من نامَ لم يدرِ طالَ الليلُ أم قَصُر/ جواد بولس
“يقول لي القضاة المنهكون من الحقيقة: سقط القطار عن الخريطة واحترقتَ بجمرة الماضي”
من نامَ لم يدرِ طالَ الليلُ أم قَصُر/ جواد بولس
|جواد بولس|
كلمّا أحاول أن أعود إلى “هنا” يغويني الرفاق بـ”هناك”. ربما هي دروب الراشدين ولغز الحكمة في خطبة الديك للصباح والمدى.
واقعنا هنا. فهناك واقع يطرّزه النسّاجون بزبد الكلام وخيوط من عرق ودم. لا مجاز هنا، بل حثٌّ على اجتهاد كدودة القز، وصلاة “للاستصابة” والإبقاء على ما نجا من طريق الحرير “فهنا سقط القطار عن الخريطة عند منتصف الطريق الساحلي” وها هو يوشك أن يضيع في زرقة الحلم ويهوي عن ما تبقى من قصاصات الخريطة ويتعب في تأوّهات اللغة. هنا أوّلًا وهنا آخرًا ولا غضاضة إن عاد الفؤاد إليك يا شام وعاد بي الجناح.
علامَ الاختلاف بيننا؟ أعلى من يحب سوريا أكثر؟ أم من يعادي أمريكا الإمبريالية أكثر؟ علامَ السجال والهتاف وبحة الحناجر؟ أعلى من يذرف دمعًا أحمر على أرواح أبناء سوريا ومصر وليبيا واليمن وآخر دمعه بلور وماء؟!
مهما كتب الرفاق والأصدقاء والأحباء في حبهم لشعب سوريا، ومهما أطالوا الشرح عن امبريالية لا تعرف رحمة ولا تقنع بشبع، ومهما كانت النوايا صافية “كعين الديك” لن يفضي الواقع “المتبركن” إلّا إلى الإبقاء على نظام الأسد ورهطه أو الدمار.
علامَ الاختلاف؟ فأنا ما زلت مصرّا على أنّنا على أبواب عصر وفجر جديدين، ولأنني مقتنع بحركة التاريخ والكون أقول: إنّ ما كان صالحًا ويردد من شعارات ومواقف سياسية كانت تكتسب مفاهيمها بتلقائية وتستوعب بعقل صاغه ذلك الزمن ووعي نما في تلك البساتين والحقول، لم يعد كذلك، فتلك كانت ابنة ثقافة وواقع لعصر أفل. يجب عصرنة اللغة وتهوئة القلاع وتحديث المخازن. عصر اليوم عصر الفرد الإنسان، حريّته وكرامته وحقوقه. الفرد الحر يبني دولة حرة كريمة ممانعة مناضلة. هذه شعارات الميادين لوّنتها دماء من أزهقت وتزهق أرواحهم.
إخوتي، من يقول هكذا لا ترموه بحجارةٍ أمريكية، ولا تشككوا بدموعه ولا تصموها كدموع تماسيح أمازونية. ومن يقول هذا لا يعني أنّه يعادي سوريا الحبيبة ومصر العروبة واليمن السعيد. فكل ما قلناه أننا نشهد زلزالًا مدويّا وعواصف كاسحة، ومن لا يكون ساهرًا جاهزًا لما تعدّه العاصفة من أهوال وبرق قد يتلوه ربيع، ستدوسه حوافر الخيل، وهذه كما خبرناها، مركوبة بخيّالة صحراء تكساس ونيڤادا ومسنودة بفرسان صحاري أبناء يعرب وقحطان.
ما قلناه يا إخوة إنّها ساعة أزفت، وها هو القطار ثانية تزغرد صافراته وتهيئ نهاية الرحيل وتنبئ باخضرار العشب في حنجرة المغني. فهل سنمسك بالرعد ونكون من أبناء نوح؟ ولأقل مجدّدًا – وهل من فائدة ترتجى من التكرار لمن اختمر إيمانه واستوت عجينته – لن يكون خياري إمّا أن أدافع عن نظام قامع فاسد مبني على باطل وإمّا أن أقف إلى جانب زمر من المخربين المأجورين والمرتزقة. فحزب ثوري طلائعي هتف، حتى تعب الهتاف، باسم شعب بلاده وحرية بلاده وكرامة مواطني بلاده ينتظر منه أن يكون خلف المقود وممسكًا بالزمام والبوصلة كقبطان يعرف خبايا الإبحار والسفر، لا سيما، عندما يكون البحر عاتيًا والموج هادرًا وشقيًا. هكذا عقد الأمل على كل حر شريف مضحِّ وعلى كل حزب صاح وغنى “باسم الحرية نضحي بالأرواح”.
لا خلاف، هكذا أعتقد، يا رفاقي على من يجب أن ندعم وعلى من ومتى يتوجب أن نذرف دمعة وأن نطلق شهقة وآخ! ولذا لا أدمع من أجل أسد ونظام داس بحوافره رقاب أبناء شعبه وحالف الشيطان أمريكا عندما كانت تلك مرضعته ومن نهديها استحلب واستسمن، تارة في لبنان وكان أبناء شعبنا الضحايا والقرابين، وأخرى في العراق حين شارك ومغاوير العرب مع من غزاه ودمره وقتل براياه.
لن أخوض مجددًا بلماذا أتمنى أن يزول نظام الأسد ولكنني أتمنى ذلك وأصلّي أن لا يؤول الوضع في سوريا لما آل إليه في العراق وليبيا وما قد يحصل أيضاً في اليمن وغيره، فأنا، كما كتبت وقلت، أصبو إلى قيام أنظمة تضع نهاية لسنيٌ الاستبداد التي سادت وما زالت في هذه الدول ولتكن أنظمة تبني الدولة المدنية الديمقراطية الحرة، دولة القانون والعدالة الاجتماعية والحرية والكرامة لكل مواطنيها.
هكذا أومن وأعرف أن الأسد وأمثاله لا يريدون لمثل هذه الدولة حياة وفرصة، ولهذا سيبقى هو المسؤول الأول عما يجري في سوريا اليوم وسيكون هو المسؤول الأهم والأول إذا تفاقمت الأوضاع وترنحت بين قمع نظامه وحلوله الأمنية ألتي يفرضها من فوهات دباباته وبين ما يعيثه المتآمرون في سوريا ومستقبلها (كما أنّني أعي أن أمريكا تدّعي خشيتها على أهل سوريا وتتباكى على حرّياتهم وهي من كل ذلك براء).
المأساة أن من كان مفترضًا ومؤمّلًا منه تصدّر الساحات ورفع الراية والصوت انكفأ وسار ذنبًا لأسد وذراعًا في جوقة قائمة منذ عقود، مسؤولة عمليًا عن جميع موبقات النظام، والمأساة أكبر أنه عندما أزفت ساعة الفجر والفلاح، غط هؤلاء “الطلائعيون” في نومهم وأصوات شخيرهم “تخفي ثغاء الماعز المبحوح عن نهم الذئاب”، وتكاد تضيع فرصة التاريخ الذي تشهد الأيام على بخله خاصة للغافلين، وبطشه خاصة للمترددين.
للجناة عقاب وقصاص وللفالحين سمن وعسل وناصية الفرح. للنائمين أحلام وصعقة صافرة القطار العابر على المحطة، وللساهرين رجفة القلب المتيّم وغنج الندى على نمش كوزيّ رمان. لكم يا رفاقي يقينكم وأنا سألجأ إلى حدسي يهلل: “وعليك عيني يا دمشق/ فمنك ينهمر الصباح” … أو النواح! فالأمور بخواتيمها والتاريخ لا تحرسه إلّا “عيون عاشق سهرا”.