعد وبالقصيدة وبالصلاة فقط! وكذلك أقول ما أقول لأنني تذكّرت ماضينا الشاخص في كل حارة وزاروب وفي أسارير شيوخنا وأمهاتنا. أقول هذا لأنني أعرف أن “الحق لن يضيع” ستبقى مقولة ربما سيتحقق من صحتها أحفادي، لكنني مصرّ أن أحفل وأحتفل أنا بفجر النصر والدولة والكرامة، أو على الأقل أن أحاول أن أقرّب ذلك الفجر لشرفة أحفادي.
أخيرًا أقول إنّني أملك بعضًا من تساؤلات ونقاش وخلاف في وجهات نظر مع الرئيس حول بعض القضايا والمسائل، لكن ليس من أجل هذا لن أقبل “إنابته” لي، فأنا سأشكره على ثقته بي وسأعتذر منه، لأنني ابن الجليل، ما تركته يوم كبّر الواعدون والمرابطون على تخوم الحلم والخديعة، وسأبقى ابن الجليل وفيه مستقبل أولادي وأحفادي.
أتفهم كل من يتخوَّف من مصير مجهول وكل من يحذِّر عن غيرة وفطنة، ولكن أولئك الذين ملّوا وعافوا شيخوختهم أذكرهم بحكمة ذلك الفيلسوف الذي أحالهم إلى بديلها المتاح الوحيد!
لذا سأشكر الرئيس سأتمنى له ولفلسطين ولنا ذهابًا موفقًا ومظفَّرًا ومشرّفًا وإيابًا سالمًا لما تعده الأيام ويخبئه الزمن لنا هناك في المثلث والنقب والجليل ولفلسطين المتأهبة لعناق الفجر والعاصفة.